197

Tasawwuf

التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق

Genres

قوة شخصيته

ولكن من أين عرفنا أن ابن عربي كانت له صبوات في عالم الحس قبل أن تنقل صبواته إلى عالم الروح؟

إن القول بذلك لا يحتاج إلى دليل، فسنرى حين نتكلم عن الحب في باب الأخلاق أن الصوفية جميعا بدءوا معارفهم الوجدانية بالصبوات الحسية ، والتصوف ذاته هو انتقال من حال إلى حال، انتقال من عالم الأرض إلى عالم السماء.

على أن الدليل تحت أيدينا، سطره ابن عربي نفسه في مقدمة شرح ترجمان الأشواق، وإلى القارئ قصة تلك النفس:

وفد ابن عربي على الحجاز وهو في الثامنة والثلاثين، وهي سن محفوفة بالأشواك؛ لأنها صلة بين دنيا الشباب ودنيا الكهول، وكان ابن عربي في ذلك الوقت يقاسي مشقة الانتقال من عهد إلى عهد، فاتصل حبله برجل من أهل العلم في مكة، وكان لذلك الرجل بنية خفيفة الظل، عذبة الحديث، فملكت عليه أقطار روحه، وسارت به في شعاب الهوى العذري فلم يرجع إلا وهو أشلاء من الأسى والحنين.

ولنتركه يصف تلك الفتاة بقلمه الرشيق:

كان لهذا الشيخ (رضي الله عنه) بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالمات، السابحات الزاهدات، شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أتعبت، وإن أفصحت أوضحت، إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه، وأغري بظهر الغرور فامتطاه، ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض؛ لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقة مختومة واسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهمم، سيدة والديها، شريفة ناديها، مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فنمت أعراف المعارف بما تحمله من الرقائق واللطائف، علمها عملها، عليها مسحة ملك وهمة ملك، فراعينا في صحبتها كريم ذاتها، مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد، فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد، بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس ويثير الأنس، من كريم ودها، وقديم عهدها، ولطافة معناها، وطهارة مغناها، إذ هي السؤل والمأمول، والعذراء البتول، فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة، اهتماما بالأمر القديم، وإيثارا لمجلسها الكريم، فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني.

وهذه العبارات صريحة كل الصراحة، وهي تفصح عن تعلقه بتلك الفتاة التي رأى في وجهها وحديثها نعيم السمع والبصر والفؤاد، ولا شك عندنا في نبل ذلك الهوى وطهارته، وبراءته من وضيع الأغراض؛ لأن ابن عربي يتحدث حديث الرجل العفيف، وهو عندنا صادق، ولكن ذلك العفاف هو الدرجة الأولى بين هوى الأرض وهوى السماء، هو بداية العزوف عن المتعة الحسية والإقبال على المتعة الروحية، هو طليعة الإيمان بأن للحب غاية غير نعيم الحواس.

وآية ذلك أن ابن عربي الذي يقول: «فكل اسم أذكره فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني» هو نفسه الذي يستطرد فيقول:

ولم أزد فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية والتنزلات الروحانية والمناسبات العلوية؛ جريا على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى، لعلمها (رضي الله عنها) بما إليه أشير، ولا ينبئك مثل خبير، والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية المتعلقة بالأمور السماوية، آمين. بعزة من لا رب غيره، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

Unknown page