175

Tasawwuf

التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق

Genres

والحق أن الحكم العطائية على جانب عظيم من الوضوح، وما يقوله الرندي ليس إلا بابا من التأدب في فهم كلام القوم. ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن الحكم العطائية فيها غموض، ولكن أي غموض؟ هو الغموض الذي يوصف به كل كلام وصل إلى غاية عالية من البيان.

وأحب أن أشرح هذه النقطة فأقول:

يوجد في الكلام البليغ صور وإشارات تتفاوت في إدراكها العقول، وقد يكون النص البليغ واضحا في لفظه ومعناه، ومع ذلك يظل كالحسن الفائق لا تجتلي فتنه بنظرة ولا نظرتين، وإنما تطالع فيه العين كل يوم بابا جديدا من أبواب الفتون، أو كالبحر تعرف هوله وجلاله، ثم ترى فيه كلما واجهته ضروبا جديدة من الهول والجلال.

وقد يتفق لنا في أحوال كثيرة أن نحمل النصوص معاني لم يردها الكتاب أو الشعراء، فنعد ذلك تفوقا في الفهم، وهو في حقيقة الأمر ضلال مقبول.

والألفاظ في الأصل صور ضئيلة جدا للمعاني، والمعاني أيضا صور ضئيلة جدا للحقائق، والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك، وهل كان الألم على لذعه صورة كاملة للداء؟ وهل كان الدمع على حرارة صورة مقاربة لما يتوجع له القلب، وهل كان تموج البحر على صخبه صورة تامة لما في أحشائه من تقلب وهياج؟ وهل كان التماسك البادي بين أجزاء الوجود صورة واضحة لما فيه من قوات الكهرباء؟

إن الغرور يوهمنا أشياء كثيرة، واللغات بين الناس من أهم أسباب الأوهام فقد ظنناها حددت المعاني كل التحديد، ولو أن ذلك كان صحيحا لارتفعت أسباب الخلاف.

ولكن هل كانت العقبة الوحيدة هي الاختلاف في فهم النصوص؟

لا، لا، فقد يتلاقى الرجلان عند صورة واحدة من المعنى، ثم يختلفان اختلافا شديدا في تصور المعنى الواحد؛ لأنهما يختلفان في صحة الجسم وعافية الروح.

فإذا قلت: إنك تترجم القرآن ترجمة صحيحة فأنت صادق، وإذا قلت إنك لا تترجم إلا ما فهمت فأنت صادق؛ أنت صادق في الأولى لأن القرآن في الأصل جاء لهدايتك فلم يكن له أن يحتجب وينتقب.

وأنت صادق في الثانية؛ لأن القرآن رمز لمعان يختلف في فهمها الناس بفضل ما يختلفون في دقة الفهم وقوة الإدراك.

Unknown page