عند ذلك اعترتني رعدة، سرت في مفاصلي، وسألتني زوجتي: «هل رأيت هوديني يقوم بهذا الدور من قبل؟» فأجبتها صادقا: «لم أره يمثل أدواره من قبل، بل لم أر مثل هذا الدور من قبل، بل لم أسمع به.»
وتوفي والدي لخمسين سنة خلت، وكان محاميا شهيرا، وكنت يومئذ في الثامنة من عمري، وكانت عادتنا أن نقضي إجازتنا في نزل خشبي بسيط في بعض الجبال، إذ أقمت مع أبي وأمي في حجرتين متصلتين، وكان ملازما لفراشه عدة أسابيع، ولكن لم يكن خطر ببالي أنه مريض مرضا خطيرا، وفي ليلة هادئة الريح، كنت مستغرقا في النوم عدة ساعات وإذا بي أصحو على صوت ثلاث طرقات على باب والدي، تملكني الذعر وناديت أمي خلال الباب المفتوح بين الغرفتين: «بالباب طارق يا أماه»، ففتحت أمي الباب المؤدي إلى الردهة من فورها، وكانت هي أيضا قد سمعت هذه الطرقات كما سمعتها الممرضة، ولكنها لم تجد أحدا، ولم أكد أجمع شتات نفسي لأعاود النوم حتى تكررت الطرقات الثلاث ولكن على باب غرفتي، فنفضت والدتي الردهة بنظرها مرة ثانية، ولكنها كانت خالية كما كانت من قبل، أغلقت الباب وجاءت إلي ووقفت إلى جانبي، ولم تكد تفعل ذلك حتى سمعنا للمرة الثالثة ثلاث طرقات على باب غرفة والدتي، فقفزت من فراشي مذعورا وأجلت بصري في الردهة المضاءة وأنا أرتعد، وأنا أقطع في غير شك أو تردد بأن الردهة كانت خالية ليس بها أحد، وإذ أخذت أعود أدراجي سائرا على أطراف أصابعي همست الممرضة وهي جاثية على والدي: «لقد مات مستر ترين.»
إني أعرض الحوادث السالفة في صدق وأمانة، وهي صحيحة من كل وجهة على قدر ما يسمح به قصوري الشخصي كشاهد، وأزعم أنه قد يغتفر لي اعتقادي بأني «روحاني»، أو أن عقلي الباطن - على الأقل - كان على اتصال في تلك الأوقات بعقل آخر، سواء أحيا كان صاحبه أم ميتا، على أني لا أعتقد - وإن كانت جميع العوامل غير معروفة لنا - أن تلك الحوادث لا تقبل التفسير العلمي، وفي غير حاجة إلى اللجوء إلى فرض الإيحاء العقلي أو كشف الحجاب، بل إني مستعد أن أعزو ما تخيلته من طرق على باب غرفة والدي حين حضرته الوفاة على حالة الصبية أو حساسية حادة مرهفة في ذاك الوقت لسماع الأصوات المادية، الطبيعي منها والعارض، ولكن حادث ولهلمينا يعييني تفسيره، غير أن هذا لا يحملني على أن أسارع إلى نتيجة الرأي القائل بأني على اتصال بعوامل خارقة للعادة، بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول: إني أفضل أن أشك في صدق ما أجده، على أن أقبل تفسيرا لا يتفق مع ما أثبتته التجارب الإنسانية واتجاهاتها بوجه عام، بل إني أوثر أن أدعها دون تفسير، على أن أقبلها دليلا على كشف الحجاب.
إن مثل هذه الحوادث تنقصها عناصر أخرى، ولا يمكن الركون إليها، بحيث تعد مقدمات تبنى عليها نتائج خطيرة.
فلسفة «يوج»
«يوج» معناه بالسنسكريتية الاتصال والانضمام ، وهو اسم يطلق في الفلسفة الهندية وديانتها على مذهب خاص، وخلاصة ذلك المذهب وتعليمه - كما هو عند جميع المذاهب الصوفية - الإصرار والتأكيد على أن هناك إمكانا للاتصال المباشر مع الله، وذلك برفع مستوى الإنسان عن مستواه الطبيعي، ومتى ارتفع الإنسان إلى ذلك المستوى نال - عند أصحاب هذا المذهب - النجاة النهائية من جميع أدوار التناسخ، وعلى هذا يشتمل المذهب أساليب وقواعد ونظما وأصولا يرفع التمرين عليها مستوى التمرن.
يتأسس هذا المذهب على الاعتقاد في أن فهم الإنسان عاجز، لا يقدر على أن يدرك الحقيقة إدراكا تاما، لذلك يشبه أصحابه العقل الإنساني بمرآة تنعكس فيها الحقيقة، فوضوح العكس أو غموضه يتوقف في الحقيقة على قسط جودة المرآة وصفائها، كذلك القدر الذي نعرفه نحن من الحقيقة فإنه يتوقف على حالة عقلنا ووسائله أكثر من أن يتوقف على شيء آخر؛ لأن وضوح ذلك القدر من المعرفة وغموضه أو كماله أو نقصه يرجع في الحقيقة إلى تلك الحالة، فالألوان مثلا لا تظهر للأعمى، ولا يسمع الأصم الموسيقى، كما لا يفهم ضعيف العقل الحقائق الفلسفية، مع أن الحقيقة في كل من تلك الأمثلة هي لم تنقص من عدم ظهورها للأعمى، ولا من عدم سمع الأصم ولا من قصور ضعيف العقل عن إدراكها، وعليه فأسلوب المعرفة لدى أصحاب هذا المذهب ليس بخلقي كما هو اكتشافي ولا إنتاجي كما هو إلهامي، لذلك يكون الاكتشاف أو الإلهام عندهم ناقصا إذا وجد الفساد في الآلة أو عرض لها النقص.
1
إن الأغراض الذاتية والعواطف الذاتية والعواطف الخاصة تحول دائما بين آلة العقل وبين الحقيقة الملهمة، فإذا أثرت شخصية الموضوع على طبيعة الآلة أصبح العكس ناقصا، كذلك جهل المشاهد للمشهود يجمع دائما أوهامه حوله؛ لأن ميول المشاهد السائدة تتسلط في تلك الحالة على حقيقة المشهود، فتصوره له تصورا خاطئا، لذلك كان الخطأ لديهم في الحقيقة هو هجوم نقائص الآلة على الحقيقة، وبناء عليه يحتاج الأمر إلى موقف معتدل مجرد عن الشخصية لاكتشاف الحقيقة، فإن ما يرجع إلى الشخصية يعارض الموقف الكاشف للحقيقة بطبعه طابعا غير معتدل، والخروج عن الاعتدال فيه فوت الغاية ومرتع الضلال، فكيف يمكن إذن اتقاء هذا الضلال وصيانة عقولنا من الخيبة؟
يقدم مذهب «يوج» طريقا لذلك، ويرشد به إلى تصفية العقل وتحسين المرآة، والطريق هو الاجتناب عما هو مختص بمكونات الشخصية، فيزف إلى الطالب مناهج يمكن له أن يرتفع بالعمل عليها إلى علو مستحكم الأسباب، تنعدم فيه شخصيته المكونة من عواطفه وهواه، وهو علو تقدر منه ذوات المواهب الخاصة على أن ترى رؤياهم البعيدة الغور رأي العين.
Unknown page