وهو مع المتصوفة يدرسهم ويدرس طريقتهم التي هي تصفية النفس وإرهاف الذوق بالعمل حتى يحصل الحال، فهو يدرس هذا ويعرضه، ويعيب عليهم بعض سلوكهم، ولكنه بعد هذا يأخذ مبادئ السالمية والكرامية ويزيل عنها بعض الغموض ويوسع جنباتها حتى تصبح عند أهل السنة دعامة يمكن أن يقوم عليها صرح العلم في نظرهم، هذا شأنه مع المتصوفة ومسالكهم، أما شأنه مع التصوف فله معه حال بعد أن تتم جنبات الخصام، يعرض خصومته في أعلى صورها عند الفلاسفة وهم صنف من «أصناف الطالبين »، ولكن موقفه معهم وموقفهم معه لم يكن من السهولة واليسر كما كان مع بقية «أصناف الطالبين»، إنما هنا الخصام يتسع اتساعا قويا حتى يكاد يلون أفكار الرجل جميعا، ويستغرق معظم تفكيره، وهذه الفترة الحية من تفكير الغزالي حافز يستغرق الماضي من طرف، فهو ينازع أفلاطون وأرسطو من قبل وينازعه ابن رشد من بعد.
وعندنا أن لهذا الخصام في جملته غرضا واحدا له مظهران: فأما الغرض فهو أن يتزعم الغزالي حركة قوية ضد جملة المذاهب الفلسفية التي قامت في الشرق على أصول يونانية فيكسب بذلك نصرا للدين ويكتب في عداد المصلحين والأبطال المجاهدين، أما أن الغرض أخذ مظهرين، فذلك يبين من أسلوبه في النضال، فمن الناحية الأولى يدرس الغزالي المسائل الرئيسية التي يدور حولها حديث الفلاسفة عادة ويعرضها عرضا علميا رائعا، يدل على دقة الفهم لما يقرأ، وقدرة العرض لما يفهم، فأنت تقرأ في «مقاصد الفلاسفة» فكأنما تطالع لمؤلف في الجيل الحاضر، فهو يعرض المنطقيات والطبيعيات والإلهيات كأحسن ما يكون العرض، ثم هو بعد أن ينتهي من هذا يشرع في تنفيذ الجزء الباقي أو المظهر الثاني لغرضه، وهو مناهضة هؤلاء الفلاسفة بالفعل، فيحاول أن يكشف عن تهافت حجتهم وفساد أدلتهم في كتاب قيم هو «تهافت الفلاسفة»، وطريقته في ذلك لبقة حقا فهو يصطنع لهم ما يصطنع القائد الماهر، فيحمل سلاحا من جنس أسلحتهم «المنطق»، ويحصر موضع النزاع، ويقسم ميدانهم «طبيعيات ورياضيات وإلهيات ومنطقيات، ويضيف في المنقذ السياسة والأخلاق» ويتوزع - إن جازت الاستعارة - هذا الجيش على جناحين وقلب؛ أما الجناحان فهم طائفة الدهريين وطائفة الطبيعيين، وأما القلب فهم طائفة الإلهيين؛ والطائفة الأولى تنكر الله وتزعم أن الوجود موجود بالذات ومن الذات، والطائفة الأخرى لا تجعل للصانع إلا مكانا ضيقا في فلسفتها.
وطائفة القلب مثال - سقراط وأفلاطون وأرسطو - هم شر من سابقيهم؛ لأن موضوعهم هو بالإلهيات وتلك حظ مشترك بين الكفر والإلحاد ليس بالإضافة إليهم وحدهم، بل ويتدرج معهم من تناول هذا الموضوع على طريقتهم، «ففي الإلهيات أكثر أغاليط الفلاسفة» فقد خانوا فيما يزعم طريقتهم البرهانية التي يصطنعونها في المنطق والرياضيات وبنوا معرفتهم في هذا النوع من المعرفة على ضرب من التخمين والظن، فالجيش كله إذا - سواء منهم من في القلب ومن في الجناحين - زنادقة ملاحدة، فيحشد لهم من قلبه عواطف ومن عقله أفكارا ليرد عارمهم عن حوزة الدين، ولكن العواطف لن تفعل في هؤلاء فأصبحوا لا ينفعلون، وهم بهذه الوسيلة لا يرتدون، ولكنه يستفيد من هذا السلاح كشارة تراجع يأمر بها المسلمين أن يرتدوا عن هذا الحصن، حصن الفلسفة، فيحرض المسلمين على مقاطعتها، ويحذرهم ألوانا من التحذير، وينشأ يصور لهم آفاتها في أبشع تصوير، فهي قد تعدو على التوحيد من طريق مباشر أو غير مباشر، ويتدفق الرجل في التخويف والتحذير حتى يبلغ حدا من التصوير شائقا حقا، يقتنع معه هو بتراجع الإسلاميين عن هذا الخطر، فإذا هو اطمأن إلى هذا ونال بسلاح القلب ما أراد اندفع بمفرده كالسيل يقابل أعداء وخصوما لا يعرف طريقة نزالهم وعدتها عامة المسلمين، فينفرد لهم هو واحدا في ميدان العقل فيصاولهم بالمنطق فيبني أدلته على قانون التناقض، ويفسد عليهم رأيهم في قانون السببية، ويأخذهم من طريقة أخرى هي طريقة الإلزام، فيقول: «فألزمهم تارة مذهب المعتزلة وأخرى مذهب الكرامية، ولا أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد.» (التهافت ص13-14).
كما ينهض لرد الإلهيات من طريق لا يقل حصافة عن سابقه، فهو لا يدخل لهم إلا دخول مطالب منكر لا دخول مدع مثبت، وهو يلجأ إلى هذه الطريقة فيما يبدو لغرضين؛ لأن ذلك المبدأ يجري مع أصل من أصول الإسلام، يقول: «البينة على من ادعى»، والغرض الآخر ينكشف فيه وجه الطرافة ذلك أنه - فيما يبدو - يحرص على هذا المبدأ يأخذ منه ستارا يقف من ورائه حذر أن يخوض مع الفلاسفة مسائل قد يعتاص عليه حلها، ومن ناحية أخرى قد يكشف الحديث فيها عن خبرته ومدى معرفته بالفلسفة وخصوصا مسائلها الدقيقة، فلم لا يأتي من أخصر الطرق فيجادلهم في المسائل المعروفة، ويعارض مسائلهم بإشكالات مثلها، ويلزمهم على أصولهم إلزامات لا يقبلها العقل، فيوقفهم منه موقف الإحراج.
وكتاب «تهافت الفلاسفة»، ليس إلا مجالا لهذا النزاع بينه وبين هؤلاء «الملاحدة» ويعيي الرجل الجهد فيتصور أن هذا الجيش قد أكل قلبه الجناحين، ثم بعد أكل هذا القلب بعضه بعضا، ويظهر هذه الصورة وهذا الأمل فحوى هذا النص: «الصنف الثالث: الإلهيون: وهم المتأخرون، منهم: سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس، وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم،
وكفى الله المؤمنين القتال
بتقاتلهم، ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين، ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم، إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزول عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وغيرهما.» (المنقذ 85-86)، وإلى هنا يعيننا الحديث على أن نكشف صورتين يبين بهما مدى تفاعل هذا الجهد العنيف ومبلغ أثره وتأثره في المحيط والوسط وفهم الصور الباقية لحياة الرجل الروحية، وليست هاتان الصورتان إلا الصورة المنطقية للخصومة والصورة النفسية لها.
الصورة المنطقية:
إن النظرة العقلية المتتبعة للذهن الإسلامي في مراحل نموه وترقيه وملاحظة الخصومة في وضعها المتجرد بين الخصم والخصوم وانتقال الخصم في ميادين الخصام، وعلى الأصح ترقيه من مجال إلى مجال فوقه ليظهر أن التطور المنطقي للفهم النوعي للتفكير الإسلامي هو التطور المنطقي للخصومة، وهو أخيرا التطور الفردي للتفكير الغزالي، فالعقلية الإسلامية تقف عند المسلمات في طورها الأول ممثلة في النصوص الدينية من قرآن وحديث، وهي بعد تريد أن تمس العقل من بعيد فيكون لها ذلك على يد فقيه كبير هو أبو حنيفة النعمان الذي فتح بالقياس مسربا يسيل منه الدين إلى العقل حتى يكاد يوازيه عند المتكلمين، ثم بعد يريد الذهن الديني أن يصعد عند متفلسفة الإسلام إلى موضع يكون أو ينبغي أن يكون عنده قواعد اعتقادية مجردة منضبطة بضوابط منطقية، هذا تطور الذهن الإسلامي إلى القرن الخامس الهجري، ويوازي هذا تطور الخصومة، وليست فترات النضال إلا فترات الانتقال من مرحلة إلى مرحلة حتى بلغ النضال مرحلته الأخيرة في النضال الفلسفي، وواضح من إضمار الخصومة للفرد العقلي الفردي أن الغزالي آثر محاذاة هذا العقل المفرد وتلاحقه بالصور والأطوار السابقة، والتي استبقينا عندها الذهن الغزالي في مرحلته هذه عند آخر مراحل للذهن النوعي الإسلامي، والتي استبقينا عندها الغزالي يدرس الفلسفة ويخاصم الفلاسفة ويعرض مشكلاتهم، هذه هي الصورة المنطقية التي تبين بما يوازيها من الصورة النفسية الآتية.
الصورة النفسية:
Unknown page