سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وقد كتب بعض المتأخرين شروحا لهذه القصيدة، أقل ما يقال فيها أنها مزيج من مذاهب الشيعة التي لا ترضى بأقل من أن تقحم عليا في كل شيء حتى في مذهب الحلول ووحدة الوجود. (9) محيي الدين بن عربي
حياته: ولد محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن عربي الحاتمي الطائي في مدينة «المورثية» بالأندلس في سنة 560ه، وفي الثامنة من عمره بعثه أهله إلى إشبيلية فدرس فيها الحديث والفقه حتى تضلع فيهما، وفي سنة 599ه قام برحلات واسعة إلى الشرق فزار مصر .
كان ابن عربي يؤمن بوحدة الوجود وإن كان قد أنفق في سبيل حجبها عن الجماهير مجهودا عظيما دفعه إليه حرصه على الحياة بعد ما أفزعته ذكريات الحلاج ويحيى السهروردي.
غير أنه لم يصعب على الخاصة من القدماء ولا على الباحثين من المحدثين أن يستشفوا هذه الوحدية في كثير من عباراته العلمية وقصائده الأدبية، فمن ذلك مثلا قوله في كتاب «الفتوحات» ما يلي:
ومعلوم ثان هو الحقيقة الكلية التي هي للحق وللعالم لا تتصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقدم، إذ هي في القديم إذا وصف بها قديمة وفي المحدث إذا وصف بها محدثة، فلا تعلم المعلومات قديمها وحديثها حتى تعلم هذه الحقيقة، ولا توجد هذه الحقيقة حتى توجد الأشياء الموصوفة بها، فإن وجد شيء من غير عدم متقدم كوجود الحق وصفاته قيل فيها: موجود قديم لاتصاف الحق بها، وإن وجد شيء عن عدم كوجود ما سوى الله تعالى وهو المحدث الموجود بغيره قيل فيها: محدثة وهي في كل موجود بحقيقتها، فإنها لا تقبل التجزؤ فما فيها كل ولا بعض، ولا يتوصل إلى معرفتها مجردة عن الصورة بدليل ولا برهان، ومن هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحق تعالى، ولم تكن بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم يثبت لنا القدم، وكذلك لتعلم أيضا أن الحقيقة لا تتصف بالتقدم على العالم المعقول، فإن قلت إنها العالم صدقت، أو إنها ليست العالم صدقت، أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم وتتنزه بتنزيه الحق، وإن أردت مثالها حتى تقرب إلى فهمك فانظر في العودية في الخشبة والكرسي والمحبرة والمنبر والتابوت، وكذلك التربيع وأمثاله من الأشكال في كل مربع مثلا من تابوت وبيت وورقة، فالتربيع والعودية يحققانها في كل شخص من هذه الأشخاص، وكذلك الألوان كبياض الثوب والجوهر والكاغد والدهان والدقيق من غير أن تتصف البياضية المعقولة بالانقسام حتى يقال: إن بياض الثوب جزء منها، بل حقيقتها ظهرت في الثوب كما ظهرت في الكاغد، وكذلك العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وجميع الأسماء كلها.
أقام في مدينة قونية زمنا تزوج أثناءه بسيدة أيم، وهي والدة صدر الدين القوني المتنسك المعروف، ثم عاد إلى سوريا فأقام بها حتى توفي فيها في سنة 638ه، ودفن بالقرب من دمشق، وقد هدم بعض المتعصبين قبره، ولكن السلطان سليم حين فتح دمشق أعاد بناء هذا القبر وأسس بالقرب منه مسجدا جميلا.
مؤلفاته: كتب ابن عربي من المؤلفات عددا أدهش الباحثين المستشرقين إلى حد أن حمل أحدهم وهو الأستاذ «كليمان هوار» على أن يقول: إنها لكثرتها لا يحصرها الخيال، وهي في رأيه تبلغ نحو ثلاثمائة مؤلف، وقد نقل الأستاذ «ماسينيون» عن قائمة ابن عربي المعنونة: «فهرس الكتب المصنفة» أن عدد هذه المؤلفات أربعمائة وتسعة وثلاثون كتابا، وقد عثر الأستاذ «بروكلمان» المستشرق الألماني منها على نحو مائة وخمسين كتابا في مكتبات الشرق والغرب، ومن أهم هذه الكتب ما يأتي: (أ) «الفتوحات المكية»، وهو عرض تام لجميع المعارف الصوفية، ودراسة كاملة لمناهجهم وتعاليمهم في خمسمائة وستين فصلا تقع في اثني عشر جزءا، ويحتوي الفصل التاسع والخمسون بعد الخمسمائة منه على مجمل كامل للكتاب كله، وقد كتب الشعراني المتوفى في سنة 973ه/1566م ملخصا هاما لهذا الكتاب، وحين طلب ابن عربي إلى ابن الفارض أن يكتب شرحا لتائيته أجابه بأنه لا يعرف شرحا خيرا من الفتوحات. (ب) «فصوص الحكم»، وقد عرض فيه للرسل الخمسة والعشرين وأهميتهم، وادعى أنه لم يكتب عن أي رسول منهم إلا بعد ظهوره له، وقد أتمه المؤلف في دمشق في سنة 627ه، وطبع مع شرح بالتركية في بولاق في سنة 1252ه، ثم أخذت منه صورة شمسية بالقاهرة مع شرح عبد الرازق القاشاني في سنة 1309 ثم في سنة 1321ه. (ج) «محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار»، وهو مجموعة من النكت والملح والنوادر في الأدب، طبع في القاهرة في سنة 1282 ثم في سنة 1305ه. (د) «مشاهد الأنوار القدسية». (ه) «الأنوار». (و) «إنشاء الدوائر»، وقد عرض فيه مؤلفه لبيان خلق الإنسان في العالم، (ز) «حلية الأبدال». (ح) «كيمياء السعادة». (ط) «الإفاضة» من الفتوى أنواع المعرفة الثلاثة الأساسية وهي معرفة الله، والعالم العقلي، والعالم الحسي. (ي) «ترجمان الأشواق»، وهو مجموعة قصائد صوفية يوهم ظاهرها أنها غزل ووصف لحب مادي، وقد كتب لها شرحا دفع به هذه التهمة التي قد وجهها السطحيون إلى كتابه. (ك) «كتاب الأمر المحكم»، طبع مع ترجمة تركية في الأستانة في سنة 1300ه. (م) «التجليات الإلهية». (ن) «تاج الرسائل ومنهاج الوسائل». (س) «تفسير سورة الضحى». (ع) كتاب الأجوبة على الرسائل «المنصورية». (ف) «أنا القرآن والسبع المثاني»، وهي قصيدة عصماء قد احتوت من الآراء التصوفية والوحدية ما لا يستهان به. (ص) «الرسائل الإلهية»، قد طبع في القاهرة في سنة 1325ه. (ق) «مواضع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم»، طبع في القاهرة في سنة 1325ه. (ر) «كتاب الأخلاق»، طبع في القاهرة بدون تاريخ. وله كذلك من الكتب الفلسفية والتاريخية والأخلاقية ما لو حاولنا الحديث عنه لطال بنا المدى، فآثرنا أن نقف عند هذا القدر، معلنين أن هؤلاء الرجال الأفذاذ كان لهم على الحركة العقلية الشرقية والنهضة الأوربية أثر غير ممكن الجحود. أما وحدة الوجود، فقد عرض ابن عربي في كتابه «فصوص الحكم» لكثير من النظريات الفلسفية، ولكنه لكي يكون في مأمن من مهاجمة المتعصبين قد مزج بتاريخ كل نبي من الأنبياء الذين تناول الكتابة عنهم في هذا السفر شيئا من هذه النظريات، ليضعها تحت حماية ذلك النبي على نحو ما يعبر أحد المستشرقين، فمن ذلك مثلا نظرية صدور العالم التي مزجها بتاريخ آدم فقرر أنه قد وقع فيضان: الأول هو الذي وجدت المادة المستعدة لتقبل الصور ثم أعدها لقبول الحياة الإلهية، والثاني هو الذي أنتج الوجودات الشخصية بإظهار الكائنات التي أريدت بهذا الإعداد، وعن الفيض الأول نتجت الجواهر المعينة أو الكليات واستعداداتها المحددة لها في العلم الإلهي، وعن الثاني نتج التحقق الخارجي لهذه الأشياء ونتائجها المرادة منها.
وعنده أن هذا الفيض هو الحدث الذي به ينتج الفضل الإلهي نور الوجود في كل جوهر يستقبل الكائن دون أن يحصل انفصال بين الصورة المدركة في علم الله والإله نفسه كما تستقبل المرآة صورة الإنسان دون أن ينفصل من هذا الإنسان وجهه المنعكس على المرآة، وإذا، فصدور الخلق عند ابن عربي هو شبيه بانعكاس المعلومات الإلهية على مرآة، وآدم هو عنده رمز لروح العالم أو هو لمعان هذه المرآة؛ إذ إن الله أوجد العالم قبل آدم، ولكنه كان وجودا غير حقيقي، أي إنه كان ظلا محضا أو وجودا عاديا لا روح فيه ولا حياة، كوجود الحمأ الذي صنع منه جسم آدم قبل نفخ الروح فيه، فلما وجد آدم ظهر الوجود الحقيقي للعالم، ومن ذلك يبين أن آدم هو المبدأ النوراني اللطيف الذي أتم الإله به الوجود ومنحه حقيقته، كذلك أيضا أن غاية الإله من إيجاد العالم هي أن يرى فيه جوهره الخاص، وآدم هو المبدأ الروحاني الذي به تحققت هذه الرؤية، فكان بالنسبة إلى الإله كالإنسان للعين.
7
Unknown page