Tasawwuf Thawra Ruhiyya
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
جرت عادة الصوفية مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يقسموا الحياة الصوفية إلى قسمين: حياة المجاهدة وحياة المشاهدة، فيفرقوا بين أعمال الزهد والرياضات والعبادات من جهة، وما ينكشف في الطريق الصوفي من معان وأسرار وإشارات وموارد من جهة أخرى، وقد أطلق المسيحيون في القرون الوسطى على القسم الأول اسم «حياة التطهير»، وعلى الثاني اسم «حياة الإشراق»، وسمى صوفية الإسلام الأول باسم الزهد، والثاني باسم التصوف، وهذه تفرقة قد التزمناها في هذا الكتاب في بعض المواضع تسهيلا للبحث وعرض المسائل، وربط الظواهر الصوفية الإشراقية بالجانب العملي من الحياة الصوفية على نحو ما تربط المسببات بأسبابها، ولكن الحقيقة أن الحياة الصوفية كل لا يتجزأ ولا ينقسم ، ووحدة متصلة لا تخضع لحدود زمانية بحيث يقال إن هذا الجزء متقدم بالزمان على ذلك الجزء، كما أنها لا تخضع لمنطق العقل بحيث يقال إن جانبها العملي بمثابة المقدمات وجانبها الإشراقي بمثابة النتائج. نعم، قد نصف الفوائد الروحية والأحوال النفسية التي يعانيها الصوفي بأنها ثمرات المجاهدة، ولكن الثمرة هنا ليست شيئا منفصلا ولا مستقلا عن الشجرة التي تحملها، بل هي جزء لا يتجزأ منها.
وكما أن الشجرة قد تنمو وتترعرع وتورق ولا تثمر، كذلك السالك في الطريق الصوفي قد يحيى حياة مجاهدة غير موجهة وغير سليمة ولا يظفر بشيء من الحياة الذوقية الكشفية، وبذلك لا تؤدي رياضاته ومجاهداته إلى النتيجة التي يطلبها من تصفية النفس وصدق المعاملة مع الله والخلق؛ ولهذا أوجب الصوفية على المريدين صحبة المشايخ لكي يرشدوهم على التغلب على مصاعب الطريق ويمكنوهم من الترقي في سلم المعراج الروحي.
والصحبة الصوفية شيء أعم من مجرد التلمذة أو الاتباع، وإنما هي من قبل الشيخ تعهد وإرشاد ومراقبة دقيقة ومحاسبة للمريد وتصحيح أوضاع ونقد وتعليم وتبصير بأسرار الحياة الروحية، وهي أيضا محبة وعطف وإشفاق، وأخذ بالصرامة والعنف حيث تجب الصرامة أو العنف، وهي من جانب المريد طاعة وحب وتفويض وفناء في شخصية الشيخ المرشد، وبهذا يستطيع الشيخ أن يوجه الطاقة الروحية الكامنة عند المريد ويخرجها من القوة إلى الفعل على الوجه الذي يحقق لها ثمرتها. يقول الأستاذ أبو علي الدقاق أستاذ القشيري: «الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد ورق ولكنه لا يثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لا يجيء منه شيء.»
1
ويقول أبو يزيد البسطامي: «من لم يكن له أستاذ فأستاذه الشيطان.»
ولا تتهيأ هذه القيادة الروحية إلا لكبار الروحانيين أصحاب البصيرة النافذة والفراسة القوية، الصادقين في إرشادهم، المخلصين لدينهم وأصحابهم، وهؤلاء قلة من الصوفية ظهروا ويظهرون بين حين وآخر، وأسسوا ويؤسسون مدارس في التصوف وإن لم يكن لبعضهم كتب مصنفة. هؤلاء الروحانيون نماذج حية مشعة موحية موجهة عن طريق الإيحاء والإيمان أكثر منها عن طريق التعليم والوعظ، وقد سجل لنا تاريخ التصوف أسماء عدد غير قليل من هؤلاء المشايخ الذين كان لهم أكبر الفضل لا في تكوين المريدين وحسب، بل في تشكيل الحياة الروحية في التصوف الإسلامي: منهم أبو القاسم الجنيد وأبو حفص النيسابوري وأبو علي الدقاق من العصر السابق على ظهور الطرق الصوفية، وعبد القادر الجيلاني وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري من رجال الطرق.
وللصوفية آداب في الطريق تحدد العلاقة بين الشيخ والمريدين وتعين واجبات كل، وقد تختلف هذه الآداب والواجبات باختلاف المشايخ والطرق في مسائل تفصيلية، ولكنها تتفق في الأمور الأساسية الجوهرية التي بدونها يضل السالك الطريق إلى الله.
والواجب الأول على المريد نحو أستاذه الطاعة المطلقة في كل ما يأمر به حتى ولو خيل للمريد أنه مأمور بشيء يخالف ظاهر الشرع. بل لقد بالغ بعض الصوفية فطالبوا بطاعة الشيخ أولا وطاعة الله ثانيا؛ لأن طاعة الله في نظرهم لا تصح إلا إذا وجه إليها الشيخ التوجيه الصحيح، وهم يعتبرون مخالفة المريد لشيخه دليلا على عدم صدق إرادته وعلى فساد حاله.
والواجب الثاني أن يحفظ المريد سره إلا عن شيخه، وأن يبوح له بكل عمل يعمله أو خاطر يخطر بباله. يقول القشيري: «ولو كتم نفسا من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في صحبته.»
2
Unknown page