Tasawwuf Thawra Ruhiyya
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
26
قد نجد أو لا نجد لهذه الظاهرة الغريبة تفسيرا مقبولا يؤيده علم النفس، ولكنها على أية حال لم تكن ظاهرة من ظواهر العقل الواعي الذي نعرفه، فلنسم ما انكشف فيها لقلب ابن الفارض بأي اسم نشاء، أما العرف الصوفي فيسميه علما لدنيا ومعرفة ذوقية وإلهاما وإشراقا وحبا وما أشبه هذه من المصطلحات.
ولم يقف ابن الفارض عند حد التغني بأناشيد الحب الإلهي التي يفيض بها ديوانه، بل وصف كذلك لازما من لوازم ذلك الحب هو النشوة بالخمر الإلهية التي سكرت بها أرواح العاشقين من قبل أن تخلق الخمر، كما وصف الجمال في شتى صوره، ورمز لمحبوبه بما اشتهر من أسماء المعشوقات اللاتي تردد ذكر أسمائهن في الغزل العربي القديم، بل إنه أغرق في هذا إلى حد أن القارئ لديوانه قد يخطئ الحكم فيه - كما أخطأ بعض المستشرقين - فيفسر قصائده تفسيرا ماديا، ومع ذلك فليس من اليسير أن نخضع قصائد ابن الفارض لمقياس نقدي واحد، أو أن ندعي أنها كلها بمثابة واحدة في دلالتها على معاني الحب الإلهي، ولو على سبيل الرمز والإيماء، فإن كثيرا منها قد يصعب صرفه عن معاني الغزل الإنساني العادي إلا بضرب من الجهد في التأويل، ولكن الذي لا شك فيه هو أن قصيدته «التائية الكبرى» التي تبلغ سبعمائة وواحدا وستين بيتا، وقصيدته «الخمرية»، تنفردان دون سائر الديوان بأنهما شعر صوفي خالص يسمو على كل مادية، وأنهما تكفيان في تصوير الحب الإلهي عن ابن الفارض في جميع نواحيه.
ويتفق ابن الفارض مع أمثال الجنيد وأبي يزيد البسطامي في النظر إلى المحبة الإلهية باعتبارها فناء المحب عن نفسه وبقاءه بالله وحده، ولا يختلف عنهم إلا في أساليب التعبير والتصوير والتحليل، وكثيرا ما يتخذ أسلوبه صورة الحوار بين نفسه والذات الإلهية، يتحدث إليها ويناجيها ويبثها لوعته وأشواقه وحنينه وغير ذلك من مظاهر الحب، ويسألها ويجيب بلسانها عن مدى صدقه في حبه ومدى قبولها إياه إلى أن ينتهي الأمر بالمحب إلى مقام الوصال والاتصال حيث تنمحي الاثنينية ويخرس اللسان ويسود الصمت.
وإذا كان لكل صوفي معراج روحي إلى الله، فلابن الفارض معراجه الذي نجده واضحا في تائيته الكبرى حيث يحدثنا عن مراحل تطوره الروحي وما عاناه وما شاهده في كل مرحلة، وما أحس به من إخفاق أو نجاح، وحيث يحدثنا عن الفناء ومعانيه، والحب وغايته، ويصور من يدعي محبة الله وقلبه مشغول بغيره ومن يحب الله على الحقيقة ويخلص في حبه.
يقول على لسان الذات الإلهية، وهو لا يزال بعد في مرحلة ادعاء الحب؛ لأنه لا يزال شاعرا بنفسه:
حليف غرام أنت لكن بنفسه
وإبقاك بعضا منك بعض أدلتي
فلم تهوني ما لم تكن في فانيا
ولم تفن ما لم تجتلى فيك صورتي
Unknown page