Tariq Ikhwan Safa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Genres
في المكان «أما المكان عند الجمهور فهو الوعاء الذي يكون فيه المتمكن. فيقال إن الماء مكانه الكوز الذي هو فيه، وإن الخل مكانه الزق الذي هو فيه، وعلى هذا القياس مكان كل شيء هو الوعاء الذي هو فيه ... وبالجملة مكان كل متمكن هو الجسم المحيط به. وقيل أيضا إن المكان هو سطح الجسم الحاوي الذي يلي المحوي، وقيل لا بل المكان هو سطح الجسم المحوي الذي يلي الحاوي، وعلى كلا الرأيين والقولين يجب أن يكون المكان جوهرا. وقيل إن المكان هو الفصل المشترك بين سطح الجسم الحاوي وسطح المحوي، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان عرضا. وقيل أيضا إن المكان هو الفضاء الذي يكون فيه الجسم ذاهبا طولا وعرضا وعمقا، وإن مكان كل جسم مثله سواء، فإن كان الجسم مدور الشكل أو مربعا أو مثلثا أو غيرها من الأشكال، فإن مكانه مثله سواء لا أصغر ولا أكبر ... وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان جوهرا.
واعلم أن الذين قالوا إن المكان هو الفضاء، إنما نظروا إلى صورة الجسم، ثم انتزعوها من الهيولى بالقوة الفكرية، وصوروها في نفوسهم، وسموها الفضاء، وإذا نظروا إليها وهي في الهيولى سموها المكان، وهذا يدل على قلة معرفتهم بجوهر النفس وكيفية معارفها ومعانيها.
واعلم أن من شرف جوهر النفس وعجائب قواها، أنها تنتزع صورة المحسوسات من هيولاها، وتصورها في ذاتها، وتنظر إليها خلوا من الهيولى، وتفرق بين الهيولى والصورة، وتنظر إلى كل واحد منها تارة مفردة، وتارة مركبة ... وتتوهم أيضا أن خارج العالم فضاء إلى ما لا نهاية له ... وأن المدة [= الزمان] جوهر أسبق من نشوء العالم، وأن الجزء من الهيولى يتجزأ أبدا، وما شاكل هذه المسائل ...» (15: 2، 12-13). «وقد ظن قوم من أهل العلم، أن بين فضاء الأفلاك وأطباق السماوات وأجزاء الأمهات مواضع فارغة، وأن وراء الفلك المحيط جسم آخر وخلاء بلا نهاية. وكلا الحكمين لا حقيقة له؛ لأن قد قام بالبرهان العقلي أن الخلاء [= الفراغ] غير موجود أصلا، لا خارج العالم ولا داخله؛ لأن معنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه، والمكان صفة من صفات الأجسام ... وهو عرض، ولا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه» (16: 2، 28-29).
هذا الرأي لإخوان الصفاء في استحالة وجود مكان مطلق لا تشغله الأجسام يتفق ومعطيات الفيزياء الكونية الحديثة التي تنفي على طريقة إخوان الصفاء وجود مكان لا متمكن فيه، وتقول إن المجرات التي تتباعد عند أطراف الكون وتفر في كل اتجاه بسرعات مذهلة نتيجة تمدد الكون المستمر هي التي تخلق المكان الجديد، ولا مكان هناك سابق لوصولها إليه.
في الحركة والسكون «الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثان، وضدها السكون وهو الوقوف في المكان الأول في الزمان الثاني. والحركة نوعان: سريعة وبطيئة، والحركة السريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة بعيدة في زمان قصير، والبطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة أقل منها في ذلك الزمان بعينه. والحركتان لا تعدان اثنتين إلا أن يكون بينهما زمان سكون، والسكون هو وقوف المتحرك في مكانه الأول زمانا ما كان يمكنه أن يكون متحركا فيه حركة ما» (5: 1، 192-193). «الحركة يقال على ستة أوجه: الكون والفساد، والزيادة والنقصان، والتغير والنقلة. فالكون هو خروج الشيء من العدم إلى الوجود، أو من القوة إلى الفعل،
13
والفساد عكس ذلك؛ والزيادة هي تباعد نهايات الجسم عن مركزه، والنقصان عكس ذلك؛ والتغير هو تبدل الصفات على الموصوف، من الألوان والطعوم والروائح وغيرها من الصفات؛ وأما الحركة التي تسمى النقلة فهي عند جمهور الناس الخروج من مكان إلى مكان آخر، وقد يقال: إن النقلة هي الكون في محاذاة ناحية أخرى في زمان ثان. وكلا القولين يصح في الحركة التي هي على سبيل الاستقامة؛ فأما التي على الاستدارة فلا يصح؛ لأن المتحرك على الاستدارة لا يصير في محاذاة أخرى في زمان ثان ...
واعلم أنه متى تحركت الأجزاء من جسم فقد تحركت تلك الجملة، ومتى تحركت تلك الجملة فقد تحركت تلك الأجزاء؛ لأن تلك الأجزاء ليست غير تلك الجملة. وذلك أنه إذا تحرك الإنسان فقد تحركت جملة أعضائه؛ وإذا تحركت أعضاؤه فقد تحرك هو؛ وإن تحركت يده وحدها فقد تحركت أجزاء اليد كلها؛ لأن اليد ليست شيئا غير تلك الأجزاء، وكذلك إن تحرك أصبع واحد فقد تحركت أجزاء الأصبع كلها؛ لأن الأصبع ليست غير تلك الأجزاء. فمن يظن أنه يجوز أن تتحرك الأجزاء ولا تتحرك الجملة، أو تتحرك الجملة ولا تتحرك بعض الأجزاء، فقد أخطأ.
واعلم أنه قد ظن كثير من أهل العلم أن المتحرك على الاستقامة يتحرك حركات كثيرة؛ لأنه يمر في حركته بمحاذيات كثيرة في حال حركته. لا ينبغي أن تعتبر كثرة الحركات لكثرة المحاذيات، فإن السهم في مروره، إلى أن يقع، حركة واحدة يمر بمحاذيات كثيرة. وكذلك المتحرك على الاستدارة فحركته واحدة إلى أن يقف وإن كان يدور أدوارا كثيرة.
ثم اعلم أنه لا تنفصل حركة عن حركة إلا بسكون بينهما، وهذا يعرفه ولا يشك فيه أهل صناعة الموسيقى؛ وذلك أن صناعتهم معرفة تأليف النغم، والنغم لا يكون إلا بالأصوات، والأصوات لا تحدث إلا من تصادم الأجسام، وتصادم الأجسام لا يكون إلا بالحركات، والحركات لا تنفصل بعضها عن بعض إلا بسكونات تكون بينها. فمن أجل هذا قال الذين نظروا في تأليف النغم إن بين زمان كل نقرتين زمان سكون. وقد بينا طرفا من هذا العلم في رسالتنا في تأليف اللحون» (15: 2، 13-15).
Unknown page