Tariq Ikhwan Safa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Genres
مفاهيم فيزيائية «لما كان النظر في علم الطبيعيات جزءا من أجزاء صناعة إخواننا، أيدهم الله، والأصل في هذا العلم هو معرفة خمسة أشياء، وهي: الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من معاني هذه الأشياء» (15: 2، 5).
في الهيولى والصورة «اعلم، وفقك الله، أن معنى قول الحكماء الهيولى، إنما يعنون به كل جوهر قابل للصورة، وقولهم الصورة، يعنون به كل شكل ونقش يقبله الجوهر.
واعلم أن اختلاف الموجودات إما هو بالصورة لا بالهيولى، وذلك أنا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد، وصورها مختلفة. مثال ذلك: السكين والسيف والفأس والمنشار وكل ما يعمل من الحديد من الآلات والأدوات والأواني، فإن اختلاف أسمائها من أجل اختلاف صورها، لا من أجل اختلاف جواهرها؛ لأن كلها بالحديد واحد ... وعلى هذا المثال يعتبر حال الهيولى والصورة في المصنوعات كلها؛ لأن كل مصنوع لا بد له من هيولى وصورة يركب منهما.
واعلم أن الهيولى على أربعة أنواع، منها هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى. فهيولى الصناعة هي كل جسم يعمل منه وفيه الصانع صنعته، كالخشب للنجارين ... والغزل للحاكة، والدقيق للخبازين، وعلى هذا القياس كل صانع لا بد له من جسم يعمل صنعته فيه ومنه ... أما الأشكال والنقوش التي يعملها فيها، فهي الصورة. فهذا هو معنى الهيولى والصورة في الصنائع.
وأما الهيولى الطبيعية فهي الأركان الأربعة، وذلك أن كل ما تحت فلك القمر من الكائنات، أعني النبات والحيوان والمعادن، فمنها تتكون وإليها تستحيل عند الفساد. أما الطبيعة الفاعلة لهذا، فهي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية ...
وأما هيولى الكل، فهي الجسم المطلق الذي منه جملة العالم، وأعني الأفلاك والكواكب والأركان والكائنات أجمع؛ لأنها كلها أجسام وإنما اختلافها من أجل صورها المختلفة. وأما الهيولى الأولى فهي جوهر بسيط معقول لا يدركه الحس، وذلك أنه صورة الوجود حسب، وهو الهوية. ولما قبلت الهوية الكمية صارت بذلك جسما مطلقا مشارا إليه أنه ذو ثلاثة أبعاد التي هي الطول والعرض والعمق. ولما قبل الجسم الكيفية وهي الشكل، كالتدوير والتثليث والتربيع وغيرها من الأشكال، صار بذلك جسما مخصوصا مشارا إليه، أي شكل هو؛ فالكيفية هي كالثلاثة (بين الأعداد)، والكمية كالاثنين، والهوية كالواحد. وكما أن الثلاثة متأخرة الوجود عن الاثنين، كذلك الكمية متأخرة الوجود عن الهوية؛ والهوية هي متقدمة الوجود على الكمية والكيفية ...
ثم اعلم أن الهوية والكمية والكيفية كلها صور بسيطة معقولة غير محسوسة، فإذا تركت على بعض صار بعضها كالهيولى، وبعضها كالصورة. فالكيفية هي صورة في الكمية والكمية هيولى لها، والكمية هي صورة في الهوية والهوية هيولى لها. والمثال في ذلك من المحسوسات أن القميص صورة في الثوب [= القماش] والثوب هيولى له، والثوب صورة في الغزل والغزل هيولى له، والغزل صورة في القطن والقطن هيولى له، والقطن صورة في النبات والنبات هيولى له، والنبات صورة في الأركان وهي هيولى له، والأركان صورة في الجسم والجسم هيولى لها، والجسم صورة في الجوهر والجوهر هيولى له ... وعلى هذا المثال يعتبر حال الصورة عند الهيولى وحال الهيولى عند الصورة، إلى أن تنتهي الأشياء كلها إلى الهيولى الأولى التي هي صورة الوجود حسب، لا كيفية فيها ولا كمية، وهي جوهر بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، قابل للصور كلها ولكن على الترتيب، الأول فالأول. مثال ذلك: أن الحب لا يقبل صورة العجين إلا بعد قبوله صورة الدقيق، والدقيق لا يقبل صورة الخبز إلا بعد قبوله صورة العجين، وعلى هذا المثال يكون قبول الهيولى للصور واحدة بعد أخرى.
ثم اعلم أن الأجسام كلها جنس واحد من جوهر واحد وهيولى واحدة، وإنما اختلافها بحسب اختلاف صورها، ومن أجلها [أي صورها] صار بعضها أصفى من بعض وأشرف. وذلك أن عالم الأفلاك أصفى وأشرف من عالم الأركان، وعالم الأركان بعضها أشرف من بعض؛ وذلك أن النار أصفى من الهواء وأشرف منه، والهواء أصفى من الماء وألطف منه، والماء أصفى من التراب وأشرف منه. وكلها أجسام طبيعية يستحيل بعضها إلى بعض ... إذا تكونت أجزاؤها يكون منها المولدات، أعني المعادن والنبات والحيوان، لكن يكون بعضها أشرف تركيبا من بعض، وذلك أن الياقوت أصفى من البلور وأشرف منه، والبلور أصفى من الزجاج وأشرف منه، والزجاج أصفى من الخزف وأشرف منه ... وكلها أحجار معدنية أصلها كلها الزئبق والكبريت ... وكذلك حكم الحيوان والنبات، فإنها بالهيولى واحد، واختلافها وشرف بعضها على بعض بحسب اختلاف صورها. ... وكل جسم قبل صورة ما، فإنه عند ذلك يكون أفضل من كونه ساذجا، فهكذا الحكم في جواهر النفوس، وذلك أن كلها جنس واحد وجوهر واحد، وأن اختلافها بحسب معارفها وأخلاقها وآرائها وأعمالها؛ لأن هذه الحالات هي صور في جواهرها وهي كالهيولى. وكذلك النفس الجزئية إذا قبلت علما من العلوم تكون أفضل وأشرف من سائر النفوس التي هي من أبناء جنسها.
ثم اعلم أن العلوم في النفس ليست بشيء سوى صور المعلومات انتزعتها النفس وصورتها في فكرها، فيكون عند ذلك جوهر النفس لصور تلك المعلومات كالهيولى، وهي فيها كالصورة.
واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة، وكلما كانت أكثر قبولا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء، عليهم السلام ... ومثل نفوس المحققين من الحكماء، التي استنبطت علوما كثيرة حقيقية ... ومثل نفوس الكهنة والمخبرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية. وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: الفلسفة هي التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية» (15: 2، 5-10). «ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصور المجردة من الهيولى، وهي جواهر باقية خالدة لا يعرض لها الفساد والآفات، كما يعرض للأمور الجسمانية. واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصور، فاجتهد في معرفتها لعلك تخلصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام وأسر الطبيعة ...» (15: 2، 21).
Unknown page