وواصل صلاته حتى السلام، ثم قال: ساعدني في خلع العباءة والحذاء يا محمد.
وبعد هنيهة قال: ناولني زجاجة المنوم من الدرج.
أين هذا الدرج يا ترى؟ إن كان في الصوان فقد انكشفت كذبة السرقة المدبرة. وانتظر وكأنه يتوقع انفجار قنبلة وهو يتابع صفيرها. ولكنه سمع الرجل وهو يرشف الماء. ثم شعر به وهو يستلقي فوق الفراش. وسمعه وهو يقول: لن أستطيع القيام لإغلاق الباب وراءك، أغلقه من الخارج، وافتحه في ميعاد الصباح، مع السلامة.
حياه الساوي، وأطفأ النور، ثم أضاء المصباح السهاري وانصرف. سوف يفتح الباب صباحا فيجد صاحبه جثة. كيف دخل القاتل؟ كيف يذهب عقب الجريمة؟ النافذة. النافذة المطلة على السطح. كيف يتصورون الجريمة؟ آه، العقل مشتت. المهم التنفيذ لا تخمين آراء المحققين. ضربات قلبك تشوش عليك أفكارك. ورغم الدراسة السابقة يجد في كل لحظة جديدا. هل ينام قبل أن تنفجر أعصابك؟
وارتفع الشخير، كشخير أمك في الليلة الأخيرة. والكفن كعود جاف. وبكاء السماء من زجاج الشرفة بالنبي دانيال . قطب في تصميم طاردا خواطر الأحزان ثم زحف. زحف حتى خرج جسمه كله. وقف بحذر شديد قابضا على القضيب. رأى الرجل مختفيا من الرأس إلى القدم تحت الغطاء. رأى رأسه المغطى بارزا تحت الوسادة. ارتاح جدا لاختفائه، وانبعثت فيه جرأة جديدة. اقترب من الفراش خطوة رافعا القضيب إلى أقصى ذراعه، وإذا بالرجل يزيح طرف الغطاء عن وجهه، ويميله إلى ناحيته. ارتعد صابر وتسمر؛ تسمر جسمه وذراعه المرفوعة. وفتح الرجل عينيه فالتقيتا بعينيه. ولم يبدر منه ما يدل على أنه رآه أو أنه انذعر. أفاق صابر من الصدمة بجنون. هوى بيده بكل قوة على الرأس فوق الطاقية. وتراجع ذاهلا عن تكرار الضربة. ند عن الرجل صوت لم يتبين حقيقته، وعبثا حاول فيما بعد تحديده. تأوه .. صرخة .. شخير .. حشرجة؟ وانتفض الجسم تحت الغطاء انتفاضة خفيفة فيما رأى ثم همد. وبسرعة حول عنه عينيه فاستقرتا على النافذة. لم يفكر أبدا في التأكد من موته. اقترب من النافذة ثم فتحها. ومرق منها معتمدا على ساعديه. ردها وراءه، وازدرد ريقا جافا لأول مرة. آه، هل القضيب ملطخ بالدم؟ والسطح المجاور خال كما توقع. كم الساعة يا ترى؟ وعبر السور. لماذا لم يغسل القضيب في الحمام؟ هل يتخلص منه هنا؟ جنون. هل يرميه في الجهة الخلفية للعمارة؟ جنون وسخف. وثمة أصوات آدمية آتية من أسفل السلم. أطل من فوق الدرابزين فرأى الدور الثالث غارقا في الظلام، ولكن نورا ينبعث من شقة في الدور الثاني انعكس على الدرابزين والجدار وراءه. ومسح القضيب بفردة القفاز اليسرى، ثم قبض عليه بها، وهبط السلم. مر أمام الشقة المفتوحة لا يلوي على شيء، ثم غادر الشقة رجلان أو ثلاثة فنزلوا وراءه فتباطأ حتى أدركوه، ثم فاتوه، فهبط وراءهم حتى الدهليز، وغادر العمارة كأنه واحد منهم، وقد لمح البواب جالسا في حجرته الصغيرة وراء الباب. في الطريق شهق بعمق ثم زفر. هل عرفه أحد؟ هل رأى أحد القضيب في يده؟ هل لوث الدم بدلته؟ ورأى تاكسي عند الطوار المقابل، ولكنه خاف إن عبر الطريق مباشرة أن يراه أحد من الفندق، فتوغل في الشارع، ثم عبر من بعيد إلى الجانب الآخر، فرجع تحت البواكي صوب موقف التاكسي. وصادف رجوعه قيام الشحاذ وسيره نحوه متلمسا طريقه بعصاه. اضطر أن يقف على بعد مترين من التاكسي حتى يمر الرجل، فرآه لأول مرة بوضوح على ضوء مصباح. وشد ما أثار اشمئزازه لحد الغثيان؛ وجه نحيل ضائع اللون والمعالم في لحية متلبدة بالقذارة، وعظام بارزة، ووجنتان غائرتان، وأنف مجدوع، ورأس مغطى بطاقية سوداء يحجب مقدمها حاجبيه، تدمع تحتها عينان دمويتان مشدودتان إلى أسفل، فمن أين جاءه الصوت اللطيف الذي يغني بالمديح؟ كتم أنفاسه كي لا يشم رائحته وهو يمضي أمامه، وتقلص وجهه في تقزز ونفور حتى اختفى عن ناظريه، ثم اندفع نحو التاكسي آمرا السائق بالذهاب إلى ناحية من النيل بها مرسى قوارب. أي إنسان يعطف على هذا الشحاذ! ولكن هل لمحه أحد وهو يغادر العمارة؟ القفاز والقضيب هل رآهما أحد؟ وسائق التاكسي هل ينقلب شاهد إثبات غدا؟ التاكسي لا يريد أن ينطلق، والسائق يزعجه بتعليقات غير مفهومة. - أليس كذلك؟ - هه! - وبدل الجنون أقول لنفسي الصبر طيب.
ليس أفضل من السكوت إلا الجنون. وشاطئ النيل راقد في ظلام، فمن يرى القضيب أو القفاز أو الدم؟ والتجديف في هذه الساعة من السنة غريب، ولكنه سلوك عادي جدا إذا قيس بغيره. الآن تتخلص من القضيب والقفاز وتغسل يديك. اغسلها جيدا في الأمواج الثقيلة النابعة من الليل. وبمجرد التفكير في الراحة زحف الإعياء كالنوم. وترك القارب للتيار. ليس فوق البر من شيء يهم. وثمة لذة غريبة في إغماض العين والاستسلام للتيار. وفي محو الفكر والذاكرة. لكن التقاء العينين تحت المصباح السهاري لا ينسى. والصوت الذي انبعث ما كنهه؟ وما يسيل من عين الشحاذ دم أم دمع؟ حتى المطاردة الآن لا تهم. ولكن أين مضى بك التيار؟
وفجأة انطبقت السماء على الأرض؛ وثب من الفزع فتمايل به القارب، وفي اللحظة التالية أدرك أنها صفارة قاطرة بحرية انفجرت بغلظها المحطم لأركان الجو . وتتابعت أمواج قوية فرقص القارب. وتناول المجدافين وجدف بقوة راجعا إلى المرسى. ولم ير في السماء نجما واحدا، فتذكر الشتاء، وسرعان ما سرت في جسده قشعريرة البرد. ومشى في الجزيرة بسرعة وقوة دفعا لبرودة الجو حتى عبر جسر قصر النيل. وعند إشارة المرور لمح سيارة كبيرة واقفة، ورأى داخلها رجلا جذب انتباهه من النظرة الأولى. كهل فخم، ولكن هذا الوجه كم إنه محتمل أن ... وانفتح الطريق، وتحركت السيارة، فصاح بأعلى صوته: سيد الرحيمي!
وجرى وراء السيارة بأقصى سرعته، ولكن المسافة الفاصلة بينهما اتسعت إلى غير نهاية، وسرعان ما اختفت السيارة. حتى رقمها لم يره. توقف عن الجري وهو يلهث. هو الرحيمي! صاحب الصورة بعد ثلاثين عاما. ولو تقدم خطوات أسرع لأمكنه الوثوب على مؤخرة السيارة. لكنه لم يعرف الرقم ولا الماركة. والحسرة غير مجدية، وهي في حالته مضحكة أيضا. وكيف يثق في عينيه وهو لم يشعر بالبرد فوق سطح النيل! وماذا يعني الرحيمي له بعد ما كان؟ الأمل الوحيد الباقي له هو كريمة. هي الآن سهرانة تفكر. وتربطهما حقيقة واحدة رغم البعد. ومع ذلك كم يحن إلى لقاء إلهام ليعترف لها بكل شيء. وأنبأته ساعة الميدان بانتصاف الليل، فقرر العودة إلى الفندق في ميعاده المألوف رغم كراهيته للفكرة. ارتعد وهو يمر أمام العمارة، وتذكر الشحاذ بصورته البشعة؛ فتساءل عن المأوى الذي يؤويه. ووجد عم محمد الساوي جالسا مكان عم خليل لم يذهب بعد للنوم. وتذكر أنه لم يأكل ولم يشرب، وأنه كان ينبغي أن يشرب قليلا من الكونياك. ورفض فكرة الرجوع خشية ألا يحسن تفسيرها غدا!
وقال له العجوز: التعب واضح في وجهك!
فأجاب بحذر: الدنيا برد جدا في الخارج.
Unknown page