ثم بعد لحظة تفكير: إني موفد للبحث عنه من قبل والدي العجوز الذي كان يعرفه في الزمن القديم.
وقرأ في عينيها الصافيتين تساؤلا، فقال باسما: معاملات قديمة. - مالية؟ - لا تخلو من هذا الجانب الهام.
أن تحقق أحلام لم تخطر بالبال هو ما يطمعك في المستحيل، وهذه الفتاة من معدن يخلق النشوات. - لم أشعر من قبل بمثل هذا الشعور!
فرفعت حاجبين مقوسين متباعدين في تساؤل إنكاري، فقال مفسرا: الغربة، والأمل، وصحبتك اللطيفة. - فيما يتعلق بصحبتي أرجو ألا تكرر أقوالا أسمعها كثيرا ولم أجد لها معنى. - تسمعينها في الإدارة؟ - مثلا. - هل أنت سعيدة في العمل؟ - هه! - هل تتركينه للبيت في حينه؟ - إني أعتبره عملا لا محطة.
وفكرته الثابتة عن الجنس الآخر لا يمكن أن تتغير؛ هو في نظره سلسلة من المخلوقات الوحشية الفاتنة الباحثة عن الغرام بلا مبدأ. أمه، وقريناتها، وفتيات الكنار الليلي، وعطفة القرشي. وحتى نشوته الصاعدة إلى فوق لم تستطع أن تزعزع هذه الفكرة الثابتة، ومع ذلك لم يشأ أن يجردها - في خياله - من ثيابها، وهي عادة مزمنة لم تفارقه. تجريدها من الثياب غير مجد لأن سحرها لا يستقر بموضع بالذات؛ شائع كضوء القمر، وبه جانب مجهول تتعلق به الآمال كمستقر أبيه. ولن يتحقق سروره بها كسروره بالأخريات، أي بالبهلوانيات، والألفاظ الجارحة، والأفعال الشائنة، والعبث الهمجي الوقح. هي شيء فريد. وفي ساعات قلائل كشفت له عن طبيعة ثانية فيه، وعن ذوق لم يذق به الأشياء من قبل. - ومع ذلك فانظري إلى عنايتك بأظافرك!
لاح في وجهها الاحتجاج في صورة طابع جدي، وقالت: عنايتك بشعرك ليست دون ذلك! - اعتبري ملاحظتي طريقة غير مباشرة للإعجاب.
ثم مستدركا بنبرة اعتذار وهو ينظر إلى اللوز الوردي المغروس في البنان: عندما أعود إلى الإسكندرية سأحمل منك أجمل ذكريات القاهرة. - لم لم تعلن في فرع الجريدة بالإسكندرية؟ - الإعلان جزء من البحث ليس إلا.
وهم بأن يدفع ثمن الغداء لها، ولكنها أبت ذلك بإصرار، فعدل عنه قائلا: لو أردت أن تفعلي نفس الشيء لما رفضت.
فقالت ضاحكة: ولا هذه.
وفي مرآة مثبتة في الجدار الأيسر ضبطها وهي تتفحصه باهتمام، فارتاح لذلك جدا. ليكن تأثيره فيها كتأثيره في الأخريات. وتذكر الأسرار التي كشفها في ماضيه القصير فابتسم. النوافذ والغابات والروائح الفطرية الفاتنة. وقامت لتذهب فصافحها مودعا، ولكنه لم يتبعها رغم رغبته الشديدة في ذلك. وأدرك أنه من المحتمل جدا أن يطلع نزلاء الفندق وصاحبه على الإعلان، وأن علاقته بمن يبحث عنه لن تخفى على أحد. ولما أخبر خليل أبو النجا ومحمد الساوي عن المكالمة التليفونية المنتظرة قال العجوز: إذن أنت تبحث عن أبيك؟
Unknown page