حينما أبل وليم وصار قادرا على الركوب امتطى ظهر جواده، وحمل بجيشه على الملك فيليب، فاجتاز تخم نورماندي وضرب في عرض الجنوب حتى بلغ أواسط فرنسا مدمرا في طريقه البلاد بحد السيف ولسان النار، حتى جاء بلدة صغيرة تدعى مانتس، وهي على نهر السين على طريقه إلى باريس، فهجم عليها رجاله ونهبوها وأحرقوا أبنيتها، وبعدما أكملوا كل ذلك تأثرهم بالدخول إليها؛ ليشاهد بعينيه إنجاز ما أقسم به ضد الملك فيليب، وفيما هو يجتاز البوابة متهاديا على ظهر جواده بسورة النصر والظفر وحده غير مصحوب بحرس، جاء في طريقه إلى حيث كانت بعض القطع الخشبية الغليظة الساقطة من بيت محروق ملقاة على الأرض، وقد غشيها رماد كثيف ستر ما تحتها من النار المحرقة، فبين هو يسير نشوان براح العجب والافتخار أجفل جواده بغتة ونكص إلى الوراء، ومن تشويط يديه واحتراقهما بالنار التي طفر عليها بدون انتباه.
فاندفع وليم بعنف على مؤخر السرج، وبالجهد استطاع أن يقي نفسه من السقوط، على أنه أوجس تفاقم الخطب عليه، فترجل وبادر البعض إلى مساعدته، فرأوه ضعيفا خائر القوى، فحمل بجماعة من الرجال الأشداء يعيدون نقله إلى روان، وهناك أحضروا له أمهر أطباء نورماندي ، وبعد الفحص حكموا جميعهم أنه مائت لا محالة، فأغرقه كلامهم هذا في وهدة اليأس، وأطبق عليه تحت لجج الكآبة والحزن، وعندما تذكر ما أتاه في حياته من الأعمال القاسية، والأفعال المنكرة المقرونة بالطمع وحب الذات، وهاله الفكر أنه عما قليل يفارق الحياة، ويقف أمام الله للدينونة عن كل هذه الجرائم التي تعد بالألوف، فصرخ إلى الله بحرارة طالبا المغفرة، وجمع حوله الرهبان، وسألهم أن يساعدوه بصلواتهم، وأمر أن ينفق كل ما لديه من الدراهم على الفقراء، وأصدر بلاغا آخر لأجل بناء كل الكنائس المحروقة في بلدة مانتس، وترميم ما فيها من البيوت المهدومة.
وبالاختصار نقول: إنه استعمل كل الوسائط الفعالة في التكفير عن آثامه وذنوبه، ولم يكن حينئذ غائبا عنه من أولاده سوى روبرت، فإن الصلح بينهما كان قد أصبح متعذرا، ولم يقدم لمشاهدة أبيه حتى في ساعة موته، أما وليم روفوس وهنري فكانا عنده ملازمين الجلوس بجانب فراشه، ليس بداعي محبتهما البنوية له، بل حرصا على وجودهما ساعة نطقه بالوصية الأخيرة بشأن أملاكه؛ لأنها وإن تكن شفاهية فلها اعتبار الكتابية، وقد أنجز فيها وعده لابنه الأكبر روبرت بخصوص إمارة نورماندي إذ قال: «قد وعدته وسأفي بوعدي، على أني لا أجهل أن البلاد التي يتسلط عليها تكون من أشقى البلدان؛ إذ إنه متكبر أحمق ولا يمكن أن ينجح» ثم زاد على ذلك: «وأما من جهة مملكتي في إنكلترا فلست أعطيها لأحد؛ لأنها لم تعط لي من أحد، بل قد تملكتها بالقوة بثمن دم، وسأتركها في يدي الله آملا أن ابني وليم روفوس يحوزها؛ لأنه كان طوعا لي في كل شيء» وعندها سأله ابنه هنري بلجاجة: «وأنا ماذا تعطيني يا أبي؟» فأجابه: «خمسة آلاف ليرة من صندوقي» فقال هنري: «وماذا أصنع بالخمسة آلاف ليرة إذا لم تعطني بيتا ولا أرضا» فأجابه الملك: «كف يا بني واتكل على الله، دع أخويك يتقدمانك، وأما نوبتك فتكون بعدهما» ولما قضى هذان وطرهما من الجلوس بجانب أبيهما خرجا من لدنه، فذهب هنري لأجل تحصيل ما عين له من الدراهم، وركب وليم روفوس البحر إلى إنكلترا يعد لنفسه طريق الجلوس على عرشها حين يقضي أبوه نحبه، ثم أمر وليم أن ينقلوه إلى دير في ظاهر روان؛ لأن ضوضاء المدينة أزعجه، فضلا عن أنه رأى أن موته في مكان مقدس كهذا خير له وأبقى، فنقل بموجب ذلك إلى هناك.
وفي صباح العاشر من شهر أيلول أفاق على أجراس المدينة، فسأل عن السبب فقيل له: إنها تقرع لأجل إقامة صلاة الصبح في كنيسة السيدة، فرفع يديه وشخص نحو السماء وقال: «أيتها السيدة مريم، أم الله الطاهرة، أستودعك نفسي» وأسلم الروح، وما أغمض عينيه حتى هجره خدامه وتفرقوا عنه ناهبين كل ما وصلت إليه أيديهم في غرفته من الأسلحة والأثاث والملابس والأشياء الثمينة، ولم تنحصر فظائعهم في ذلك فقط، بل إن قساوتهم البربرية الوحشية حملتهم على مغادرة جثته مطروحة عارية على البلاط، حتى دخل راهب الدير ولفها وجاء بالصلبان والشموع والبخور، وشرع يقدم الصلوات عن نفس الفقيد ملتمسا له غفرانا ورضوانا، ثم أرسل يستعلم من رئيس أساقفة روان عما ينبغي أن يفعل بالجسد، فأوعز إليه أن ينبغي نقله إلى كاين ليدفن هناك في الدير الذي بناه وليم وقت زيجته.
وقد روى مؤرخو ذلك العهد أنه لم يبق من ينقل جسد وليم إلى كاين، حتى جاء أحد الفلاحين ووضعه في عجلته وجرها إلى النهر، وهناك أنزله بقارب إلى مصب السين، ومن ثم نقلها بحرا إلى كاين حيث خرج رئيس الدير لملاقاته مصحوبا ببعض الرهبان والسكان، وعندها شبت نار في البلدة فأسرع جميع الذين كانوا مرافقين جسد وليم إلى مكان شبوبها، وتركوا الجسد مع حامليه فقط، وهؤلاء ظلوا يسيرون به حتى أتوا الكنيسة داخل الدير في القلعة، وهناك وضعوه وانصرفوا.
ولما دنا وقت الجناز اجتمع جمع غفير لمشاهدة الاحتفال، وفي نهايته قلعوا بعض الحجارة من أرض الكنيسة، وحفروا قبرا، وقد أعدوا لأجل تكفين وليم حجرا كبيرا (ناووسا) حفروه وأنزلوه في القبر؛ ليواروا الجثة ضمنه، وبينما هم على أهبة الدفن إذا برجل قد أقبل عليهم من بين الجمهور وأوقفهم قائلا: إن هذه الأرض التي بني فيها هذا الدير هي ملكه، وقد اغتصبه إياها وليم فاضطر أن يسلمها مكرها، وأما الآن فهو يحتج ويتظلم، ومما قاله: «إن الأرض لي وملك أبي، ولم أبعها ولا وقفتها ولا رهنتها ولا وهبتها، فهي حقي وباسم الله أمنعكم من دفن جسد مغتصبها فيها» فأخذه رئيس الدير على انفراد وفحص دعواه، وإذ وجدها صادقة نقده في الحال ثمن القبر، ووعده بدفع ثمن كل الأرض فيما بعد، فارتضى عندئذ ولم يعد يبدي أدنى ممانعة، وفيما هم يحاولون مواراة الجثة في المكان المعد لها، وجدوا أن الناووس صغير، فرأوا أن يضغطوها فيه، وبينما هم يفعلون انشق الناووس، وتمزقت الجثة، واندلقت أحشاء الفقيد بداعي الفساد الذي طرأ عليه من طول المدة، وانبعثت منه الروائح الكريهة المنتنة، فأسرع الرهبان إلى حرق البخور، وفت الأطياب، ولكن رغما عن كل ذلك اشتدت كراهة الروائح، وتعاظم نتنها في كل الكنيسة حتى أرغم جميع من فيها على الخروج ولم يبق سوى الدافنين.
أما روبرت ووليم روفوس فبعد محاورات ومصادرات بشأن الخلافة، تقرر بموجب عهدة بينهما أن وليم روفوس يحكم في إنكلترا وروبرت يستأثر بإمارة نورماندي.
Unknown page