وقد شحن جهده في إقناع الأمة الإنكليزية بالمبدأ الخصوصي الذي بموجبه تسلط على إنكلترا، وهو أنه كان الوارث الشرعي للعرش، وأن مبعث سلطانه الجوهري هو حق السيادة وليس حق الغلبة وذلك بإجماع الشعب الإنكليزي، وبالواقع كان قسم عظيم من الإنكليز يعتقد أن حق تملك وليم فوق حق هارلود، على أنه إذا كان وليم غريبا مولدا وتهذيبا ولغة وكل حاشيته وأتباعه المقربين إليه، بل كل الجيش وسائر قادة الحملة المعتمد عليهم في حفظ السلطة كانوا غرباء أيضا - بملابس غريبة وأطوار غريبة ولهجة غريبة - كان السواد الأعظم من الإنكليز يرون نفوسهم خاضعين لنوع غريب من السلطان؛ ولأجل ذلك كثيرا ما جرت بينهم وبين النورماند المتسلطين عليهم معارك دموية هائلة؛ طمعا في كسر نيرهم، والانعتاق من عبوديتهم، فأصلوا نار ثورة كانت لا تخمد من جهة حتى تكون انتشبت من جهة أخرى.
وبذلك كان وليم لا يقر له قرار ولا يفرغ من تجريد القوات، على أنه هو لم يكن رجل حرب فقط، بل كان حاذقا محنكا وبصيرا بعواقب الأمور، فلم يفته أن استمرار ملكه ورسوخ قدمه وقدم خلفائه في إنكلترا موقوف على الأساس الذي تبنى عليه قوانين البلاد المدنية، وعلى النظامات المسنونة للهيئة الحاكمة؛ ولذا لم يغفل عن ملافاة هذا الأمر، فأفرز قسما عظيما من وقته انقطع فيه للتأمل والتدبر، وقد أتى في مباشرة ذلك ما لا يسعنا وصفه من الحذاقة والتثبت والأصالة، وبالحقيقة أن همته كانت أرفع مما يستطيع الوهم إدراكه، كيف لا وقد رشحته لاقتحام أمر خطير جلل، والإقدام على عمل شاق كان يتهيبه هرقل، فإنه كان عليه أن يوفق بين أمتين، ويصوغ من لغتين لغة واحدة، ولو أنه حينما سمع عن تملك هارلود وهو في ظاهر روان وتوهم وجود حزب قوي في إنكلترا يميل إليه، ويلبي دعوته وحده أو مصحوبا بنفر قليل من النورماند، ويحقق ثقته بالإنكليز فيعتمد عليهم، لاستطاع تجنب الأخطار التي كان وطن نفسه على مصادمتها.
لكنه لم يكن من حزب كهذا هناك، بل لم يكن له على الأقل أدنى ثقة برجل واحد ذي قوة كافية تخوله اعتمادها والاتكال عليها، وتراءى له حينئذ أنه إذا أقدم على هذه الحملة يجب عليه أن يحصر اتكاله على القوة التي يقوى على تجهيزها من نورماندي؛ ولكي يحقق اتكاله هذا ترتب عليه أن يجعل تلك القوة منيعة الجانب عظيمة الشأن، ثم إن النورماند الذين أجابوه على دعوته، وشدوا أزره ومكنوه من التغلب على إنكلترا كانوا كثيري العدد، وكلهم يستحقون المجازاة بالتي هي أحسن، ولا يمكن تحصيل الجوائز لعدد كثير كهذا إلا من ذات إنكلترا على طريق سلب أهلها، وضبط أرزاقهم؛ إذ إن ما لوليم في نورماندي أقل من أن يفي بالمقصود.
ورأى أيضا أنه إذا أقام نخبة من النورماند على إدارة الأعمال العظيمة في إنكلترا مملكته الجديدة، وعهد إليهم بالوظائف العالية، وجعلهم مبدأ الثقة في الرأي، ومرجع الاتكال في الأمر والنهي، فإنهم يكونون حينئذ على نوع ما صفا ممتازا فينظر إليهم الإنكليز بعين الغيرة والحسد، ومن ثم فلا يأمل ثبوتهم في مراكزهم ما لم يكونوا كثيري العدد، شديدي القوة، فاتضح لديه والحالة هذه أن كان الأجدر به لو أمكنه أن لا يحضر معه واحدا منهم، وأما الآن وقد سبق السيف العذل، فصار من الحكمة أن يخلي زرعه في تكثير عددهم، وتوسيع نطاق نفوذهم؛ ولذا عول على نورماندية إنكلترا، أي أن يجعلها كنورماندي في كل شيء تقريبا، فأخذ يمد رواق اللغة النورماندية، ويشيع استعمالها في ألسنة جميع السكان، ويحتم بتعميم التكلم بها والتعامل في سائر الأشغال، حتى إنه سن بها الشرائع وسجل الإحصاءات وأجرى القيود في مطلق الأشغال بحروفها، ولا يزال الإنكليز مطعمين بها إلى هذا اليوم.
وقد استغرق امتزاج الإنكليز بالشعب النورماندي وسكب لغتي الأمتين في قالب واحد نحوا من جيل، حتى إذا تم ذلك أخذ الإنكليز يرتابون فيما إذا كان تغلب وليم على إنكلترا يقضي لهم بالافتخار، أو يحكم عليهم بالذل والانخذال؛ وذلك لأنه قد انطمست في وجوههم معالم أصلهم، فلم يعودوا يعرفون بالتحقيق: أمن النورماند هم فيفتخروا ببسالة أسلافهم وأعمالهم المجيدة، أم من سلالة الإنكليز فينوحوا أو يبكوا على انكسار شوكة إبائهم، وخسوف قمر مجدهم الخالي؟ ومعلوم أنه لم يكن ليتبين لهم وجه تخلص من هذه الحيرة، ولا اهتدوا إلى سبيل حل هذا المشكل الذي لا يزال مغلقا على الإنكليز المتناسلين منهم إلى وقتنا هذا.
ومن جملة الأعمال العظيمة التي أتاها وليم في إنكلترا ولا تزال مأثورة عنه إلى الآن، هو أنه أمر بعد كل نفوس المملكة وإحصاء كل وطني متملك فيها، وذلك كان سنة 1078 - ولا يبرح المجلدان اللذان تضمنا هذا الإحصاء باللغة اللاتينية محفوظين بمزيد الاعتناء إلى هذا اليوم، وهما مختلفان في الحجم، ولهما عظيم اعتبار بالنظر إلى المسائل المتعلقة بحقوق الأملاك القديمة - وفي نحو سنة 1082 أخذت قوى الملكة متيلدا تنحط بداعي ما ألم بها من المشاغل والهموم، ولا سيما فيما يتعلق بعائلتها، وذلك صغر نفسها إن لم نقل أسرع بها نحو شفير الانسكاب والانحلال، وكانت في هذا الوقت في نورماندي، وكان من أكبر بواعث قلقها واضطرابها انشغالها بإحدى بناتها التي كانت نظيرها أليفة السقم والمرض، فعولت على الحج إلى دير مذخورة فيه بقايا أحد القديسين، متوهمة أنها تنيل ابنتها إبلالا وشفاء، فقدمت على تلك البقايا تقادم ثمينة مصحوبة بصلوات حارة وتضرعات ممزوجة بدموع الحزن الشديد، واستشفاعات مقرونة بالتذلل والرجاء والإيمان.
ولكن كل ذلك لم يجدها نفعا، بل ظلت ابنتها المحبوبة تعاني الألم حتى قضي عليها، وعندها انقطعت متيلدا إلى قلعة كاين، وهناك أغلقت على نفسها أسيرة الغم والكرب، وفريسة انكسار النفس وانخلاع القلب، وكان وليم - كما يذكر القارئ - قد بنى له داخل هذه القلعة ديرا في وقت اقترانه بمتيلدا التي حدا بها حادي التذكار على الرجوع بناقة أفكارها إلى ذلك العهد، أيام كانت شموس آمالها مشرقة في سماء العظمة والمجد والسعادة، فأيقظ فيها الذكر سواكن الشوق والحنين، وغادرها الحزن على حئول تلك الأيام قرينة التنهد والأنين، نعم إن نور عظمتها ومجدها كان لا يزال مشرقا، وبمقدار عشرة أضعاف ما صوره لها التذكار، ولكن نجم سعادتها غار، ولم يعد لها إلى استطلاعه سبيل، وكان داء الطمع قد دب إلى أعضاء كل عائلتها، واستفحل فيها مدة عشرين سنة يصارع المحبة الأهلية، ويكدر كأس السلام العائلي حتى غشي سماء أيامها الأخيرة سحب مرارة أنشئت من رياح المخاصمات بين زوجها وابنها، فطفقت ترتاد السلام، وتنتجع الراحة على طريق الفروض الدينية، فصامت وصلت وتوسلت بدموع غزيرة طالبة غفران خطاياها، وازدحمت أقدام الكهنة حول فراشها يقيمون الصلاة، ويصعدون التقدمات، ويلتمسون الغفرانات متوسلين مستشفعين، وكان وليم حينئذ في نورماندي، فبلغه خبر تهورها إلى أعمق دركات اليأس، فجاء إليها ووصل في ساعة نزعها.
وبعدما تنفست النفس الأخير احتفل بجنازتها، ونقلت جثتها من قلعة كاين إلى الدير الذي كانت قد بنته لنفسها، وهناك قوبلت بملء التجلة والاحترام، ودفنت بمزيد الإجلال والإكرام، وقد بقي لها بعد ذلك بقايا أعمال كثيرة تشهد لها على مر السنين بالعظمة ورفعة الشأن، من نحو تصوير وتطريز وأفعال خيرية وآثار تاريخية تطاولت عليها يد الزمان بالتدريج، فطمست معالمها من عالم الوجود، وجرت عليها أذيال المحو والخمود، على أنه رغما عن عاديات الأيام وصروف الليالي لا تزال منها بقية ذكر وتقليد تدل السياح إلى تلك الأطراف على عصر متيلدا المجيد السعيد، وتنازع الزمان حياة البقاء والتخليد.
ثم إن وليم ذاته لم يعمر طويلا بعد وفاة متيلدا، فإنه كان أكبر منها سنا، وقد أصبح الآن شيخا متقدما في الأيام ومثقلا بعمر الشيخوخة، وقد زاده عجزا في أواخر حياته كبر جثته التي رزح أخيرا تحت ضغطة حملها، ولم يعد يستطيع حراكا، وقد فارقه نشاط الشباب، وعداه كل ما كان يتعلق بالشبيبة من بواعث التنشيط والترويح، فصار أقل شيء يعرض له يقلق راحته، ويبعثه على الاضطراب، وقبل وفاته بسنة جدد معه ابنه روبرت القتال، واضطره على مبارحة إنكلترا إلى نورماندي لأجل إطفاء نيران الثورة التي أشعلها ضده، على أن روبرت هذه المرة كان مستندا على مساعدة فيليب ملك فرنسا حسود وليم الخصوصي المستديم. ولا يذهب من ذهن المطالع أن الملك فيليب كان حينما استشاره وليم بالحمل عن إنكلترا فتي حديث السن.
وأما الآن فقد أصبح رجلا في ريعان القوة وغلواء الشجاعة، فنشط للأخذ بناصر روبرت وإغراه على شق عصا الطاعة لأبيه الشيخ، أما وليم فلما جاء إلى نورماندي جعل يعرض نفسه على الأطباء، ويسعى في معالجة ما به من السقم تعللا بالشفاء، وذلك فرض عليه ملازمة القصر وعدم مبارحة غرفته الخاصة، فبلغ الملك فيليب ما كان عليه الملك وليم، فأخذ يسخر به حتى إنه سأل يوما رجلا جاء حديثا من نورماندي: «ألا تزال عجوز إنكلترا منزوية في غرفتها؟» وهذه الكلمات اتصلت بوليم على طريق التداول، فاغتاظ غيظا لا مزيد عليه، وهاجت به الثأر نار الانتقام رغما عن تأثره بالمرض، فأقسم بعظمة الله أنه لا بد بعد معافاته من الخروج على الملك فيليب، وإشعال نار الخراب في سائر أطراف مملكته، وقد وفى بقسمه بإشعال النيران فقط، ولكن عوضا عن تدميرها مملكة فيليب صارت بالاتفاق واسطة لشل يد الذي أشعلها، وكان تفصيل هذه الحادثة الأخيرة من تاريخ هذا الظافر العظيم كما يلي.
Unknown page