وقد ظهر بالامتحان أن تلك السفينة البديعة التي قدمتها متيلدا لزوجها ليست مجرد لعيبة، فإنها سارت في مقدم السفن والعيون تحدق بها، فوجب أنها آخذة في السبق شيئا فشيئا، فسر وليم أن يراها هكذا سريعة الجري، وأمر ربانها أن يظل سائرا غير مبال بما وراءه، حتى إذا جاء المساء وظهر أن المسافة بينهما وبين بقية العمارة خلفها أصبحت شاسعة، بحيث غابت كل السفن عن عيون من كانوا على ظهر ميرا، لكنه إذ كان المساء قد أقبل والظلام خيم توقعوا أنهم ينظرونها في الصباح، فلما كان الغد استولى عليهم الانذهال والاندهاش، حين التفتوا إلى جهة الأفق الجنوبية ممعنين النظر ولم يجدوا للعمارة خلفهم أدنى أثر، فقلقوا وارتابوا، أما وليم فلم يبال بذلك وأمر أن تطوى الشرع، وأنفذ رجلا إلى أعلى الساري للاستكشاف والإشراف فلم ير شيئا، ووليم ظل في الظاهر غير مهتم، فأمر بتهيئة الفطور وأكثر على المائدة من وضع الخمور وغيرها من الوسائل الداعية الأفكار إلى هجر القلق، والارتياح إلى الفرح والسرور، ثم أرسل المراقب مرة ثانية إلى رأس الساري وسأله وليم: «ماذا ترى؟ فأجاب بعدما حدق بنظره: أرى أربع لطخ صغيرة جدا في الأفق» ثم زيدت هذه المسرة التي أوجبها هذا الاستكشاف بالصراخ: «هأنذا أنظر أكثر فأكثر، هي السفن، نعم كل العمارة ظهرت».
ثم ما أبطأت أن دنت من ميرا التي عادت إلى نشر شراعها، وراحت كلها تشق العباب نحو إنكلترا وقد جعلت طريقها نحو الشرق، حتى إذا جاءت البر لا تكون بعيدة عن مضيق دوفر، وفيما كانوا يقتربون نحو الشواطئ الإنكليزية كانوا يراقبون بكل اعتناء وجود البعض من سفن هارلود التي توقعوا طبيعيا مصادفتها في تلك الجهات جائلة لحماية الشطوط البحرية، لكنهم لم يجدوا واحدة منها، نعم إن هارلود كان قد سيرها للطواف والحراسة، وكان منها كثير في بقية الثغور، لكنه اتفق لحسن حظ وليم أن تلك التي عهد إليها حراسة هذا القسم من الجزيرة كانت قد انسحبت منه منذ أيام بداعي نفاد زادها وذخائرها، وهكذا لما وصلت العمارة تلك الجهة لم تصادف عدوا معارضا، فرست في خليج بيفنسي الذي تراءى لها متبسما مادا ذراعيه لاستقبالها، وعندها أخذوا في التأهب للخروج إلى البر، وأول من وطئت أقدامهم الشاطئ فرقة من رماة النبال المنتخبين.
فتقدم وليم معهم وأن كان متلهفا للوصول إلى البر زلت قدمه وهو يطفر من القارب فقط، فتطير الضباط وجميع من كانوا حوله وعدوا ذلك فألا رديا، أما هو فحضرته سرعة الخاطر في الحال ومد ذراعيه وتمسك بالشاطئ مدعيا أنه فعل ذلك تعمدا، وقال في نفس الوقت: «هكذا أقبض على هذه الأرض ومن هذه الدقيقة تكون ملكي» ولما نهض أسرع أحد ضباطه إلى كوخ مجاور على الشاطئ وأتى منه بقليل من «البلان» إلى وليم ووضعه في يده وقال له: إنه هكذا أعطي ملكه الجديد. وتلك كانت عادة في ذلك العهد أن يعطى المتملك الجديد الأراضي التي اشتراها أو نالها بطريقة أخرى، فكان المقتني الجديد يذهب إلى الأرض المراد امتلاكها ، وهناك أصحابها الأولون ينتزعون شيئا مما فيها ويقدمونه له قائلين: «هكذا نخولك امتلاك الأرض» وحالما خرج العساكر إلى البر طفقوا يقيمون المعسكرات وينشئون الاستحكامات؛ تفاديا من عدو مباغت أو هجوم مفاجئ ريثما كانت القوارب آخذة في تكملة النقل من السفن إلى البر، وكان بينهم عدد عديد من الفعلة والعاملين في صناعات مختلفة من المهندسين وممهدي الطرق والنجارين والبنائين وغيرهم، فكانوا قد أحضروا معهم ثلاثة أبراج، أو بالحري حصون من خشب هيئوها قبل السفر في نورماندي، وأتوا بها لتقام عند وصولهم لحفظ الذخائر والمؤن.
وإذ ذاك سير وليم فرقة من الخيالة لتردد تلك الأطراف، وتتجسس الأنباء عن قدوم هارلود، فرجع أولئك الفرسان واحدا بعد الآخر بعدما ضربوا في تلك الأطراف، وتوغلوا في التجسس والاستكشاف، وأفادوا أنهم لم يقفوا لقدوم العدو على أثر، وكانت الاستحكامات حينئذ قد أقيمت، ولم يبق من شاغل في الإفراغ والتنظيم، فأمر وليم أن تشعل النيران بالخيام لأجل الليل وتستعد العساكر لمناولة العشاء، وقد أعد له العشاء في ذات خيمته فتناوله مع قواده بمزيد الانشراح والابتهاج، وبغاية اطمئنان البال من جهة ما صادفه ذلك اليوم من النجاح في سائر الأعمال.
وقد كانت كل حوادث الخروج إلى البر ومتعلقاتها داعية إلى الرضى والاستحسان سوى واحدة، وهي ضياع سفينتين من العمارة، فاستعلم وليم وهو على العشاء عما إذا كان قد جد شيء بخصوصهما، فأجيب أن الإفادات الأخيرة عنهما تعلن انقذافهما إلى الصخور وانكسارهما، وكان أحد المنجمين قد تنبأ بخصوص تلك الحملة قبل خروجهما من نورماندي، وأعلم بمقتضى مراقبة النجوم أن وليم سوف ينجح في عمله ولا يصادف أدنى مقاومة من هارلود، وكان ذلك المنجم على ظهر إحدى تينك السفينتين المفقودتين فمات غرقا، فعندما بلغت وليم تلك الإفادات قال: «ما أشد حماقة ذلك الرجل الذي ظن أنه بواسطة النجوم يستطيع معرفة مستقبل غيره، بينما هو لم يعرف شيئا عن مستقبل نفسه». ويروى أن ذلك الطعام الذي تناوله وليم وقتئذ أعد له على حجر كبير عوضا عن المائدة، ولا يزال ذلك الحجر إلى الآن يدعى «حجر الظافر».
وفي اليوم الثاني أخذت العساكر تتقدم نحو الشرق ولم يكن في طريقهم عدو يحاربهم أو يصد تقدمهم، وقد حال الخوف والرعب دون سكان البلاد التي كانوا يجتازونها، فلم يبدوا أدنى مقاومة لهم، وكان الباعث على زيادة خوفهم بعض تعديات أتاها بعض العساكر، فاستولى الهلع على سكان الدساكر والقرى عند مفاجأتهم بتلك القوات الغريبة العظيمة التي غشيت شواطئهم، وانتشرت في أنحائهم، فأركن بعضهم للهرب إلى داخلية البلاد، وبعضهم ساقوا عيالهم وحملوا أشياءهم الثمينة والتجئوا إلى الصوامع والكنائس، متوهمين أن أماكن كهذه يتهيب حتى العساكر الدخول إليها ما لم يكونوا وثنيين، والبعض الآخر عزموا أن يختبئوا بين الهشيم والعليق حتى تمر عاصفة أولئك الثائرين عليهم.
وظلوا يتقدمون حتى أتوا هضبة قرب البحر فاختارها وليم محلا مؤقتا، فخيم فيها محصنا مستحكما، وكان إلى الغرب منها واد وفي أسفله قرية تدعى هستن لم تكن قبلا ذات شأن وأهمية، ولكن بسبب المعركة الهائلة التي حدثت بالقرب منها بعد وصول وليم ببضعة أيام لا يزال ذكرها حيا للآن، وما أتم وليم نقل الذخائر والمعدات إلى تلك الهضبة - وكان يفرغ من إقامة الحصون والقلاع - حتى بلغته الأخبار بواسطة الرقباء والجواسيس من نحو الشمال أن هارلود قادم عليه بعد أربعة أيام في طليعة مائة ألف مقاتل.
الفصل العاشر
معركة هستن
لا ريب في أن القارئ يذكر أن أخبار جلوس هارلود على العرش الإنكليزي كانت بلغت وليم أولا بواسطة توستغ أخي هارلود يوم كان يمتحن قوسه وسهامه في روان، وتوستغ هذا كان ألد عدو لأخيه، وكان مدة ملك إدوارد حاكما على شمالي إنكلترا في مقاطعة قاعدتها مدينة بورك، وإذ كان قد جلي عنها خاصم أخاه هارلود وطالبه بحق العود إليها، وكان من نتيجة هذا الخصام أنه طرد من كل البلاد، فخرج ملتهبا بنار الغيظ وحب الانتقام من أخيه، وعندما جاء ليخبر وليم عن خيانة هارلود لم يكن من قصده فقط إنهاض وليم للعمل، بل أراد أن يعمل هو أيضا، فأخبر وليم أنه ذاته له سلطة في إنكلترا لم تزل من دونها سلطة أخيه، وأنه إذا كان وليم يمده بعمارة صغيرة وبعدد قليل من الرجال يحمل على أخيه ويري وليم شدة بأسه وقوة إقدامه، فأجاب وليم ملتمسه وجهزه بالقوة المطلوبة غير مؤانس ثقة عظيمة باقتداره على تحصيل أدنى نتيجة.
Unknown page