Tarikh Umma Casr Rashidun
عصر الخلفاء الراشدين: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثالث)
Genres
والحق أن الإمام عليه السلام منزه عن هذه التهم الباطلة، وسنبين ذلك فيما يلي: (1-1) قبوله الخلافة في ذلك الظرف الحرج
من المؤكد أن الإمام عليه السلام كان يعتقد أنه أحق الناس بخلافة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان يرغب في ذلك فور وفاة النبي، وقد رأينا طرفا من ذلك في سير مباحث سيرة أبي بكر وعمر وعثمان، ولكنه وراء ذلك كان يكره انشقاق صفوف المسلمين، فهو يرغب في الخلافة ليرفع من شأن المسلمين، ويصلح أحوالهم، وينظم إدارتهم، ويتمم ما بدأ به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإذا حيل بينه وبين ذلك لم يسع إليه بتفرقة المسلمين، وشق العصا؛ ولذلك لم يتطلع إلى الخلافة من خلال المعارك والدماء، بل آثر السلامة والدعة ، وبايع الخلفاء الثلاثة قبله وهو يعتقد أنه الأحق بها، وأنه الوريث الشرعي للنبوة، لا لصلة الدم والقربى، بل للمزايا الروحية العديدة التي كان يتمتع بها، ولكنه لما رأى أن الفتنة قد عظمت بعد قتل عثمان، وأن البلاد الإسلامية قادمة على إحن ومحن، وأن المسلمين قد طاش سهمهم، وأن الحكماء والحلماء منهم قد انزووا في عقر بيوتهم، آثر أن يسلك ذلك الطريق، ويبتعد عن محجة الثورة، فإن لهذا الدين ربا سيحميه من كل هذه الشرور والفتن.
لقد أحس الإمام بأن الناس قد أخذوا يبتعدون عن الطريق التي سنها رسول الله منذ أواخر عهد الصديق ومطلع عهد عمر، ولكن قوة شخصية هذين الرجلين قد استطاعت أن تفرض على الناس شيئا من الرهبة، وأن عهد عثمان كان كله عهد يسر ورخاء، وأن الناس مالوا في هذا العهد إلى الحياة الدنيا وزخرفها، وتطلبوا متعها، وأخذوا يشتطون في مطالبهم المادية.
ولكن الإمام عليه السلام يرى واجبا عليه أن يعمل على صيانة هذا الدين من الفتن، ويقف في سبيل مناهضيه، ولو كان سيدفع ثمن ذلك من أعصابه ومن راحته، ولو كان سيدفع في سبيله دمه وحياته؛ ولذلك قبل أن يتولى الأمر في الظرف الحرج، لا لشيء سوى أن يقيم عمود الدين، ويرأب الصدع الذي أصابه.
ولما استخلف عليه السلام سار بالناس سيرة صحيحة سليمة، وأراد أن يعيدهم إلى عهد النبوة الذي لا يعرف إلا الحق، والاستقامة، والمصلحة العامة؛ ولذلك لم يستطع إلا أن يحكم بما يراه مماشيا لروح الدين، فهو يعتقد أن عمل معاوية في الشام عمل غير شرعي، فيجب عليه أن ينحيه عن إدارة هذا القطر، وهو يرى أن تصرفات طلحة والزبير هي تصرفات تنافي السياسة الإسلامية فهو يحاربهما، وهو يرى أن قتلة عثمان يجب أن يطبق عليهم الحكم الشرعي لا الحكم القبلي، وهو يرى أن قضية التحكيم في صفين قد سارت على غير الطريق المستقيمة؛ فلذلك كله أعلن للملأ أنه لن يقبل إلا أن يسير بالناس على ما يوحيه إليه ضميره ودينه، ولو كان في ذلك عناء كثير.
إن الذين قبلوا خلافة الإمام عليه السلام في ذلك الظرف هم جميع سكان الأقاليم الإسلامية البعيدة عن روح الحكم القبلي العصبي الجاهلي، وهم: أهل اليمن، وأهل مصر، وأهل العراق، وأهل فارس، ولم يشذ عن ذلك إلا أهل الشام الذين استولى على قلوبهم معاوية بأمواله، واشترى دينهم بدراهمه.
والحقيقة أن الإمام لو سلك مسلك معاوية في اجتذاب الناس إليه بأموال بيت المال لاستطاع أن يسيطر حتى على الشام نفسه، ولكنه إنما قبل الخلافة ليعيد لها نضارتها، لا ليفسدها من جديد.
ولو أتيح له أن يظل في الخلافة فترة أطول لأعاد إليها رونقها ولسار بالمسلمين سيرة الرسول، ولكن الضالين من الأمة لم يرقهم وجوده، فتآمروا عليه وفتكوا به.
Unknown page