Tarikh Umma Casr Rashidun
عصر الخلفاء الراشدين: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثالث)
Genres
ثم إن معاوية جمع إليه وجوه أهل الشام وأخذ بيعتهم، وقال لجرير: الحق بصاحبك، وبعث معه إلى علي كتابا يقول له فيه: من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب، أما بعد؛ فلو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، وليست لعمري حججك علي كحجتك على طلحة والزبير؛ لأنهما بايعاك ولم أبايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة؛ لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام، فأما شرفك في الإسلام وقرابتك من النبي
صلى الله عليه وسلم
وموضعك من قريش فلست أدفعه. ثم هيأ نفسه للسفر إلى صفين.
ولما أراد معاوية السير إلى صفين قال لعمرو: «إني رأيت أن نلقي إلى أهل مكة والمدينة كتابا نذكر لهم فيه أمر عثمان، فإما أن ندرك حاجتنا وإما أن يكف القوم عنا.» فقال عمرو: «إنما تكتب إلى ثلاثة نفر: راض بعلي فلا يزيده ذاك إلا بصيرة، ورجل يهوى عثمان فلن تزيده على ما هو عليه، ورجل معتزل فلست بأوثق في نفسه من علي.» ثم كثرت الكتب والرسائل بين الطرفين وكل منهما يهيئ نفسه، وكتب علي إلى عماله في الأمصار يأمرهم بالمسير إليه وحث الناس على الجهاد، وبلغ أهل العراق مسير معاوية إلى صفين فالتفوا نحو الإمام عليه السلام وتجمعت جموعهم حتى بلغت مائة وخمسين الفا،
2
ولكنهم كانوا غثاء كغثاء السيل، كثير الكمية، قليل الأهمية لاختلاف هواهم، وكأن الإمام قد أحس منهم ذلك فخطبهم خطبته الشهيرة التي يقول فيها : يا عباد الله، ما بالكم إذا أمرتم أن تنفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة بدلا؟ وبالذل والهوان من العز والكرامة خلقا؟ أفكلما دعوتكم إلى الجهاد دارت أعينكم في رءوسكم كأنكم من الموت في سكرة، وكأن قلوبكم قاسية، فأنتم أسود الشرى عند الدعة، وحين تنادون للبأس ثعالب رواغة تنتقص أطرافكم فلا تخاشون، ولا ينام عدوكم عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إن لكم علي حقا، فالنصيحة لكم ما نصحتم، وتوفير فيئكم عليكم، وأن أعلمكم كيلا تجهلوا، أؤدبكم كي تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصح في المغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم.
ويظهر أن هذه الخطبة قد بلغت آذان القوم ولم تبلغ قلوبهم، فلم يهيئوا أنفسهم، وآثروا الدعة والسكون على الحركة والجهاد، ويظهر أن السبب في ذلك أنهم رأوا أن الإمام يدفع بهم إلى حرب مبيدة تقطع الأرحام وتوهي الصلات، ولا يفيدون منها أي مغنم مادي. أما أهل الشام فإن معاوية يوزع بينهم الأموال ويغريهم بوضع أيديهم على كل من ينتصرون عليهم وعلى أموالهم، وكان يتألف القادة والرؤساء وشيوخ القبائل بالأموال، أما الإمام علي فليس عنده شيء من ذلك؛ لأن المال مال الله، ولا يصح أن يعطى لإنسان إلا بحسب فريضة الله، وقد جاءه مرة أخوه عقيل يطلب منه بعض المال، فقال لابنه الحسن: إذا خرج عطائي من بيت المال فسر مع عمك إلى السوق، فاشتر له ثوبا جديدا ونعلين جديدتين. فيتركه ويذهب إلى معاوية فيعطيه من بيت المال مائة ألف.
سار معاوية على رأس جيوشه من الشاميين، وقدم بين يديه الطلائع والعيون، حتى وصل قبل علي إلى صفين، فأنزل جيشه البالغ نحو خمسين ألفا في مكان رحب كثير العشب والخير، قريب من الفرات، ثم جاء جيش علي الضخم فنزل بمكان قريب من جيش معاوية، ولكن لم يجد على الفرات شريعة يستقي منها، فأرسل إلى معاوية يطلب إليه أن يخلي الماء حرا للجيشين فلم يقبل معاوية، واضطرب أصحاب علي حتى اقتتل نفر من الطرفين على الماء، وأتيح لجماعة علي أن يأخذوا مورد الماء، ولكن الإمام عليا رأى أن ذلك ظلم، وأن الماء ماء الله يجب أن يشرب الناس منه جميعا، فغضب نفر من أصحابه لهذه السياسة، ولكنه لم يأبه لهم، واستمرت السفارات بين الجانبين، ولكنها لم تنته إلى شيء، بل عبأ كل جانب جنده وشرع في القتال الفردي الذي ظل نحوا من عشرة أيام، وكانت السفراء لا تنقطع، حتى دخل المحرم من السنة الجديدة، فسئم الإمام من هذه المطاولات وزحف بجميع جيشه، فلقيه معاوية بجيش مثله، والتحم الطرفان وانكشفت ميمنة جيش الإمام، وتضعضع قلب جيشه حتى اضطر إلى أن ينحاز الإمام نفسه إلى ميسرة الجيش في بني ربيعة، فاستقتلت لحمايته، وكان خطيبها يقول: «يا معشر ربيعة، لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إن أصيب أمير المؤمنين وهو فيكم.» فتحالفت ربيعة على الموت إلى أن انتظم حال الميمنة من جديد بفضل قيادة الأشتر الحكيمة، واشتد جيش الإمام على جيش معاوية في اليوم الثالث حتى كاد أن يبلغ فسطاط معاوية ويشتت شمله، وهم معاوية بالفرار ولم يثبته إلا قول ابن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
Unknown page