Tarikh Umma Casr Rashidun
عصر الخلفاء الراشدين: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثالث)
Genres
وكتبوا مثل ذلك إلى أهل الكوفة واليمامة والمدينة، وكتبت السيدة عائشة إلى أهل الكوفة تخبرهم بحقيقة الأمر، وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن الإمام علي، وتحثهم على طلب قتلة عثمان، ومما جاء في كتابها قولها: «قدمنا البصرة، فدعونا إلى إقامة كتاب الله، فأجابنا الصالحون واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح، وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلا قاتلوني حتى منعني الله بالصالحين، واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها، فخانوا وغدروا، وكان ذلك الدأب ستة وعشرين يوما ندعوهم إلى الحق ويدعوننا إلى الباطل، وغدروا وخانوا، فغادروني في الغلس ليقتلوني، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدة بيتي، فوجدوا نفرا على الباب، فدارت عليهم الرحى.»
أما الإمام علي فإنه سار حتى بلغ «ذا قار» وأتاه عثمان بن حنيف في جمع كبير من أهل البصرة، ثم أرسل ابنه الحسن وعمارا والأشتر النخعي إلى الكوفة يدعون أهلها لنصرة الإمام، فأحضروا جمعا كبيرا منهم، ورحب به قائلا: يا أهل الكوفة، أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم، فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بالظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على الفساد إن شاء الله.
وسار علي من ذي قار حتى نزل على عبد القيس، فانضموا إليه، ثم سار حتى نزل «الزاوية» يريد البصرة، وسار طلحة والزبير وعائشة، والتقى الجمعان عند مكان قصر عبيد الله بن زياد، فلما نزل الناس أقاموا ثلاثة أيام لم يكن فيها قتال، وكان الإمام يرسل إلى جماعة عائشة يكلمهم ويدعوهم، حتى كان يوم الخميس منتصف جمادى الآخرة سنة 36، فوقعت الواقعة، وكان عسكر عائشة ثلاثين ألفا، وعسكر علي عشرين ألفا، ومما خطب به علي صحبه قوله: «عباد الله، انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم لقتالهم، فإنهم نكثوا بيعتي، وأخرجوا ابن حنيف عاملي بعد الضرب المبرح والعقوبة الشديدة، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي، وقتلوا رجالا صالحين، ثم تتبعوا منهم من يحبني يأخذونهم في كل حائط وتحت كل رابية، ثم يأتون بهم فيضربون رقابهم صبرا، ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، انهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم، وقد وطنتم أنفسكم على الطعن والضرب ومبارزة الأقران، وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد إخوانه فشلا، فليذب عن أخيه الذي فضل عليه كما يذب عن نفسه، ولا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وكفكم عنهم حتى يبدءوكم حجة أخرى، فإذا قاتلوكم فلا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا من أموالهم شيئا، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف العقول والأنفس، لقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والعصا والجريدة فيعير بها هو وعقبه من بعده.»
تراءى الجمعان، فرأى علي طلحة والزبير وقال لهما: «لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا، إن كنتما أعددتما عند الله عذرا فاتقيا الله سبحانه، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دماءكما؟ فهل حدث ما أحل لكما دمي؟» فقال طلحة: ألبت الناس على عثمان، فقال علي:
يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ، يا طلحة، تطلبني بدم عثمان؟ فلعن الله قتلة عثمان، يا طلحة، جئت بعرس رسول الله تقاتل بها وخبأت عرسك، أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي.
ثم قال للزبير مثل ما قاله لطلحة، فأراد الزبير ترك الحرب، فقال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين العسكرين حتى إذا اشتبكت النصال أردت أن تتركهم وتذهب، ولكنك خشيت رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد، وأن تحتها الموت الأحمر، فجبنت، فأحفظه ذلك، وقال: إني حلفت ألا أقاتله، فقال له ابنه عبد الله: كفر عن يمينك وقاتله، فدخل في المعركة، ثم رأى أن يتركها ويتوجه إلى وادي السباع قاصدا المدينة، فلما وقف يصلي طعنه من خلفه عمرو بن جرموز فقتله، وأخذ فرسه وخاتمه وسلاحه، ثم قدم على علي فأخبره بقتل الزبير، فتناول الإمام سيف الزبير وهزه وقال: «سيف طالما كشف الله به الكرب عن رسول الله، وما كان ابن صفية جبانا ولا لئيما، ولكن الحين ومصارع السوء.»
ثم اشتد وطيس القتال بين الجانبين، فنزل علي إلى الساحة وهو يتلو قوله تعالى:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ، اللهم أفرغ علينا الصبر، ثم رفع مصحفا بيده وقال: من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إلى ما فيه ولهم الجنة؟ فقال غلام اسمه مسلم بن عبد الله فقال: أنا يا خليفة رسول الله، ثم تناول المصحف وزحف على القوم فقتلوه، فقال علي: الآن حل قتالهم، واقتتل الناس، وركبت عائشة الجمل، وألبسوا هودجها البسط وجلود النمر، وفوق ذلك دروع الحديد، وخطبت الناس عائشة فقالت: «أما بعد فإنا كنا نقمنا على عثمان ضرب السوط وإمرة الفتيان، ألا وإنكم استعتبتموه فأعتبكم، ثم عدوتم عليه فارتكبتم منه دما حراما، وايم الله إنه كان أحصنكم فرجا وأتقاكم لله.»
ثم اقتتلوا حتى قتل طلحة وهو يقول: اللهم خذ لعثمان حتى ترضى، وحرضت عائشة الناس ، كما حرض علي جماعته، واحتدم القتال وتلاحم الناس، وأخذت عائشة لفا من حصى ورمت به وجوه أصحاب الإمام وصاحت بقولها: شاهت الوجوه، كما صنع رسول الله يوم حنين، فقال لها قائل:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، ثم تقدم أصحاب علي إلى جمل عائشة وأصحابها يحيطون بها ويتساقطون صرعى دون الوصول إليها حتى قتل على الخطام أربعون رجلا، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، وحمل أصحاب علي حتى أداروا الجمل كما تدور الرحى، وصاح الإمام: ارشقوا الجمل بالنبل، فرشق حتى لم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل، ثم تقدم محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر، فقطعا أنساع الهودج واحتملاه، فلما وضعاه أدخل محمد يده، فقالت: من هذا؟ فقال: أخوك محمد، فقالت: بل مذمم، قال: يا أخية، هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت وذاك، ثم أمر الإمام بعقر الجمل، وأمر بحمل الهودج من بين القتلى، وطلب من محمد بن أبي بكر أن يضرب على أخته قبة، ثم أدخلها البصرة فأنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، وكان الإمام يتمثل في ذلك اليوم قائلا:
Unknown page