Tarikh Umma Casr Izdihar
عصر الازدهار: تاريخ الأمة العربية (الجزء الخامس)
Genres
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، ولما أخذ أمر أبي السرايا يعظم كتب الفضل بن سهل إلى هرثمة بن أعين يدعوه لقيادة جيش يحارب به أبا السرايا، وكان ذلك في شعبان سنة 199ه، فلبى هرثمة الدعوة وتوجه للقاء أبي السرايا وتغلب عليه؛ ففتح الكوفة واضطر أبا السرايا إلى الهرب، فاضمحلت دولته ولجأ إلى إيران، ثم أمسك به وصلب ببغداد، وكان لحركة أبي السرايا أسوأ أثر في الحجاز؛ لأنه كان ولى على مكة الحسين بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي، وكان بها داود بن عيسى أميرا من قبل العباسيين، فطرده وجرد الكعبة من كسوتها العباسية وكساها ثوبين جديدين كتب عليهما: «أمر به الأصغر بن أبي الأصغر أبو السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت الله الحرام، وأمر أن تطرح عنها كسوة الظلمة من ولد العباس، ليطهر من كسوتهم، وكتب سنة 199»، ثم قسم الكسوة التي كانت عليها بين أصحابه، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه ليستعين به في حركته، ولم يسمع بوديعة لبني العباس وأتباعهم عند أحد من أهل مكة إلا أخذها، وكانت له دار سماها «دار العذاب» عذب فيها الناس ممن لم ينضموا تحت لواء حركته، حتى هرب من العراق والحجاز خلق كثير بسببه، وزاد عسفه وعسف جماعته على الناس وظلموهم وصادروا أموالهم حتى إنهم حكوا الذهب الذي كان على أساطين المسجد الحرام، وقلعوا الحديد الذي كان على شبابيك زمزم وخشب الساج فباعوه بالثمن البخس، وما زال العلوي على تلك الحال حتى بلغه صلب أبي السرايا، فاجتمع هو وبعض أنصاره العلويين وغيرهم وطلبوا إلى محمد بن جعفر الصادق أن ينضم إلى حركتهم على أن يبايعوه بالخلافة، فأجابهم إلى ذلك ولم يكن له من الأمر شيء إلا المظاهر والاسم، وساروا بالناس على أسوأ سيرة حتى تعدوا على الأموال والأعراض، فبعث إليهم هرثمة بن أعين جيشا فتك بهم وهزمهم، وقضى على حركتهم. (2)
خروج إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي باليمن واستيلاؤه عليه وفتكه بالناس فيه، حتى سمي الجزار لكثرة من قتل من الناس في سبيل الاستيلاء على اليمن حوالي سنة 199ه، وفي سنة 200ه قوي أمره وسيطر على اليمن، وانتهز فرصة موسم الحج فبعث بعض ولد عقيل بن أبي طالب على جند كثيف إلى الحجاز يتظاهرون بأداء الفريضة، وكان أمير الحج العباسي يومئذ إسحاق بن الرشيد، فلما وصل العقيلي إلى منطقة بستان بن عامر في الحجاز، ومرت قافلة الكسوة الشريفة وأوائل طيب الكعبة وأموال أهل الحرمين نهبوها، وأخذوا أموال من كان معها من التجار، حتى دخلوا مكة عراة، فبعث إليهم أمير الحج جندا قهرهم وأعاد كسوة الكعبة وطيبها، وتمكن من أن يقضي على هذه الفتنة. (3)
ثورة الجند ببغداد على الحسن بن سهل لقتله هرثمة بن أعين، فقد روى الطبري أن هرثمة بعد أن سكن الفتن في العراق والحجاز قصد أن يتوجه إلى المأمون في خراسان؛ ليبين له أن هذه الفتن كلها إنما قامت بسبب الفضل بن سهل وأخيه الحسن لبعده عن العراق، وقد علم الفضل بغرض هرثمة فاستكتب المأمون كتابا بعثه إليه وهو في الطريق يأمره فيه بالعودة ويوليه إمارة الشام والحجاز، فأبى هرثمة أن يرجع إلا بعد مقابلة الخليفة، ولما دخل على الخليفة لم يحسن استقباله وخرج وهو مغضب، ثم إن الفضل هيأ له من يقتله غيلة فوجئت عنقه وديس بطنه حتى مات، فبلغت أخبار هذه القصة أهل بغداد وثار جنود هرثمة على الحسن بن سهل وأنصاره؛ لأنه هو السبب وأجمع رأيهم ورأي الهاشميين في العاصمة على خلع المأمون وتولية المنصور بن المهدي، ولكنه أبى عليهم قبول ذلك، فطالبوه أن يكون أميرا ببغداد وأن يدعو للمأمون، وحلفوا أنهم لا يرضون بالمجوسي بن المجوسي الحسن بن سهل أميرا عليهم، فقبل وتولى إمارة بغداد، ولكن لم يكن في البلد جيش قوي يصون أمنها ويحميها من أهل الفساد، فكثرت فتن الشطار والدعار، وعم التعدي على النساء والصغار، واضطر أهل البلد إلى أن يختاروا من بينهم شخصا أمينا انتقوه من أوساط الشعب يعهدون إليه بأمر المدينة وحفظها، وانتقوا لذلك رجلا اسمه «خالد الدريوش»، وكان سريا قويا محبوبا فعمل على حفظ المدينة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الشطار، وعاونه في ذلك رجل آخر عرف بالفضل والمروءة وهو سهل بن سلامة الأنصاري، وكثرت أتباع هذين الرجلين اللذين لولاهما لعمت الفوضى بالمدينة ولخربها المفسدون والطامعون، ولما استطاع أهلها أن يحموا أنفسهم من الدعار والمجرمين. (4)
فتنة العراقيين بسبب مبايعة المأمون لعلي بن موسى بن جعفر الصادق، فقد وردت بغداد أخبار تفيد أن المأمون، بتدبير الفضل بن سهل، قد اختار لولاية عهده رجلا من آل علي، وهو الإمام علي بن موسى بن جعفر الصادق (عليه السلام)، وسماه «الرضا من آل محمد»، وأمر جنده بخلع السواد شعار بني العباس ولبس الخضرة التي اختارها شعارا للدولة الجديدة، وكتب بذلك إلى الآفاق، فلما سمع العراقيون بذلك وعلموا أن هذا كله من عمل الفضل بن سهل الفارسي؛ لأن الفرس يعجبهم أن يكون إمام المسلمين علويا، وطالما قاتلوا في سبيل ذلك، فوقعت فتنة عظيمة في العراق، وأخذت هذه الفتنة تقوى حتى كانت سنة 202ه، فأجمع رأي العراقيين على خلع المأمون وتولية عمه إبراهيم بن المهدي، فقبل إبراهيم بذلك، وخلع المأمون وامتد نفوذ إبراهيم على السواد كله والكوفة، وعسكر بالمدائن، وولى الجانب الشرقي من بغداد للعباس بن الهادي، والجانب الغربي لإسحاق بن الهادي.
ولما أبلغ علي بن موسى الرضا هذه الأخبار إلى المأمون وتأكد من صحتها عزم على الرحيل إلى بغداد للقضاء على تلك الفتنة بنفسه، مستصحبا معه وجوه دولته وقادة جنده، ولما وصل سرخس سمع الناس أن الفضل قد مات وهو في الحمام، وكان ذلك في سنة 202ه، ثم استمر المأمون في طريقه حتى إذا بلغ طوس مات فيها علي بن موسى، ويظهر أن المأمون تخلص منهما؛ لأنه يريد أن يدخل بغداد وهو ناف عنه كل ما يمكن أن يثير عليه غضب البغداديين، ثم سار إلى الري قاصدا العراق، وكان كلما زاد اقترابا من بغداد زاد الخطر على إبراهيم بن المهدي، حتى انفض عنه قواده وكاتبوا الحسن بن سهل ليسلموا إليه بغداد ويخلعوا إبراهيم بن المهدي، فلم ير إبراهيم بدا من الهرب، واختفى ليلة 17 ذي الحجة سنة 203ه، ولما وصل المأمون إلى النهروان تلقاه أهل بيته والقادة وهم بالخضرة، فلبسها الناس ثمانية أيام، ثم كلمه خاصته وأهله أن يعود إلى السواد فرجع لبسه، ومن ذلك الحين ابتدأ ملك المأمون الفعلي، وفي سنة 210 ظفر بإبراهيم بن المهدي فحبسه في سجن المطبق. (5)
فتنة نصر بن شبث العقيلي، فقد كان شبث من أشراف بني عقيل القاطنين شمالي حلب، وشيخ قبائل مصر في الشام كله، وكان يحب الأمين، فلما بلغه مقتله وانخذال العرب في العراق، واستلام القواد والأمراء الأعاجم زمام أمر الدولة ثار في سنة 198ه على الدولة المأمونية، فمنع خراج منطقته أن يرسل إلى بغداد، وتغلب على شمال الشام والجزيرة حتى بلغ سميساط وعبر الفرات، وبلغت أخباره الفضل بن سهل فولى طاهر بن الحسين على الموصل والجزيرة والشام والمغرب، كما أسلفنا، وأمره أن يسير من فوره للقاء شبث، فالتقيا، وكانت المعركة الفاصلة بنواحي يكسوم شمالي حلب، فتغلب شبث واضطر طاهر إلى التراجع للرقة، وعظم أمر شبث فأتاه بعض رجالاته وقال له: لو بايعت لبعض آل علي كان أحزم لأمرك، فقال: لا أبايع لبعض أولاد السوادات فيقول إنه خلقني ورزقني، فقال له: بايع بعض بني أمية، فقال: أولئك قوم أدبر أمرهم، وإنما هو في بني العباس، وإنما حاربتهم محاماة عن العرب؛ لأنهم يقدمون عليهم العجم.
ولما شخص المأمون إلى بغداد أمر عبد الله بن طاهر بن الحسين أن يجدد عزيمته في قتال نصر، وكتب طاهر إلى ابنه عبد الله ذلك الكتاب الرائع الحاوي للآداب السياسية والرياسية والإدارة والأخلاق، مما يجب على كل امرئ أن يحفظه ويعمل به، وشاع بين الناس حتى كتبوه وحفظوه، وبلغ خبره المأمون فدعاه أن يقرأ عليه، فلما قرأه أعجب به وقال له: ما أبقى أبو الطيب (وهو لقب طاهر) شيئا من أمر الدنيا والدين والتدبير والسياسة وحفظ اللسان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكم، وأوصى وأمر فكتب به إلى جميع العمال (انظر الطبري، 10: 258)، وخرج عبد الله بن طاهر للقاء نصر، واستمر القتال خمس سنوات، تارة كان يكون الغلب لهذا وتارة لذاك، ولما شعر نصر بالانخذال والضعف طلب الأمان فلم يجبه المأمون، حتى وطأ بساطه فرفض أولا ثم اضطر فأمنه، ودخل بغداد في صفر سنة 210ه، وخرب عبد الله بن طاهر مدينة يكسوم مقره، ثم فرض المأمون الإقامة الجبرية على نصر بن شبث في مدينة أبي جعفر المنصور. (6)
فتنة الزط: هم قوم رحل من أخلاط الناس يسمون «النور» أو «زيكان» أو «الكاولية» ... وكان من أمرهم أنهم غلبوا على طريق البصرة، وعاثوا فيها الفساد أثناء الفتنة بين الأخوين، وفي سنة 205ه قوي أمرهم إلى حد أن الناس باتت تخشاهم لما قاموا به من أعمال مخيفة وغارات مزعجة، ولما استقر أمر المأمون ببغداد بعث إليهم عيسى بن يزيد الجلودي، ففرقهم في البراري والأهوار، ولكنهم لم يلبثوا أن عادوا في سنة 206ه، فتجمعوا يعيثون في البلاد فسادا فبعث إليهم داود بن ماسجور فتفرقوا من جديد، ويظهر أنهم كانوا إذا ضيقت عليهم الجنود يتفرقون في الصحاري والقرى والدساكر فتصعب محاربتهم، وقد ظلوا هكذا يتجمعون ويتفرقون ويعيثون ويفتكون حتى جاء عهد المعتصم، فبعث إليهم من يفتك بهم في سنة 219ه وقتل منهم مقتل عظيمة، فانقطعت أخبارهم مدة ثم عادوا إلى الظهور بعد في أيام المتوكل. (7)
فتنة بابك الخرمي: خرج بابك الخرمي في سنة 201ه/816م في كورة «البند» شمالي إيران في «مازندران» قرب «أذربيجان»، فأعلن الثورة على الإسلام والدعوة إلى دين الفرس وإحياء دين مزدك، وقد فصل ابن النديم في «كتاب الفهرست»، والبغدادي في كتاب الفرق، ما دعا إليه بابك وهذا موجزه: الخرمية أو الخرمدينية (الأولون) ويسمون أيضا المحمرة، وصاحبهم مزدك الذي أباح لمتابعيه تناول اللذات والاعتكاف على الشهوات، والمشاركة بين الناس في الطعام والحرم والمال، وتحريم القتل، وقد حاربهم الملك كسرى أنوشروان لما ظهروا وقتل صاحبهم، والمتأخرون يسمونهم البابكية نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في أوائل القرن الثالث، وكان يقول إنه إله، وإنه يجدد دين المحمرة، ولكنه يبيح لأتباعه قتل مخالفيهم ومحاربتهم والفتك بهم.
ظهر بابك بحركته والمأمون بعد في «مرو»، والبلاد لم تستقر، فقوي أمره وكثرت أنصاره وضاق الناس بحركته وعيثه، ولما دخل المأمون بغداد بعث يحيى بن معاذ لمحاربة هؤلاء، فلم يفلح في القضاء عليهم فعزز الجيش بجيش ثان على رأسه عيسى بن محمد فلم يفلح، فثلث بجيش على رأسه أحمد بن الجنيد الإسكافي فأسره بابك، فبعث المأمون محمد بن حميد الطوسي فقتله بابك في سنة 214، وأخذ سلطانه يقوى في «أذربيجان» و«همذان» و«أصفهان» و«ماسبذان» حتى مات المأمون وفتنة بابك في أوجها، ولما حضرته الوفاة أوصى أخاه المعتصم بالفتك بالخرمية، ومما قاله له: «والخرمية فأغزهم ذا جزامة وصرامة وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجيا ثواب الله عليه»، وسنرى بعد التفصيل أمرهم فيما بعد. (4) الأحوال الخارجية
Unknown page