Tarikh Umma Casr Izdihar
عصر الازدهار: تاريخ الأمة العربية (الجزء الخامس)
Genres
ازدهرت الإمبراطورية الإسلامية عامة والعراق خاصة في عهد الرشيد في نواحي العلم والفن ومجالي الحضارة الأخرى، وصارت بغداد في عهده قبلة الطلاب في العالم، يلجئون إليها لينهلوا من مواردها في العلم والفن والدين والفلسفة والصناعة، يقول الخطيب البغدادي (في تاريخ بغداد، ج1، ص119): «لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها.» ويقول جميل المدور عن عهد الرشيد (في حضارة الإسلام، ص143): «وكفى بشرف دولته أنه اجتمع ببابه من الوزراء والأمراء والقواد، والعلماء والفقهاء والأدباء والخطباء والمحدثين، والوزراء والشعراء والندماء والمغنين، ما لم يجتمع على باب خليفة غيره، فإن البرامكة أعوان دولته، وأبا يوسف قاضيه، وهرثمة بن أعين أمير جنده، والعباس بن محمد عم أبيه جليسه، ومروان بن أبي حفصة شاعره والأصمعي محدثه، وأبا نواس نديمة، والفضل بن الربيع حاجبه، وإبراهيم الموصلي وإسحاق ابنه مغنياه، وابن بختيشوع وجبريل وبني ماسويه أطباؤه، والعلماء والأدباء كلهم قيام على بابه لا يفارقونه في حضر ولا سفر، حتى إنه ليطلب شاعر في أطراف الليل فيجده ببابه مع غيره من محدث أو نديم.»
والحق أن العلماء وأهل الدين والحكمة والفن الذين ظهروا في دولة الرشيد هم الأئمة الذين يرجع إليهم الفضل في تدوين كتب العلم والفن التي أضحت مراجع الحضارة العربية الإسلامية، وفي عصره ازدهرت الحركات العقلية والفلسفية، وعظمت عناية الناس بخزائن الكتب واهتمامهم بالعلم وأهله، وترجمت الكتب، وكان بلاطه ألمع بلاط في ذلك الحين، وكانت الشعراء والعلماء والحكماء يفدون إليه من أنحاء المعمورة كافة، فيوليهم عطفه وتشجيعه، وكذلك كان أول من وضع الموسيقى تحت رعايته، فارتقت في ظله حتى أصبحت مهنة شريفة، وفي عهده طفقت المدرسة الحنفية تتطور حتى اكتسبت شكلها النظامي على أيدي علماء المذهب، وعلى رأسهم أبو يوسف القاضي. (7) الحياة الاجتماعية في عصره
بلغت الحياة الاجتماعية في عهد الرشيد درجة رفيعة في البذخ والرفاهية والفخامة واللهو والغنى والرقي بصورة عامة، وكان طبقات الوزراء والقواد وكبار التجار أبرز الطبقات المترفة التي وجدت في ذلك العصر، كما كانت إلى جانبهم طبقات من الكتاب والعلماء والأطباء ومتوسطي التجار تعيش عيشا ناعم البال منعمة الحياة، أما طبقات سواد الشعب من سوقة وعمال وصناع وأجناد وشطار، فطبقات كان يتوفر لها عيش رخيص مقبول، وتتجلى هذه الطبقات واضحة الخطوط لمن دقق «كتاب الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، وكتاب «ألف ليلة وليلة»، وكتاب «الفهرست» لابن النديم، وكتاب «الموشي» للوشاء النديم، وكتاب «حلبة الكميت» للنواجي، وكان من نتائج امتزاج الشعوب المفتوحة بالشعب العربي وتعدد الزوجات والتسري والرقيق وتجارته وجود طبقة اجتماعية مختلطة العناصر والأفكار والتقاليد، طغت على الطبقة العربية الرفيعة التي كانت في العصر النبوي والعصر الراشدي والعصر الأموي.
أما المرأة، وخصوصا الرقيقة، فقد تعلمت وبلغت قسطا وافرا من النعيم في هذه البيئة، فتعلمت وتثقفت وسيطرت على البيت الإسلامي سيطرة واضحة، فقدتها بعد في عصر الانحطاط العباسي والعصور التي تلته، ومما هو جدير بالملاحظة أن المرأة الحرة لم تكن لها تلك الحرية التي كانت للرقيقة، وذلك بسبب الحجاب الذي فرض عليها منذ العصر الأموي وقصر عملها على تربية أولادها والغزل والحياكة وتعلم القرآن فقط.
أما لباس الناس في هذا العصر فإنه لم يتبدل كثيرا عما كان عليه في العصر الأموي وما قبله؛ سروال وقميص وقفطان، ورداء خارجي من عباءة أو جبة وعمامة أو كوفية على الرأس، والشيء الوحيد الجديد هو أنه قد جعل للعلماء زي خاص رتبه لهم القاضي أبو يوسف، وهو العمامة ومن فوقها الطيلسان.
17
أما النساء فكن يلبسن الشفوف؛ الثياب والصدريات، وقد يلبسن سراويلات خاصة بهن، وكن يضعن على رءوسهن ما يستر شعورهن، وفي العصر العباسي استحدث نوع من أغطية الرأس خاص بهن، قيل: إن أول من اخترعه هي السيدة علية أخت الرشيد، وهو، على ما رووا، قبعة من حرير مزركشة مقببة في أسفلها دائرة يمكن ترصيعها بالجواهر والحلي.
وأما البيوت وأثاثها ورياشها، وخاصة دور الأعيان والوجوه، فقد بلغت حدا عاليا في الترف من سعة في البناء، وفخامة في الجمال والزخرف، واستكمال مظاهر الرفاهية والراحة، ففيها الكراسي الأنيقة والسجاجيد البارعة والدواوين المطرزة والمصابيح المذهبة وأصص الورود والأزهار والرياحين، وأواني الطعام والشراب والطبخ الفضية والزجاجية والعاجية والمطعمة والمكفتة، وكانت منازل الوجوه والأعيان تبرد في الصيف بالثلج بطرق خاصة.
18
وأما دور عامة الناس فقد استوفرت مظاهر الراحة ومحتاجاتها ، بل ربما بلغت حدا من الترف، فقد رووا أنها كانت تحتوي على أواوين وحمامات وزينات بالفسيفساء والزخارف والنقوش والجص المصور وغالي الأخشاب ومدهش الأصباغ، كما تجلى هذا لقارئ «كتاب ألف ليلة وليلة»، وكما اعتنى الناس بدورهم اعتنوا بمجالي اللهو ومظاهر السرور من سفرات ترفيه وصيد وقنص وتربية للحيوانات والطيور الظريفة، وإقامة حفلات لهو ولعب وإحياء مواسم الأعياد والمهرجانات العامة والألعاب الرياضية والسحرية ومسابقات الخيول والرهانات، وقد أورد المسعودي وصف يوم بديع أجرى فيه الرشيد الخيول في الرقة وجلس في صدر الميدان؛ حيث توافت إليه الخيل فإذا خيله في أوائلها فسر بذلك. (8) الحياة الاقتصادية
Unknown page