Tarikh Umma Casr Intilaq
عصر الانطلاق: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثاني)
Genres
7
ثم إن الإسلام أخذ يفشو وعظماء قريش يتميزون من الغيظ، ثم إن قريشا اجتمعت وتشاورت في أمر محمد وعزمت على التخلص منه، فقال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني. فقالوا: والله لا نسلمك أبدا، فامض لما تريد. فلما أصبح أخذ حجرا وقصد الكعبة، وكان الرسول يصلي بين الركنين البراني والأسود ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما سجد محمد احتمل أبو جهل الحجر وهجم نحو محمد، فلما دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا، وقد يبست يداه حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه قريش فسألته عما به، فقال: لما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا أنيابه، فهم بي أن يأكلني فتراجعت.
ثم إن قريشا فكرت تفكيرا آخر، فطلبت إلى النضر بن الحارث - وكان من شياطين قريش كان قدم الجبرة وتعلم أحاديث ملوك الفرس وقصص إسفنديار، وكان إذا سمع القرآن قام فقال: يا معشر قريش، هلم إلي أحدثكم حديثا أحسن من حديثه - فطلبت إليه قريش أن يتوجه إلى أحبار يهود المدينة ومعه عقبة بن أبي معيط، فلما وصلا المدينة ووصفا محمدا للأحبار وأسمعاهم بعض قوله، قال لهم الأحبار : سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح. ثم جاءوا رسول الله فسألوه عن الأسئلة الثلاثة، فقال
صلى الله عليه وسلم : «أجيبكم غدا.» ثم إنه مكث خمس عشرة ليلة لا يأتيه الوحي، فأخذت قريش تتقول الأقاويل، فحزن رسول الله حتى جاءه جبريل بسورة الكهف، وفيها معاتبة من الله على حزنه وتفصيل جواب ما سألوه عنه. ولكن سفهاء قريش وزعماءها وأحلافهم استمروا في خصومتهم العنيفة، وأخذت كل قبيلة تنابذ من أسلم من أبنائها وتؤذيهم بعنف وقسوة؛ وبخاصة المستضعفون؛ فإنهم كانوا يلبسونهم أدراع الحديد حتى ينطقوا بكلمة الكفر وقلبهم مفعم بالإيمان، إلا نفرا تحملوا الأذى الشديد ولم ينطقوا بكلمة الكفر؛ ومنهم بلال مولى أبي بكر الذي قبض عليه أمية بن خلف وأخذ يعذبه بقسوة ووحشية يريده أن يكفر بالله ويعبد اللات والعزى، فيرفض وهو متحمل لأشد العذاب. وممن لقي أشد البلاء أيضا عمار بن ياسر وأمه وأبوه، وأم عميس، وعامر بن فهيرة، وزنيرة وأعتق النهدية وابنتها. (1) الهجرة إلى الحبشة
لما رأى الرسول تعذيب هؤلاء المستضعفين وأنه لا يقدر على نصرتهم، قال للمسلمين: «من أراد أن يخرج بنفسه مهاجرا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، حتى يجعل الله لنا فرجا.» فخرج نفر من المسلمين إلى الحبشة مهاجرين، وكان ذلك في السنة السادسة للبعثة، وهي أول هجرة في الإسلام، وكان فيها من الوجوه عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت الرسول، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو مسلمة بن عبد الأسد المخزومي، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وسهيل بن بيضاء، وجعفر بن أبي طالب، وزوجه أسماء بنت عميس، وغيرهم. فودعهم الرسول وجعل عليهم عثمان بن مظعون،
8
وبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا، فرحب بهم النجاشي وأمنهم وأحسن إليهم ، فاستقروا هناك واطمأنوا. ولكن هذا الأمر أقض مضاجع قريش، فبعثت وفدا إلى النجاشي وبطارقته، فذهب، وكان قوامه عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وحملا هدايا كثيرة إلى النجاشي وبطارقته، فلما وصلا إليه قالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا فيهم إليك أشراف قومهم لتردهم عليهم؛ فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوه عليهم وعاتبوهم. فقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم. فلما سمع النجاشي كلامهم غضب، ثم قال: لا والله لا أسلمهم حتى أدعوهم وأسألهم. ثم أرسل إليهم فجاءوا، فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ فكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرفه ونعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه، فعدا علينا قومنا فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك. فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ فقال جعفر: نعم. ثم قرأ صدرا من «سورة كهيعص»، وترجمت للنجاشي، فبكى حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفه، وقال: إن هذا الذي جاء به عيسى. ثم التفت إلى الرسولين وقال: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم. فرجعا أخيب ما يكون الرجوع. ولما قدما مكة ودخلاها وعلما بإسلام عمر سقط في يديهما، وتتابع فشل المشركين منذ يومئذ.
9 (2) إسلام عمر بن الخطاب
كان عمر أشد الفتيان في قريش على الإسلام وأهله، وكان رجلا ذا شكيمة، وكان يكره محمدا ودعوته الجديدة، ويناوئ أصحابه، ولكنه لما رأى خروج المسلمين من ديارهم إلى الحبشة تأثر بذلك؛ فقد روى ابن إسحق عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت حثمة، قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر حتى وقف علي وهو على شركه، وكنا نلقى منه البلاء، فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله. فقلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله؛ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله مخرجا. فقال: صحبكم الله. ورأيت له رقة لم أكن أراها، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا.
10
Unknown page