Tarikh Umma Casr Inhidar
عصر الانحدار: تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
Genres
الشام من ابتداء دولة المماليك الشراكسة إلى الفتح العثماني
784-922ه/ 1382-1516م
منذ أن استولى السلطان برقوق على السلطة في مصر والشام أخذ يسعى لتوطيد أركان الدولة المضطربة، والحق أنه كان ملكا قويا ذا دهاء وسياسة، فإنه بعد أن تم له الأمر في مصر وجه نظره إلى الشام؛ لتثبيت أقدامه فيها، والضرب على أيدي مناوئيه من ولاتها الذين طمعوا في الاستقلال وإقصاء نفوذ مصر وحكامها عن بلادهم، ولكن برقوقا كان ذا إدارة حازمة استطاع بها إعادة نفوذ مصر على الشام، ورأى أن الواجب يقضي عليه بأن يوجه نواب الشام إلى غزو بلاد آسية الصغرى؛ ليأمن شرهم من جهة، ويكسب بلاده قوة وهيبة من جهة ثانية.
وقد تم له ما أراد حتى وفد عليه رسول ملك بلاد «سيس» ومعه كتاب يعلن فيه خضوعه، ويخبره أن ملك بلاد الأرمن قد مات، وأن رؤساء هاتيك الديار يطلبون من السلطان برقوق أن يختار هو لهم من يولونه عليهم، فبعث إليهم السلطان أحد الأرمن اللاجئين إليه ليتولى أمورهم، ثم جاءته في سنة 785ه رسل من صاحب بلاد سنجار وصاحب بلاد قيصرية، وصاحب تكريت، يعرضون عليه خضوعهم، ويعلنون له أنهم سيخطبون باسمه على المنابر، ويسكون العملة باسمه، ويدفعون له مبالغ سموها، فهذا يدل على القوة التي بلغتها دولة المماليك الشراكسة في عهده، ومن الأمور الجليلة الدالة على قوة هذه الدولة: قيام الجيوش الشامية في ذلك الحين بحملة شديدة ضد الغزاة الفرنجة الذين حاولوا احتلال الموانئ الشامية في بيروت وصيدا وصور، ومن ذلك عزم السلطان على قتال التركمان؛ فإنه جهز جيشا في سنة 787ه وبعث به إلى بلاد آذنه لقتال الأمير سولي بن ذلغادر ومن معه من التركمان، وقد التقت الجيوش الشامية بسولي وفرقت شمله وقتلت أخاه، ثم تمكنت منه فقتلته أيضا، وتم للسلطان برقوق الاستيلاء على أكثر بلاد آسية الصغرى، واتسعت رقعة الدولة وعظمت مواردها، واستقرت البلاد حقبة من الزمن لولا الفتن العارمة التي كانت تقع بين القيسية واليمانية، ولولا تآمر بعض المماليك على برقوق لقتله على ما سنفصله فيما بعد، وقد ظل سلطان برقوق قويا ودولته مرهوبة إلى أن هلك في سنة 801ه حين كان يعد العدة للقاء جيوش تيمورلنك.
ولما مات تسلطن بعده ابنه السلطان فرج، فلم يخضع له أمراء الشام ونوابه، وجرت حوادث وفتن مزعجة، وانتهزت جيوش تيمورلنك ذلك، فزحفت على الديار الشامية وأذاقتها الشرور والفتك، حتى قال المرحوم المؤرخ أستاذنا الشيخ كامل الغزي: إن جيش تيمورلنك لما دخل حلب نهب وأحرق وسبى وقتل، وصاروا يأخذون المرأة ومعها ولدها على يدها فيلقونه من يدها ويفعلون بها ما لا يليق، فلجأ النساء عند ذلك إلى جامعها ظنا منهن أن هذا يقيهن من أيدي الغزاة الكفرة، وصارت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء حتى لا ترى بشرتها من حسنها، فيأتي عدو الله إليها ويغسل وجهها ويجامعها في الجامع، وحكى بعض من حضر الوقائع بأن تيمورلنك عرض الأسرى من بلاد الشام ونواحيها، فكانوا ثلاثمائة ألف أسير وستين ألف أسير،
1
واستولى على الكنوز والذخائر التي كانت في قلعة حلب، ولما تم له الاستيلاء التام توجه نحو حماه وسلمية وفعل بأهلهما ما فعل بأهل حلب من القتل والسلب والإحراق حتى لم يبق من مدينة حماه إلا شيء قليل، ولما سار إلى حمص استسلم له أهلها فلم يفعل بهم شيئا، وقال: إنه يهبهم إلى خالد بن الوليد، ثم سار إلى دمشق وأصر نائبها على مناجزته، وجرت بين الطرفين معركة كبيرة، ولكن الدماشقة أحسوا بضعفهم فبعثوا في الخفاء قاضيهم تقي الدين بن مفلح الحنبلي إلى تيمورلنك؛ ليفاوضه في الصلح فقبل، ولكن نائب السلطنة أصر على القتال، وحمي وطيسه بين الجانبين، ثم تم النصر لتيمورلنك؛ فدخل المدينة، وفرض على أهلها مبالغ جسيمة، وأعمل جنده فيها السلب والإحراق، وحل بها ما حل بأختها حلب، وبخاصة ما لقي مسجدها وقصورها وحماماتها، فإنها ذهبت طعمة للنيران، وكانت دمشق قبل هذه النكبة من أجمل مدن الدنيا وأفخمها، وقد أكثر الشعراء والكتاب من رثائها ووصف هذه النكبة، فمن ذلك قول بهاء الدين البهائي:
لهفي على تلك البروج وحسنها
صفت بهن طوارق الحدثان
لهفي على وادي دمشق ولطفه
Unknown page