هذه كانت حالة حكومة الترنسفال مع القبائل في الخارج، أما حالتها الداخلية، فلم تكن بأصلح من تلك؛ لأن خزينة ماليتها كانت خالية من الأموال، فأقر مجلس الفولسكراد على إصدار أوراق يتعامل بها بدل النقود إلى أن تتحسن حالة ماليتها، وربط ضريبة باهظة على أصحاب الحقول، أجانب كانوا أو وطنيين. ولما كان للإنكليز أكثر الأملاك رفضوا تأديتها، وقدموا شكاوى كثيرة للحكومة، فكان جوابها لهم هكذا: «من يريد الإقامة ببلادنا فليخضع لقوانين الجمهورية، ومن يأبى فليرحل.» ولما أخفقوا سعيا، رفعوا عريضة إلى جلالة الملكة موقعا عليها من ستة آلاف منهم يطلبون بها مداخلتها، وكانت الأحوال في بريتوريا مرتبكة بعد ربط هذه الضريبة الفادحة من جهة، ولانتخاب رئيس الجمهورية من جهة أخرى؛ لأن مدة الرئيس برجر كانت قد انتهت، فظهر حينئذ في بريتوريا أحزاب كثيرة، أهمها حزب الدوببز وزعيمه المستر كروجر، فرشحوه للرئاسة، ولكن حزب برجر فاز عليه، وتم الأمر بتجديد انتخابه، وكان لا يتمنى ذلك؛ لأنه رأى ما في داخل بلاده من الهياج العظيم، وما بخارجها من عداء القبائل لها، ومما زاد الطين بلة اتحاد أعضاء مجلس التنفيذ على خزله، مع أن المنتظر منهم الأخذ بناصره وشد أزره لتنفيذ آرائه، ولكن كثرة الأحزاب كانت تدفع كلا منهم للسعي في إحباط مساعي الآخر.
تداخل إنكلترا
وفي أوائل نوفمبر سنة 1876 كان السير بركلي في لندرا، فتفاوض مع كبراء حكومته بخصوص حالة الترنسفال، وبين بأن الخطر محدق بها من كل جانب، وأيد كلامه هذا بعرائض الاستغاثة المقدمة من بعض القبائل التي تقاسي مرارة العذاب من حمل ذل البوير، واتحادها على مهاجمة بلاد الترنسفال، فأرادت إنكلترا أن تتداخل في الأمر حسما للنزاع، فانتخبت لهذا الأمر رجلا قد اتصف بالوداعة وحسن التدبير، واشتهر بالحكمة والشفقة، ألا وهو السير تيوفيل شيبستون حاكم مستعمرة الكاب، وأمرته بالتوجه إلى تلك البلاد للنظر بعين الدقة في أحوالها، وتقديم التقرير اللازم عما يتراءى له، وإذا تأكد بأنه يرجى إصلاحها كان به، وإلا فتضم لإنكلترا. وفي 30 ديسمبر سنة 1876 أرسل السير شيبستون مكتوبا إلى الرئيس برجر يقول فيه: إني عازم على زيارة بلادكم بصفتي مندوبا من حكومتي للاتحاد معكم وإجراء اللازم لحل المشاكل الحاضرة قبل اتساع الخرق، وخصوصا بعد ما رأيناه من أن القبائل كلها قد اتحدت يدا واحدة ضد جمهوريتكم، وذلك مما يدعوننا إلى المبادرة لمساعدتكم وحفظ المستعمرات البريطانية في جنوب أفريقيا من الخطر؛ لأنها تصبح مهددة إذا أصيبت بلادكم بسوء. فكان لهذا الخبر أعظم تأثير في قلوب القاطنين في بلاد الترنسفال على اختلاف أجناسهم، فمنهم من تلقاه بالفرح والسرور، ومنهم من تلقاه بالحقد والغيظ، وهم من حزب الدوبيرز لعلمهم بأن بحار الحرية سترويهم وسماء العدل ستظللهم، ممتدة إليهم من لندن بيد السير شيبستون، وذلك عكس ما يرغبون.
ولما حضر السير شيبستون إلى الناتال أقام فيها بضعة أيام، ثم قصد بريتوريا، وحينما صار على مقربة منها وانتشر خبر قرب وصوله إليها هرعت الناس إليه أفواجا لاستقباله، وفي أثناء مروره كان بعض الأهالي يتقدم إليه بمزيد الانعطاف، ويظهر له من الإخلاص والولاء ما لم يكن يظنه منهم، وعند وصوله إلى بريتوريا تقاطرت إليه الحكام يهنونه بسلامة الوصول، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية وآيات البشر على محياهم، إظهارا لما يكنه ضميرهم من المحبة له؛ لعلمهم بأنه ما وطئ بلادهم إلا لقصد مصالحهم، وما يعود بمنافعهم، فخطب فيهم قائلا: «إن الحوادث قد أظهرت لكل عاقل ضرورة الاتحاد وتبادل المحبة، وخصوصا بين الأمم المسيحية؛ لتستنتج منه الراحة والحرية والسلم والسعادة بين الجنس الأبيض والأسود، وإني واثق بمساعدتكم على إتمام مشروعي هذا؛ لعظم فائدته، ولأجل أن نكتب على راية جنوب أفريقيا هذه الكلمات اللطيفة: «الاتحاد أساس القوة».» ثم طلب من الرئيس برجر تشكيل لجنة للنظر في أحوال الجمهورية الداخلية والخارجية، فأجاب طلبه، وتألفت من المستر هندرسن والمستر أوزبرن من الإنكليز، والمستر كروجر والمستر جوريسن من البوير، وكانت الرئاسة للسير شيبستون، فلم تأت هذه اللجنة بالغرض المقصود؛ لاختلاف آراء أعضائها، ولأن حزب الدوبيرز وأتباعه كان متفقا ومصرا على مقاومة إنكلترا ومنعها من التداخل في أمورهم، غاضا الطرف عن حالة بلادهم وحرج مركزهم. وكان المستر كروجر زعيم الحزب المذكور والعاضد له؛ إذ كان يطمح إلى رئاسة الجمهورية؛ ولذلك صار هذا الحزب يدس الدسائس ويلقي الفتن سرا؛ لئلا تحبط مساعيهم إذا ظهرت وتتوطد أقدام إنكلترا في بلادهم، فتناقشهم الحساب.
وفي أول فبراير سنة 1877 قال الرئيس برجر لأعضاء مجلس الفولسكراد: «إنكم تعلمون أن بلادنا أصبحت في خطر عظيم لجملة أوجه؛ أولها: نفاد المال من خزينة الحكومة، وعدم استطاعتنا تحصيل الضرائب. ثانيا: اتحاد القبائل يدا واحدة ضدنا وعزمها على مهاجمتنا، وفي مقدمتهم قبيلة الزولس، وقد أرسلت إنكلترا مندوبا من طرفها ليقف على أحوالنا، وهو يقول بوجوب ضم بلادنا لمستعمرات دولته، والذي أراه أن أفكار الشعب لا تميل إلى ذلك، ولكني إذا سئلت عن ذلك أجاوب بأن انضمامنا إلى هذه الدولة القوية، إلى أن يمكننا حفظ استقلالنا بأنفسنا تكون نتيجته حسنة، وأرى من الضروري خضوع البوير لهذا الرأي، ومتى تم ذلك الانضمام تكون جميع مستعمرات جنوب أفريقيا من رأس الرجا الصالح إلى مينا اليصابات مملكة واحدة ذات قوة عظيمة، توقع الرعب في قلوب أعدائها، وإني أرى بعين الأسف بعض البوير الذين لا يذعنون لدستور البلاد ولا يميلون إلى الأحكام، ويفضلون معيشتهم بدون ارتباط ولا نظام كالوحوش البرية، ويأبون الخضوع للحكومة الإنكليزية؛ ولذلك فإنهم يعرقلون مساعي المندوب الإنكليزي، وإذا أصروا على هذا العناد فإن العاقبة تكون وبالا عليهم.» وبعد انتهاء كلامه انفض المجلس على غير جدوى، ولم يبت أحد من أعضائه رأيا فيما أبداه ذلك الرئيس.
وفي أوائل أبريل علم السير شيبستون أن سكسوني يحشد قواه على الحدود ويستعد لاستئناف قتال البوير، فأرسل إليه مكتوبا يعلنه بأن يوقف استعداده ويفرق قوته، وإلا تكون إنكلترا ضده، فخاف سكسوني العاقبة، وأرسل إليه يطلب توسطه في الصلح مع حكومة الترنسفال، فأطلع السير شيبستون الرئيس برجر على ذلك، وبعد المفاوضة أقرا على تشكيل لجنة وإرسالها إليه لعقد معاهدة الصلح، وانتخب لذلك ثلاثة من الترنسفال، وهم المستر فان جوركن والمستر هولت هوزن والقومندان فريريا واثنان من الإنكليز، وهما المستر أوزبورن والكابتن كلارك، فتوجهوا إلى مدينة ميدلبرج الواقعة على الحدود، وتقابلوا مع اثنين من كبار السكسونيين، فطلب البوير منهم ثلاثة شروط؛ أولا: الخضوع لجمهورية الترنسفال. ثانيا: تقديم ألفي رأس من الغنم تعويضا حربيا. ثالثا: منع تعدي رجال القبيلة الحدود التي يصير تحديدها بمعرفة اللجنة. فعرضوا هذه الطلبات على ملك القبيلة في إيزندلوانا، فصادق عليها وعقدت معاهدة، وأرسلت للفولسكراد للتوقيع عليها، وبذلك تم الصلح. وقد كتب السير شيبستون تقريرا بأعماله وأرسله لحكومته في لندن، بين فيه الخوف على البوير من القبائل القاطنة حول دائرة الترنسفال باتحادها معا، وذكر أيضا أن سكسوني قبل الصلح خوفا من إنكلترا، ومتى رحلت عن البلاد رجع لقتالهم، وختمه بأنه لا يمكن رفع الخطر عنها إلا بانضمامها لإنكلترا.
الانضمام
ولما علم السكسونيون بعد إتمام الصلح بأن الترنسفال لم تزل مستقلة؛ أرادوا تجديد النزاع حتى ينتقموا من البوير، ويأخذوا بثأرهم منهم، ولما كانت معاهدة الصلح لم تمض عليها إلا أيام قلائل لم يرق في عين سكسوني أن يبدي حراكا، بل ترك ذلك لستيواو رئيس إحدى قبائل الزولس، فأرسل هذا الأخير رسولا من قبيلته بمكتوب إلى حكومة الترنسفال، يعلنها باستقلاله ورفض سيادة الجمهورية والقتال بينهما إذا أنكرت عليه ذلك. وكان وصول مكتوبه في 11 أبريل سنة 1877، وفي الحال حشد رجاله على الحدود، ولما علم بذلك السير شيبستون خاف العاقبة، وتوجه في الحال إلى الرئيس برجر للمفاوضة في مكتوب ستيواو، فاستدعى الرئيس أعضاء مجلس التنفيذ، فأقروا على إرسال مكتوب إلى ستيواو ويعلنونه بضم الترنسفال إلى إنكلترا، ويهددونه بالقوة الإنكليزية إذا أصر على حشد جيوشه أو تعدى الحدود. ولو تأخر هذا المكتوب أسبوعا واحدا لكانت مضارب الزولس دقت في بريتوريا، ولما وصل هذا المكتوب إلى ستيواو فرق رجاله وأرسل إلى السير شيبستون يقدم له الطاعة، ويعلنه بأنه فرق رجاله لما علم أن بلاد الترنسفال قد انضمت لإنكلترا.
وفي 12 أبريل سنة 1877 أعلن رسميا ضم جمهورية الترنسفال لإنكلترا، وكانت ساعة ذلك الإعلان هائلة جدا، وقد كان المندوب الإنكليزي يخشى حدوث ثورة، ولكن كان يزيل الصعاب ويزحزح العثرات بحكمته وتدبيره، ومن جملة ما فعل من هذا القبيل عدم رفعه الراية الإنكليزية؛ لئلا تكون سببا في شبوب نار العداوة، ولئلا يتخذها الأعداء فرصة لإظهار ما تكنه بواطنهم، وأبقى ذلك ريثما يستتب الأمن، وأخذ من فوره يسعى في اتخاذ الطرق اللازمة لإماتة روح التعصب، غارسا في أفئدة الشعب بذور الألفة والمحبة، موفقا بين آراء الأحزاب المختلفة، فنجحت مساعيه وخابر حكومته بكل ما تم، فأعجبت لمهارته وحسن درايته ولما أتى به من الأعمال الجليلة التي كانت تستلزم إهراق دماء الألوف في سبيل إتمامها. وفي 31 مايو ورد من لندرا كتابا إلى السر شيبستون يتضمن ممنونية جلالة الملكة وشكرها له على أعماله، وبعد ذلك أراد الذهاب إلى إنكلترا للمفاوضة مع حكومته فيما يلزم أعماله لتحسين تلك البلاد وإصلاحها، فوفدت عليه رؤساء القبائل وعظماء الأوروبيين ليودعوه، فغادرهم في 20 يونيو، مزودا بدعائهم ومستصحبا محبتهم، وأناب بدله السير أون لانيون. ولما وصل السر شيبستون إلى إنكلترا قدم تقريرا مطولا لحكومته، أوضح فيه كل أعماله التي أداها وأضاف إليه ما رأى إجراءه لازما لإصلاح تلك البلاد، وبين أن لا مانع من رفع الراية الإنكليزية الآن على بلاد الترنسفال، فانتدبت إنكلترا لذلك الماجور كلارك، فوصل إلى بريتوريا في 20 من شهر يوليو، وبعد وصوله بيومين عزم بعض رعاع البوير بإغواء حزب الدوبرز على قتل الماجور كلارك قبل أن يرفع الراية على بلادهم. وفي ذات ليلة اجتمعوا بعدما ثملوا بالخمور وأرادوا الهجوم على منزله والفتك به، ولكنه وقف على ما يضمرونه له، وعندما قربوا من المنزل وقف أمام نافذة غرفته وقال لهم بكل هدوء: «إنني أرى رءوسكم مثقلة بالخمر، وأقدامكم لا تقوى على حمل أجسادكم، فأنصحكم أن تتوجهوا إلى منازلكم لتستريحوا وتستفيقوا.» فلما سمعوا منه ذلك ورأوه مستيقظا، خابت مساعيهم وعادوا على أعقابهم، ولم يحدث ما يكدر الصفا في تلك الليلة.
وفي 23 يوليو سنة 1877 وصلت أورطتان من الجيش الإنكليزي إلى بريتوريا، فأرسل الماجور كلارك يستدعي رؤساء القبائل عموما لحضور الاحتفال برفع العلم البريطاني، فحضر الجميع واصطفت الجنود الإنكليزية حول ديوان الجمهورية، ورفعت الراية بيد الكولونل بروك، وبعد ذلك اشتهر رسميا انضمام بلاد الترنسفال لإنكلترا، وكان فرح الأمة الإنكليزية عظيما جدا.
Unknown page