وفي عصر هذا الملك حضرت إلى المدينة إحدى المتكهنات المدعيات معرفة الغيب وقدمت له تسعة مجلدات مدعية أنها تحتوي على بيان كل ما يستحدث لمدينة رومة من الحوادث، وطلبت منه في مقابلتها مبلغا عظيما فرفض، فأحرقت ثلاثة منها وعرضت عليه الستة الباقية بنفس القيمة فرفض ثانيا، فحرقت ثلاثة أخرى وعرضت عليه الثلاثة الباقية بالقيمة نفسها فقبل ووضعها في خزانة خصوصية بنيت لها تحت الكابيتول، وعين لحراستها اثنين من الأشراف، وهذه الخرافة تشبه ما يدعيه البعض في زمننا هذا زمن البدع والغرائب من وجود كتب يسمونها (الجفر)، يقولون إنها تنبئ بالمستقبل ويصدقهم بسطاء العقول وصغار الأحلام.
ومن أعمال تركان الشامخ أنه حارب كثيرا من مجاوريه، وانتصر عليهم خصوصا قبائل (الفولسك)، وشدد ربط الاتحاد مع مدائن اللاتين، وجعل لرومة - وبعبارة أخرى لنفسه - سيطرة شديدة عليها، وفتح مدينة (جانس) بواسطة أكبر أولاده (تاركان سكستوس)، وذلك أنه تظاهر بالعصيان على والده واحتمى بهذه المدينة، وأقام بها حتى استمال في خلالها الأهالي بحسن المعاملة وبذل العطايا حتى اختاروه حاكما عليهم، ولما تم له الأمر أرسل لوالده يسأله عما يفعله لتوطيد سلطته وتسليم المدينة إليه، فوجد الرسول والده يتمشى في بستان، وبعد أن سمع ما كلف بتبليغه إياه أخذ يقطع الأزهار المرتفعة عما جاورها بعصاة كانت بيده، ثم قال للرسول: عليك بتبليغ ما رأيت لولدي فإن فيه الجواب الكافي والرأي السديد.
ولما نقل حديث هذا الدور التمثيلي إلى سكستوس أدرك أن والده ينصحه بقتل أعيان المدينة، وكل من يظن فيه المعارضة، فأمر بقتلهم وسلم المدينة لوالده غنيمة باردة.
وكان تركان فظا غليظا سيئ الخلق ظالما مستبدا لا يوقر كبيرا ولا يرحم صغيرا ولا يحترم أميال الأمة ولا آراء نوابها وشيوخها فنفر منه الأهالي، ولم تبق لهم طاقة على احتمال هذه المعاملة، وصاروا يترقبون الفرص المناسبة للتخلص منه، ولا يتركون طريقة لبث شكواهم وإظهار تمللهم، وزاد غيظهم منه ومقتهم له حين تطاول ابنه سكستوس إلى اغتصاب (لوكريسيا) زوجة تركان كوللاتان ابن أخي الملك، فساعده الأهالي على الانتقام منه وطرد الملك تركان الشامخ، وإسقاط الحكومة الملكية، وتأسيس الحكومة الجمهورية.
القسم الثاني
الحكومة الجمهورية
تأسيس الجمهورية
وتفصيل ذلك على ما جاء في كتب أشهر المؤرخين أن (تركان) كان يحاصر مدينة (أرديا) عاصمة قبيلة (الروتول) الواقعة على بعد ثلاثين كيلومترا من مدينة رومة، ومعه أولاده وكثير من الأمراء، وبينما كان الأمراء مجتمعين ذات ليلة في السمر إذ دارت المناقشة بينهم في صفات زوجاتهم، وأخذ كل منهم يعدد محاسن زوجته المادية والأدبية، ويدعي أنها تفوق زوجات الباقين في الشؤون المنزلية والترتيبات العائلية، ثم اتفقوا على أن يفاجئوهن في مخادعهن ليروا كيف يصرفن أوقاتهن، فقاموا لوقتهم وفاجئوهن؛ فوجدوهن مشتغلات بالملاهي والمغاني إلا (لوكريسيا) زوجة (تركان كوللاتان)، فإنها وجدت مشتغلة بالغزل مع خادمتها، فأجمع الحضور على أنها أعقل الأميرات وأكثرهن التفاتا إلى أشغال بيتها، فاغتاظ (سكستوس)، وأضمر لها السوء وتربص لها، حتى إذا وجدها بمعزل عن عيون الرقباء انقض عليها كالعقاب واغتصبها كرها، فجمعت زوجها وأباها وأخا زوجها (بروتوس) وغيرهم وقصت عليهم ما حصل لها من الإهانة تفصيلا، ثم قالت إن لا حياة لها في هذا العالم بعد ما لحقها من العار بفعل هذا الوحش الكاسر، واستلت خنجرا وطعنت نفسها به طعنة كانت القاضية، فقضت نحبها شهيدة العفاف موصية زوجها بالأخذ بثأرها.
فحمل زوجها جثتها إلى رومة وعرضها على أعضاء مجلس الشيوخ وأنظار الأمة طالبا منهم الانتقام للشهامة والعفاف من أصحاب الغدر والخيانة، فمالوا لجانبه واتحدوا على عزل الملك، وطردوه هو وولديه من المدينة تخلصا من ظلمه واستبداده الذي أثقل كاهل الأهالي بالضرائب والمغارم، وحملهم ما لا طاقة لهم على حمله من أنوع التسخير والاستعباد، فاجتمع مجلس الشيوخ (سناتو) وقرر بإبطال الحكومة الملكية ونفي الملك.
وفي أثناء ذلك قصد (بروتوس) الجيش المحاصر لمدينة (أرديا)، وأهاجه على الملك فشق العساكر عصا الطاعة وتركوا حصار المدينة، ولما بلغ تاركان خبر ثورة الأهالي عاد مسرعا إلى مدينة رومة فوجد أبوابها مؤصدة في وجهه، ولما أعيته الحيل ولم يجد له بين الأهالي نصيرا، بل وجد الكل ضده يدا واحدة وقالبا واحدا طلبا للحرية والاستقلال؛ التجأ إلى مدينة (سيره) هو وولداه آرنس وسكستوس سبب جميع المصائب التي لحقت بهم.
Unknown page