الناس. فأنفذ الوزراء أمره، وسار به الحرس، فأقعدوه بجيان؛ فحكم بين الناس يوما واحدا. فلما أتى الليل، هرب على وجهه؛ فأصبح الناس يقولون: هرب القاضي {فرفع الخبر إلى الأمير محمد؛ فقال: هذا رجل صالح فر بدينه} فليسئل عن مكانه ويؤمن مما أكره {ومن أهل سرقسطة، قاسم بن ثابت بن عبد العزيز الفهري، صاحب كتاب الدلائل في شرح غريب الحديث. دعي للقضاء ببلده؛ فامتنع من ذلك. فلما اضطره الأمير وعزم عليه، استمهله ثلاثة أيام، يستخير فيها الله عز وجل} فمات خلال تلك المدة. فكان الناس يرون أنه دعا الله تعالى في الاستكفاء؛ فكفاه وستره. وصار حديثه موعظة في زمانه. قاله أحمد بن محمد. وممن عرض عليه القضاء، في عصرنا هذا المستأخر، فأباه وامتنع من قبوله، الفقيه أبو عيسى أحمد بن عبد الملك الإشبيلي، عرضه عليه المنصور محمد بن أبي عامر مدبر أمر الخليفة هشام المؤيد بالله، عن أمر الخليفة مرتين؛ فلم يجد فيه حيلة. أولاهما إذ توفي قاضي قرطبة محمد بن يبقى بن زرب، سنة 381؛ أحضره وخاطبه مشافهة بمحضر الوزراء؛ فقال له: إن أمير المؤمنين المؤيد بالله اختارك للقضاء، ورأى تقديمك مباركا لك فيه. فقال: أعوذ بالله من ذلك {لست، والله الذي لا إله إلا هو} اتهم إلى هذا ولا أقبله البتة {فإني لا أستطيع ولا أصلح وما أفتى الناس في ذلك إلا وأنا مضطجع أكثر أوقاتي لكبرى وضعفي. ووالله} لقد صدقتك {فانظر للمسلمين وانصح لإمامك وفقه الله} فتركه. وممن جاهر بالإصرار على الإباية من القضاء، محمد بن عبد السلام الخشني، أراده الأمير محمد لتقليد القضاء بجيان؛ وأمر الوزراء أن يجلسوه ويلزموه ذلك؛ ففعلوا وأدوا إليه رسالة الأمير. فأبى عليهم ونفر نفورا شديدا؛ فلاطفوه وخوفوه بادرة السلطان؛ فلم يزد إلا أباء ونفورا. فكتبوا إلى الأمير محمد بلجاجه واعياء الحيلة عليهم في إجابته. فوقع الأمير توقيعا غليظا معناه: إن من عاصانا، فقد أحل بنفسه ودمه. فلما قرأوه على الخشني، نزع قلنسوته من رأسه ومد عنقه وجعل يقول: أبيت كما أبت السموات والأرض، إباية إشفاق، لا إباية نفاق!
Page 13