بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رفع السماء عبرةً للناظرين وبسط الأرض وجعل فيها آيات للموقنين وأودع في اختلاف الألسن والألوان باختلاف الأقاليم والبلدان بصائر المستبصرين شواهد عموم رحمته وسبوغ نعمته المعالمين وصلى الله على سيدنا المصطفى من خلقه في السموات والأرضين وعلى آله الطيبين وأصحابه أجمعين. وبعد فإن التأريخ ولا سيما ما يتعلق بمعمورة الأرض. وعروض بلادها وأطوالها وأوضاع مبانيها ومسافات مغانيها وتصوير أقطارها وتبيين أحوال أمصارها من أبدع الفنون وأغربها وأبعدها غورًا وأعجبها يجدد لك أوراقه البالية المدائن الدراسة برصاصها وقصورها ويحيي أموات فصولها وأبوابها القرون الطامسة في طي حروفها وسطورها.
هذا ولا مرية لذوي العقول والأديان في أن مكة زادها الله شرفًا أم القرى وسرة الأرض المعمورة وأحب بلاد الله إلى الله ورسوله في السنن المشهورة. ثم إن أيمن ما حولها من البلدان وأبركها مملكة اليمن المحصوص بالبركات الثلث النبوية في جواهر السنن منبع الحكمة ومعدن الفقه والأيمان من سالف الزمن. فخصصت هذين القطرين في هذا الكتاب بذكره ما يتعلق بهما في هذا الفن من بيان البقاع والبلاد والمدن والجبال والبحار وشرح المنازل والمغاني والمقادير والمسافات في المفاوز والمقار ثم تصوير كل بقعة منه حتى كأنك تراها رأى العين وتوقف بها على أرجائها فيغنيك ذلك عن ألاين في البين. ولا يعدم كل بقعة من نادرة جرت فيها الأخبار وشعر نظم في سلكها قديما من الأشعار. وهذا أوان الشروع في مقصود الكتاب وتسهيل الحجاب وفتح الباب والله ميسر الأسباب إنه كريم وهاب.
ذكر أسماء مكة وصفاتها
سماها الله بأربعة أسماء: مكة والبلد والقرية وأم القرى. قال الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة) . فإذا الكلام على هذا الاسم قال الزجاج: مكة لا تنصرف لأنها مؤنثة وهي معرفة. ويصلح أن يكون اشتقاقها بكة لأن الميم تبدل من الباء كما يقال ضربة لازب ولازم، ويصلح أن يكون اشتقاقها من قولهم مككت العظم إذا مصصته مصًا شديدًا حتى لا يبقى فيه شيء شبهت بذلك لشدة ازدحام الناس فيها، وقال أبن فارس: مككت العظم إذا أخرجت مخه والمك الاستقصاء. وفي الحديث: لا تمككوا على غرمانكم. وفي تسمية مكة بهذا الاسم أربعة أقوال: أحدها أنها مسافة يأتوها الناس من كل فج عميق فكأنها هي التي تجذبهم إليها، من قول العرب أمتك الفصيل ما في ضرع أمه، والثاني من قولهم مككت الرجل إذا أردت تخوفه فكأنها تمكك من ظلم فيها أي تهلكه، كما قال:
يا مكة الفاجر مكي مكا ... ولا تمكي مذحجا وعكا
1 / 1
والثالث إنها سميت بذلك لجهد أهلها، والرابع لقلة الماء بها. وقد اتفق العلماء أن مكة اسم لجميع البلدة، واختلفوا في بكة على أربعة أقوال: أحدها أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة قاله أبن عباس ﵄، والثاني إنها ما حول البيت ومكة ما وراء ذلك قاله عكرمة، والثالث إنها اسم للمسجد والبيت ومكة اسم للحرم كما قاله الهروي، والرابع أن بكة هي مكة قاله الضحاك واحتج لتصحيحه أبن قتيبة وقال بأن الباء تبدل من الميم ويقال ضربة لازم ولازب. وأما اشتقاق بكة فمن البك: يقال بك الناس بعضهم بعضًا أي دفعه. وفي تسميتها بكة ثلثة أقوال: أحدها لازدحام الناس بها قاله أبن عباس، والثاني تبك أعناق الجبابرة أي تدفها فما قصدها جبار إلا أهلكه الله قال ابن الزبير وأما تسميتها بالبلد فقد قال ﷿: (لا أقسم بهذا البلد) يعني مكة والبلد في اللغة صدر القرى. وأما تسميتها بالقرية فقال الله ﷿: (ضرب الله مثلًا قرية كانت آمنة مطمئنة)، أي ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى انتقال عنها لخوف أو ضيق، يأتيها رزقها من كل مكان، الرزق الواسع الكثير يقال أرغد فلان إذا أصاب خصبًا وسعة، فكفرت بأنعم الله، أي كذبت محمدًا (، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، وأصل الرزق بالنعم وأكثر اشتقاقه منه وذلك أن الله تعالى عذب كفار مكة بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة وكانوا يخافون من رسول الله (ومن سراياه. والقرية اسم لما يجتمع فيها جماعة كثيرة من الناس وهذا اسم مأخوذ من الجميع يقال: قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه ويسمى ذلك الحوض مقراة.
وأما تسميتها بأم القرى فقد قال الله ﷿: ولتنذر أم القرى ومن حولها يعتى مكة، وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال: أحدها أن الأرض ديحت من تحتها قاله أبن عباس وقال أبن قتيبة لأنها أقدمها، والثاني لأنها قبلة يزورها الناس، والثالث لأنها أعظم القرى شأنًا، والرابع فيها بيت الله ﷿ ٠٠٠٠.
قال أبن المجاور: ومما قرأت في كتب الفاكهي قال: قال لي رجل من أهل مكة قال أعطاه كتابا بعض أشياخه فإذا فيه أسماء مكة فإذا فيه مكتوب: بكة ومكة وبرة وبساسة وأم القرى والحرم والمسجد الحرام والبلد الأمين: وقالوا ومن أسمائها صلاح، وقال القائل في ذلك٠٠٠٠٠٠ صلاح، وقال كانت تسمى في الجاهلية النشاشة لأنها تنش من فيها أي تخرجه منها. قال أبن المجاور: وحدثني هندي بالهند إنها تسمى عند الهنود مكي مسير. وقال بعض الفضلاء: اسمها كوسا، واحتج بقول الشاعر:
سألت عمرًا عن فتى اسمه ... يحيى وثاني اسمه عيسى
فقال: يحيى أبصرته جالسًا ... بالفج يحلق رأسه موسى
وأبصرت عيسى داخلًا قرية ... هي التي قد سميت كوسا
ويسمونها التجار عروق الذهب ويسمونها البغاددة مربية الأيتام. وقد ذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن مكة من الإقليم الثاني تنسب إلى المريخ وبناها إبراهيم الخليل ﵇. وهواها صحيح وجوها طيب وليلها أطيب من نهارها لأنها تنزل في لياليها الرحمة من بها. وماؤها من الآبار وأطيبها ماء الشبيكة والوردية والواسعة وهي بئر وراء جبل أبي قيس، فيها يربح الفقير. وجميع ذلك بنته أم العزيز زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور.
وأهلها عرب أشراف من نسل علي بن أبي طالب وما بقي من أهلها قرشيين على مذهب الأمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهم رجال سمر لأن جلة مناكحهم الجوار السود من الحبش والنوبة، وطوال الجثث صحيحين اللغة قليلين المال كثيرين العشائر والقبائل ذوو قناعة. وقد قال الني (: " القناعة غنى "، وقال ﵇: " القناعة كنز لا ينفذ "، وكان أحدهم يبقى على قرص وقيل سمن ثلاثة أيام بلياليها. وفي ذلك أنشد الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول:
أمت مطامعي وأرحت نفسي ... فإن النفس ما طمعت تهون
وأحييت القنوع وكان ميتًا ... وفي إحيائه عرض مصون
إذا طمع أحل بقلب عبد ... علته مذلة وعلاه هون
1 / 2
وملبسهم النصافي النيسابوري الرفيع ويتحزم بنصفه الثاني ويرمى بما فضل منها. لبس نسائهم القنوع وقد تقدم ذكر القنوع في أعمال صنعاء والبراقع. ومأكلهم اللحم والسمن والخبز. وأساميهم سالم ومسلم وغانم وغنام وفراح وفارح وقاسم وهياب ونهاب ووثاب ومطاعم ومطاعن ومفرج وفارج وقاسم وقائم وضاحك وضحكان وسلاسل وفلال وسيار وهبار وراشد وشاكر ومشكر وفاضل وفضائل وطالب وظالب وواصل وحاصل وراجي ومترجي وراجح وناجح وفاتك ومالك ومهيوب وهياب ووهلس ورعاش وحواس وكناس وقادم ومقدم ومشمر وهانئ ومهنا وزاكي وطائب وظافر وناجي ومنجي وجابر ولاحق وسيار وصابر وجابر وعارس.
ذكر زواج أهل مكة
في العشر من ذي الحجة يخطب زيد بنت عمرو وفي العاشر من المحرم يدخل كل واحد منهم على عرسه بالنظرة والتظهير. قلنا: ولم ذلك؟ قالوا: لآن كلا منا يعيش مع الحاج في كل فن من الفنون من إحرام وحلال فإذا رحل الحاج دار الخطب والنكاح والأفراح والأعراس بين الناس. فإذا تزوج رجل من أهل مكة وقطع المهر وأراد الدخول على المرأة يخضب الرجال أيديهم وأرجلهم تزين وكذلك جميع أهل اليمن وحضرموت. ويحضر كل أصدقائه من الأهل والأقارب وبيده قرطاس مشرور مكتوب عليه اسم الآتي مع وزن المبلغ وعدده يقدمه قدام العروس كل على حاله وسعة ماله وكذلك يفعل النساء. ويخرج العروس إلى الحرم ويطوف سبعًا ويصلي وقام إبراهيم ركعتين ويقبل الحجر الأسود ويخرج بالشمع إلى بيت العروس فتجلى عليه ويدخل عليها ويبقى عندها سبعة أيام. ففي اليوم السابع يخرج يضم الطرح الذي طرح له ويدبره رأس مال في يده وعند ذلك يفتح له دكانًا يعيش به. ويكون ذلك الطرح دينا عليه وكل من تزوج من القوم الذين حضورا العرس يدر إليهم الذي اخذ إلى كل واحد من القوم مثل الذي جاء به إليه أو أزيد منه، وكذلك يفعلون في سائر أقاليم اليمن.
وكانت أهل مكة في سالف الدهر يشترون العبيد ويقطعون عليهم قطعة تعطى لسيده كل يوم بيومه، وكذلك النساء تقطع المرأة قطعة على جوارها في تحصيل الذهب فترجع الجارية ترجو الفرج أو تبذل الفرج للرجل والحرج في هرج ومرج. وإلى الآن هذا موجود في عدن من الغريب وأهلها وليس هذا الفن عندهم عار بل يفتخر النساء بذلك. وكذلك كان في أيام الجاهلية كل جارية لا تبذل فرجها ينكر عليها إلى أن نزلت هذه الآية: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا فهي من ذلك العهد وعم على ذلك العهد باقون) . وإذا خرج السيد والعبد الجارية إلى أشغالهم خليت المرأة في الدار وحدها حتى إنها تبرك على أربع إذ ليس لها شغل تشتغل به فيرجع بروكها على وركها عادة وألفوه إلفًا. ويقال إذا تخاصم رجل وامرأته واغتاظت المرأة منه غاية الغيظ تقول المرأة لزوجها: لا شك أنك على أني أكسره، والمعنى أنك تريد أن اقعد على عجزي، فيقول لها زوجها: بالله عليك لا تفعلي ذلك.
فصل
1 / 3
دخل سيف الدولة بن عبد الله بن حمدان على بنت عمه ويقال بنت خاله وهي باركة على أربع وهي تنظم لها حب عقد لؤلؤ فقال لها سيف الدولة: بكم هذا؟ قالت له: بالموصل. قال لها: اشتريت. فقالت له: وأنا بعتك. وقضى منها شغله ٠٠٠٠٠ فلما أصبح من الغد جاء الخادم يتقاضى ثمن ما اشتراه فقال سيف الدولة للوزير: اكتب لها منشورًا بتسليم الموصل! فما أعجب الوزير هذا القول وامسك عن الكتب. فقال له سيف الدولة: أكتب لها فو الله لقد أخذت منها فردًا يسوي جملًا احمرًا أو يقال جمل عراقي. كما قال: نعم أقول لو أن القول مقبول. ظل الهوى وتمادى القال والقيل ليس السلام بشافي القلب من دنف. ما لم يكن فيه تخميش وتقبيل وليس يرضى محب عن أحبته. حتى يفوز بما ضم السراويل. ولأجل ذلك تكبر أعجاز نساء الحجاز لأنهم يربونه قاصدًا. ويطلع بها من جميع الخضر مثل البطيخ والخيار والقثاء والباذنجان والكراث ويأكلونه بالتمر والفجل وما أشبه ذلك وبها الرطب الطيب من البرني والمكتوم. ويقال إنه كان في قديم الأيام يجتمع بها من جميع الأزهار والفواكه والثمار والرياحين ومن جملة ذلك أنه كان يزرع في زهران الزعفران. وكان يرفع ذلك إلى بغداد كل عام بعد الخرج والمون ثمانون ألف دينار وقيل ثمانية عشر ألف دينار وهو الأصح. وجميع ذلك كان من الزرع والضرع ودخل الأشجار وجني الثمار وسقي الأنهار ومراعي الإبل ودخل النخيل. فلما دار الدهر نقص جميع ما ذكرناه لاختلاف النيات مع قلة الأمانات. وكل من بها يستعمل الطيب من الرجل والمرأة. وفي يد كل واحد من القوم سيف ولم يرموا العدة من أيديهم إلا في شهر الله الأصم رجب عظم الله حرمته.
وبناه البلد بالحجر والجص وبناء الطبقة الثانية بالشكل، وهذا في زمان معاوية بن أبي سفيان. وصارت بعده في أيام أبي عبد الله محمد المهدي بالله أمير المؤمنين لما بني الحرم الشريف كل دار تشابه حصنا من الحصون لأجل أحكامها. وبني الأمير هاشم مدينة ظاهر مكة بين درب الثنية والمسفل تسمى مربعة الأمير فكان يسكن بها جنده وخدمه وحشمه وبقي البلد عامرًا. وخربت في دولة الأمير عيسى بن فليته وبقي خراب إلى دولة الأمير قتادة بن إدريس بن مطاعم بن عبد الكريم وجدد فيها آثارًا ومواضع شتى وأراد أن يسكن فيه الغرباء وقريش ويسكن هو وجميع أهل الشرف مكة فمات على غفلة وبطل جميع العمل من طول الأمل. وأدار الأمير قتادة بن إدريس على مكة سورًا من الحجر والطين وذلك على رءوس الجبال وبطون الأودية وركب عليه أربعة أبواب: باب درب المعلى ينفد إلى عرفات، وباب درب الثنية ينفذ إلى مدينة الرسول (ويسمى باب جدة وباب العمرة، وباب المسفلة ينفذ إلى اليمن، وباب الصغير ينفذ إلى الصفا المصافي والصحيفة، وهو واد ليس عليه طريق على هذا الوضع والترتيب والله تعالى اعلم بالصواب.
ذكر ولاة مكة من آل الحسن بن علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه. الأمير منصور بن يكثر بن عيسى بن مكثر بن قاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن أبي هاشم بن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن عبد الله ب موسى الجون بن عبد الله ديباجة بني هاشم بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب. والأمير حسن بن قتادة بن إدريس بن مطاعم بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سلمان بن علي بن عبد الله بن موسى الجون، وهاهنا يرجع النسبيين إلى فرد نسب. فهؤلاء الذين نزلوا مكة من أيام دولة الأمام عبد الله الخليفة أبي جعفر بن هارون الرشيد إلى سنة تسع عشر وستمائة. وفي هذا التأريخ ملكها السلطان الملك المسعود صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن محمد بن أبي بكر بن أيوب بن شاذي بن مروان بن محمد.
ونقد البلد ذهب مصري وبها يضرب على عيار المصري يستوي الدينار أربعة وعشري علوي يحسب كل علويّ أربعة دراهم كل درهم ستة فلوس.
1 / 4
فلما رجعت الدولة لآل أيوب ضربوا الدراهم الكبار ويقال أول من ضرب هذا الدرهم الكبير بها المعز إسماعيل بن طغنكين في اليمن. وأول من ضرب الدراهم الكبار بمكة الملك المسعود يوسف بن محمد على قوانين اليمن يسوى الدينار المصري أربعة دنانير ونصف ملكي يصبح ثمان عشرة درهما يحسب كل أربعة دراهم دنانير دينار مكي، وكل درهم ثلث جوز كل جائز ثمان فلوس وكل فلس أربع درس. قال أبن مجاور: وكل ما كان يصح في أول العهد بعلوي رجع ذلك الشيء بدرهم كبير. والرطل مائة وثلاثون درهما وهو ستة أواق يحسب كل أوقية أحد وعشرون درهما وثلث وبه يباع جميع الحاوئج والعطر. ومن اليمن ثلاثمائة وعشرين درهما وبه يباع الثياب والسكر والعسل وجميع الحوائج الحلوة، ومن اللحم أربعمائة درهما وبه يباع اللحم والشحم والهريسة والمجبنة والألية، ومن السمن ثمانمائة درهما وبه يباع السمن والزيت والخل والشيرج. والذراع اليد في أيام الموسم وأيام الصدقة وإذا كان بعد الموسم بمدة شهر كامل زيد في الذراع وفي سنة أثنين وعشرين وستمائة زيد في الذراع ورجع الذراع على ذراع مصر. وكانت صنجة مكة في بغداد تصج المائة خمسة وتسعين دينارًا، فلما تولى ملك الحجاز طغتكين الكاملي نقص المائة الدينار فصار الآن تصح المائة المكية ببغداد أربعة وتسعين دينارًا. وجميع ما يباع بمكة مقايضة كج بكج. ويباع الحنطة وسائر الحبوب بالصاع ويحسب الصاع أربعة إمداد وكل مد أربعة أرباع الرطل. ويباع الادم بالبيعة كل بيعة مائة من يصح الحمل بيعتين ونصف. ويحسب العوار ثلاثة أضعاف: عوار الذي يكون في أوسط الطاق خدش سكين في رقبة الطاق، والثاني الشعراني وهو الذي يكون في الشعر، والمقفع يكون قد تقفح الكيمخت من على الجلد، وكذلك اليابس من الدهن والخفيف والأسود. والأديم الجيد وهو الثقيل النقي الطاهر عتابي الوجه مشتبك بعضه ببعض مبرأ من العيوب التي ذكرناها.
قال أبن المجاور: هذا في اليمن ونواحيها يكون يسوي كل مائة من بخوارزم على الصفة التي ذكرنا سبعين دينارا. ويدبغ الأديم في جميع أقاليم اليمن والحجاز ونواحيها ويبيعوه طاقاتٍ بالعدد وكذلك الحبشة وأعمالها ويسموه العجم أديم خوش وفي كشك من أعمال الهند كذلك. وما تدبغ الأديم إلا بالقرظ، ويدبغ في مكة جلود الجمال والبقر والغزلان وكان مسافرو خراسان يشترون جلود البغال الفحولة من رستاق الموصل وسواد إربل وتدبغ في مكة، وقد بطل جميع ذلك من سنة عشر وستمائة لظهور الكافر بخرسان والري. والأديم الخفيف يصلح للعراق والشام لأنهم ينشرون الطاق حتى يجعلوه على الكيمخت، وما يريدون في خوارزم وخرسان إلا الأديم الثقيل لأنهم يبطنون به الخف. ويقال في الأثمان يسوي الخوارزمي وألفا أربع دوانيق ربكبه وخفه عشر دنانير وكذلك الروم. ويقال إن الصديق بمنزلة الرأس والعدو بمنزلة الرجل ولأجل ذلك لبست أهل هذه النواحي أرجلهم أجود ما يكون من الملابس. حدثني محمد بن رزق الله قال لي: هل ترون في خراسان كوكب سهيل؟ قالت: لا والله! قال: لهذا لم يصح لهم دباغة الأديم. قالت: وكيف ذاك؟ قال: كل إقليم يطلع عليه وفيه سهيل يصح فيه دباغة الأديم لأنه يحمره ويصيره إلى ما ترى من الليونة والنعومة.
من مكة إلى المدينة
على طريق بني عصية وهم الرو. من مكة إلى بطن مر أربع فراسخ وهو واد طيب وبنى فيه بعض أمراء مكة من الشرق قصرًا وهو الآن خراب. وإلى الهدى أربع فراسخ وإلى برزة أربع فراسخ وإلى شابة أربع فراسخ وإلى المدينة قدر أربع فراسخ. وإلى هجر سبع فراسخ أرض عزة وهي أرض بني سليم التي فتحها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ذكر فتح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هذه الجبال
1 / 5
حدثني عيسى بن أبي البركات بن مظفر البغدادي بمكة قال: إني قرأت في بعض الكتب أنه كان لبني سليم في الجاهلية نحل عظيم فكان إذا جاءهم عدو دخنوا في الأكوارات يعني النحل فكان يطير ويعلو الجو يبان لناظره شبه غمامة من كثرته فإذا تعلى انحدر ونزل على خيل العدو ونكد عليهم فعند ذلك تنهزم خيل العدو من بين أيديهم. وكان بنو سليم قد قهروا جميع أعدائهم بهذا الفن وبقوا على حالهم إلى أن أظهر الله ﷿ الإسلام وخرج النبي (ومن معه من الصحابة إلى هذه الأعمال، ففعلت بنو سليم ما تقدم ذكره فلما صعد النحل الجو وانحدر على عساكر الإسلام نادى النبي (فقال: أين يعسوب الدين؟ فلم يجبه أحد فقال: أين أمير النحل؟ فلم يجبه أحد فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فلما سمع علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ذلك من لفظ النبي (جذب ذا الفقار وحمل على النحل فأدبرت النحل على أثرها راجعين على بني سليم ولدغتهم فهربت بنو سليم بين أيدي النحل إلى الجبال وبطون الأودية وفتح الله جبال بني سليم على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فلما إستتم الفتح واستقام النصر قال بعض الصحابة للنبي (: يا رسول الله شبهت علي بن أبي طالب باليعسوب وهو النحلة؟ فقال النبي (: المؤمن كالنحلة لا تأكل إلا طيبًا ولا يخرج منها إلا طيب فمن ذلك الحين والواقعة لقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بيعسوب الدين أمير النحل. وإلى الآن من هذه الجبال نحل أي عسل يشتري منه الحاج والحجاز وبعض أهل اليمن.
ذكر وادي أنظر
قال ابن المجاوز: رأيت في المنام ليلة السبت سادس شعبان سنة أربع وعشرين وستمائة كأن إنسان يقول لي: إن في أعمال المدينة يثرب وادٍ مسروق وجبال وشعاب لم يفتهم لأحد كيف دخوله. قلت له: ما يسمى؟ قال: وادي أنظر. قلت: وما المعنى فيه؟ قال: إنه سأل إنسان شيخًا من أهل هذا الوادي فقال له: من أين الشيخ؟ فقال: من وادي أنظر. قلت: وما المعنى في هذا الاسم؟ قال: لأنه وادٍ للإسلام به عز. قات: ومن أين سكانه؟ قال: هم قوم من أولاد حام بن نوح علية السلام وهم مع ذلك قوم لا عرب ولا عجم ولا هند ولا حبش ولا ترك ولا نبط بل لهم لغة منهم وفيهم. قلت: فكم يصح دوره؟ قال: فرسخين أو مسيرة يومين. ولا يزل الأمير قاسم أبن المهنا بن جماز الحسيني يرعى إبله ونعمه فيه وأرضه ذات مزارع وعيون وأمن وسكون، وقد خلت من ٠٠٠السبب في خلوها؟ قال: إن الله ﷿ قلب عاليها سافلها. قال ابن المجاور: وفي هذه الأيام قتل الأمير قاسم بن المهنا جماز ابن عمه شيحة وتولى يعد قتله الأمير هاشم بن قاسم على ملك مكة. ومع ذلك يمكن أن يكون هذا الوادي في هذه الأودية والجبال والشعب مسروقة لم يعلمه أحد من الأعراب سوى سكانه والعلم عند الله.
وإلى الخضراء من يثرب أبع فراسخ وبه أعين ونجيل ويسكن أهلها في أخدار الشعر إلى الآن. وإلى عين النبي (أربع فراسخ وهي عين جارية وعليها نخيل وهي أواخر الجبال والأودية وأول الفلاة والرمال وإلى عمق أربع فراسخ وبه أعين ونخيل، وأحرق نخلها الأمير عز الدين أبو عزيز قتادة بن إدريس سنة خمس عشرة وستمائة. وإلى نجد أربع فراسخ وتسمى مرك وهي أرض قفر وبها بركة عظيمة خلقها الرحمن، ويقال أغتسل بها ومن مائها النبي (فلا يزال الماء طول الدهر من بركات النبي (. وتمر على ثلثه جبال تسمى البرانين فإذا كنت طالب المدينة أترك جبلان منا على يسارك وإن كنت طالب مكة فأتركهما عن يمينك وأمش بالقرب من الجبال لكي لا تضل لأنه وادٍ فيه رمل أبيض يشابه دقيق السميد ولا شك أنه إلا في هذا المكان. وإلى بئر علي بن أبي طالب ﵁ أربع فراسخ وهي بئر عظيم البناء يروى الحاج منها ومن حولها من الأعراب ما عندهم من المواشي وغيرهم. وإلى قباء أربع فراسخ وكانت مدينة قبل المدينة وقيل بني في زمن النبي (وفي مسجدها قبتان إحداهما إلى المشرق والثانية إلى الكعبة لما أمر الله سبحانه النبي (أن يوجه وجهه نحو الكعبة لما قال: (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) ثم إلى المدينة فرسخ بين نخل باسقات شامخات.
ومن مكة إلى الطائف
1 / 6
من مكة إلى منى فرسخ. وإلى المشعر الحرام فرسخ. وإلى جبل عرفات فرسخ، مبتدئ وادي نعمن وفيه أراك ونخل.
ألا هل لأيام المحصب أوبة ... وهل لي بهاتيك القباب وحلول
وهل لليالي الخفيف بالخفيف مرجع ... وهل لمبيت بالجمار سبيل
وهل لي بأعلام المعرف وقفة ... وبالسرح من وادي الأراك مقبل
وإلى برقة ثلاث فراسخ وبه قبر الأمير شكر بن أبي الفتوح الذي أستفتح جدة. وإلى المرزة أربع فراسخ والأصل ستة فراسخ. وإلى الحجر فرسخين ويكون جوازك على جبل عالٍ يسمى عفر، قال أبن المجاور: ولا شك أنه يسمى غزوان وبه قال الشاعر:
إذا خفت يومًا من أمير عقوبة ... فلي باللوى من رأس غزوان منزل
بناء الطائف
قرأت في كتاب الفاكهي قال: حدثني الحسين قال حدثني على بن الصباح قال حدثني أبن الكلبي عن إياد بن نزار ويقال عن أبيه عن أبي صالح عن أبن عباس قال: كان بالنخع وثقيف رجلان من إياد بن نزار يقال لأحدهما ثقيف وهو قسي بن منبه أبن بنت أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار والآخر النخع بت عمرو بت طهمان بن عبد مناة بن يقدم بن أفصي بن دعي بن إياد بن نزار. فخرجا ومعهما غنيمات لهما فيها عنز لبون وهما يشربان من لبنها، فعرض لهما مصدق ملك من ملوك اليمن فأراد أن يأخذ من غنمها الصدقة. فقالا: خذ من أيتهن شئت! فقال: آخذ صاحبة اللبن. فقالوا: إنما معيشتنا ومعيشة هذا الجدي من لبنها. فأبى إلا أخذها فقتله أحدهما. فقال له صاحبه: لا يجمعني وإياك بلد ولا تحوينا أرض فإما أن تصعد وأنحدر وإما أن تنحدر وأصعد. فقال النخع: أنا اصعد، فأتى النخع بيشة فنزلها. ومضى ثقيف إلى وادي القرى فكان يأوى إلى عجوز يهودية يكمن عندها بالليل ويعمل بالنهار فعند ذلك اتخذته ولدًا واتخذها أمًا. فلما حضرها الموت فقالت: يا بني إذا مت فخذ هذه الدنانير وهي قضبان من الكرم فإذا نزلت بلدا فأغرس هذه القضبان فأنك لا تعدم منها رزقا. ففعل ثقيف ذلك ثم أقبل حتى نزل موضعا قريبًا من الطائف، فإذا هو بجارية حبشية على ظهر ترعى مائة شاة لمولاها. فأسر طمعًا فيها وقال: أقتلها وآخذ الغنم! فألقى في نفسها ما أراد بها فقالت له: يا هذا كأنك طمعت نفسك أن تقتلني وتأخذ غنمي؟ قال: نعم. قالت له: لقد عدلت ولو قتلتني وأخذت الغنم ما نجوت فأنا جارية عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان بن عمرو أبن قيس بن عيلان بن مضر وهو سيد أهل الوادي وأنا أظنك غريبًا خائفًا. قال: نعم. قلت: أفلا أدليتك على خير مما أردت؟ قال: بلى! قالت: إن مولاي إذا طلعت الشمس ليأتي إلى هذه الصخرة فيضع ثيابه وقوسه وجفيرته عندها وينحدر في هذا الوادي يقضي حاجته ويتوضأ من العين التي في الوادي ثم يرجع ويأخذ ما ترك وينصرف إلى رحله ويأمر مناديًا ينادي: ألا من أراد العيش والتجمع فليأت دار عامر بن الضرب! فيقبل جميع من أراد ذلك، فأكمن له تحت الصخرة وخذ ثوبه وقوسه وجفيرته فإذا رآك وقال: من أنت؟ فقل: غريب فأنزلني وخائف فأجرني وكفيء فزوجني إن كنت برًا شريفًا! فقال: أنا افعل جميع ما ذكرت. فال فخرج عامربن الضرب كعادته فاستخفى له ثقيف فلما دخل الوادي فعل ثقيف ما أمرته به الجارية فقال عامر بن الضرب: انطلق فانطلق معه فانحدر إلى قومه. ونادى مناديه فأقبلت الناس يهرعون إليه فأكلوا وتجمعوا. فقال لهم عامر: ألست سيدكم؟ قالوا بلى! قال: وقد أجرتم من أجرت وآمنتم من آمنت وزوجتم من زوجت؟ قالوا: بلى! فقال عامر: هذا قسي بن منبه، فزوجوه في الحال ابنته فولدت لثقيف عوف ودارس وسلامة، ثم تزوج بأختها بعدها فولدت له قاسم. وأقام بالطائف وغرس تلك القضبان من الكروم فنبتت وأطعمت. وبنى المكان فسمي الطائف لأنه طاف البلاد وسكن بها. وقيل ما سمي ثقيفًا لأن أباه ما ثقف حتى ثقف عامرًا حين آمنه وزوجه، وثقف الكرم حين غرسه فسمي ثقيفًا. حدثنا محمد بن أبي عمرو قال: حدثنا شعبان بن جريح عن مجاهد في قوله ﷿: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، قبل القريتين مكة والطائف، فأما الرجل فقيل هو عيبة بن ربيعة وكان ريحانة قريش يومئذ وقالوا بل هو مسعود بن معتب.
ذكر حصن الهجوم
1 / 7
حدثني أبو علي أحمد بن علي بن آدم البزلي قال: كان حصن الهجوم جبل مدور في وسط قاع صفصف فجاء الأنباط وهم من نسل اليونانيين النصارى ويقال الروم وقد بقى من تذاكيرهم طي القنوات ومجاري الأعين وحجر الطواحين التي يطحن عليها القرظ لأجل دباغة الأديم. قال الراوي: ودور كل حجر منها ثمانية أذرع في الارتفاع إلى سبعة أذرع. وليس هذا من عمل العرب لأنهم لا يتدبر لهم فيه عمل ولا يستدبر لهم في أيديهم ولا يتصور في خواطرهم بل هذا وما أشبهه من عمل الجبابرة وحكمة الأوائل. وما ذكرت ذلك الأحكام إلا لما نذكره من بناء الحصن وذلك أن الأنباط جاءوا وبنوا حول الجبل الحجر المنقوش المربع طول كل حجر منه سبعة أذرع في عرض ثلاثة أذرع ولا زال القوم في بنائه إلى أن حاذى البناء ذروة الجبل، فلما استتم البناء به على حسب المراد بما أراد الفكر بنوا بعده الأسوار والأبراج وهو على وضع ما تقدم ذكره. وركب عليه باب واحد وحفر في داخل القلعة بئر عظيم فظهر في البئر مع تمام الحصن الوافر ماء يحاكي الشهد في حلاوته والماء ورد في رائحته وعين الحيوة في صفاته. فلما دار الدهور بالسنين والشهور ارتدم ما بين الأمة من التقارب والاتصال تقاربت بهم الآجل وتباعدت عنهم الأحوال إلى أن أظهر الله ﷿ الإسلام ففتحها النبي (بالسيف. وبقى الحصن على حاله إلى أن وصل ملك الحجاز إلى الأمير عز الدين أبي قتادة بن إدريس فأمر بهدم الحصن فهدم خوف أن لا يعصيه فيه أحد من الأعراب ويبقى الحصن خراب إلى الآن خراب إلى الآن ويسمى عند أهلها حصن الغراب.
ذكر الوهط
حدثنا معبد بن عبد الرحمن المخزومي قال حدثنا شعيب عن عمرو بن دينار قال: كتب عمرو بن العاص في وصيته وذلك في الوهط وجعلها صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث: وهي للأكبر من أولادي المتبع فيها عهدي وأمري فان لم يقم بعهدي ولا أمري فليس له ولاء، يعني بذلك الوهط، حتى يرثه الله تعالى قائمًا على أصوله. حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال: عرش عمرو بن العاص في الوهط مائة ألف عود كل بدرهم. والوهط قرية من أعمال الطائف بينهما ثلاثة أميال فكان كل فاكهة الطائف ومكة من ذلك الوهط. حدثنا محمد بن موسى القطان قال حدثنا محمد بن الحجاج الثقفي قال حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عم عطاء عن أبن عباس قال: كان الطائف من أرض فلسطين فلما قال إبراهيم: ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم قال فرفع الله تعالى له موضعًا إلى الطائف في موضعها. قال حدثني محمد أبن فارس القرشي قال لي: ما بقى في الوهط من الشجر سوى شجرة توت وهي إلى الآن وقف عليهم.
ذكر سليمان بن عبد الملك
1 / 8
أبن مروان وخروجه إلى الطائف. حدثني محمد بن صالح البخلي قال حدثنا محمد بن إبراهيم قال: كنا مع عبد العزيز بن أبي رواد في المسجد الحرام فأصابنا مطر شديد وريح شديدة فقال عبد العزيز: خرج سليمان نب عبد الملك إلى الطائف فأصابهم نحو من هذا ببعض الطريق فهالهم ذلك وخافوا فأرسل إلى عمر بن عبد العزيز، وكانوا إذا خافوا شيئًا أرسلوا عمر فقال له سليمان بن عبد الملك: ألا ترى ما نحن فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا صمت رحمته فكيف بصوت عذابه! فخرج سليمان إلى الطائف قال فلما قدم إليها لقيه أبو زهير بني ثقيف فقال: يا أمير المؤمنين أجعل منزلك عندي! فقال: إني أخاف من الصداع. فقال: كلا إن الله قد رزقني خيرًا كثيرًا. قال فنزل ورمى بنفسه على البطحاء فقيل له: الوطاء! فقال: لا! البطحاء أحب إلي. فلزمه بطنه فأتى بخمس رمانات فأكلهن وأتوه بخمس. أخرى فأكلهن ثم قال: أعندكم غيرها؟ قالوا: نعم. فجعلوا يأتون بخمسة خمسة حتى أكل سبعين رمانة ثم أتى بخروف وست دجاجات فأكلهن وآتوه نصيب من الزبيب يكون فيه مكوك على نطع فأكله جميعًا ثم نام. وانتبه فدعا بالغداء فأكل مع أصحابه فلما فرغ دعا بالمناديل فكان فيها قلة من كثرة الناس فلم يكن عندهم من المناديل ما يسعهم، فقال: كيف الحيلة يا أبا زهير؟ فقال أبو زهير: أنا أحتال. فأمر بالصرح والخزامى وما أشبههما من الشجر فأتي له بما يمسح به سليمان يده، ثم شمه فقال: يا أبا زهير دعنا وهذا الشجر وخذ هذه المناديل أعطها العامة! ثم قال سليمان: يا أبا زهير هذا الشجر الذي ينبت عندكم أشجر الكافور هو؟ قال: لا فأخبره بخبره فأعجب سليمان. وقد قال امرأ القيس الكندي:
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامي ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ... إذا طرب الطائر المسنتحر
فلما فرغ قال أبو زهير: افتحوا الأبواب! ففتحت ودخل سليمان مع الناس فأصابوا بستانًا ذات أكمام وإتمام من الخير والفواكه فأصابوا الفاكهة. فأقام سليمان يومه ومن الغد ثم قال لعمر: ألا ترى أنا قد أضرينا بهذا الرجل! فرحل ونظر إلى الوادي وخضرته مع طيب رائحته فقال: لله در قيس أي وادٍ ننزل! ونظر إلى عناقيد عنب يظنها الحرار فقال له عمر: يا أمير المؤمنين هذه عناقيد العنب! فأقام سبعًا ثم رجع إلى مكة.
ووصف بعضهم النارنج فأنشأ يقول:
وروضةٍ يتركني زهرها ... بالحسن والنضرة مبهوتا
أنعت منه حسن نارنجها ... ولم يكن من قبل منعوتها
وصحت في الناس: ألا من يرى ... زبرجدًا يحمل ياقوتًا
وقال في السوسن:
سقيا لأرض إذا ما نمت ينبهني ... قبل الهجوع بها صوت النواقيس
كأن سوسنها في كل ساقبة ... على المبادين أذناب الطواويس
وقال في المنثور:
ومنثور حططت إليه رحلى ... وقد طلعت لنا شمس النهار
كشبة دراهم من كل فن ... يخالطه كبار مع صغار
وقال في الياسمين:
والياسمين أتاك في طبقة ... قد أكسر الناس٠٠٠ من عقبة
قد نفض العاشقون ما صنع الس ... بين بألوانهم على ورقة
وقال في اللينوفر:
ولازوردية تاهت بزرقتها ... بين الرياض على زرق اليواقيت
كأنها فوق طاقات لها صبغت ... ذبائل النار في أطراف كبريت
وقال في النرجس:
وأحداقٍ مسهدة عواني ... سرفن السحر من حدق الغواني
على قضب الزبرجد شاخصات ... حوين صفات نور الأقحوان
بأحداق من الكافور صبغت ... مكحلة الجفون بزعفران
صفة الطائف
1 / 9
الطائف سامية باردة الماء والهوى صحيح كثيرة الفواكه زراعتهم الحنطة اللقيمة التي تشابه اللؤلؤ، وأهلها من ثقيف وقريش على زي أهل مكة في الأكل واللبس. وأهلها يرثوا البنت عند الموت ولم يورث أحدهم بنته الدراهم، وكذلك بنو هذل ومضر وبجيلة وجميع أهل السراة وجميع العرب الذين هم سكان بأرض الحجاز وما حول مكة. وللقوم عصبية عظيمة إذا مات بها أحد لم يحمل جنازته إلا الشبان ومع ذلك يقولون: سلم سلمك الله هذا ما وعد الله نعم القاضي! وهم يتداولون بالنعش إلى الجبانة وهم الذين يحفرون القبر. حدثنا الزبير بن أبي بكر قال حدثنا عمر بن أبي بكر الرملي قال: اخبرني بعض أهل العلم من قريش قال: ما استن للنوائح وأحرباه إلا من بعد موت حرب بن أمية فناحت نوائحه وأحرباه فجعلن النواح للناس كلهم يقلن: وأحرباه! من ذلك العهد. وبه قبر عبد الله بن العباس ﵄. وجميع عملهم دباغ الأديم ويدبغ بها الأديم المليح الثقيل المعروف بها وهو الذي يصلح لخوارزم. وكل فريق يغرس في هذه البلاد يطلع مكتسبي وبه يطعن السدر وهو سويق النبق من نبق العراق ليس له شوك وكذلك شجرة في زبيد مما يلي القرنب.
من الطائف إلى جبل بدر
من الطائف إلى المعى ستة فراسخ وبه تنحت قدور البرم التي يفخر حجرها على سائر الأحجار. حدثني شيخ قدوري بهذا قال: إن احجر الأملس يعمل فيه الحديد إلا الفولاذ وإلى خبت عنتر خمس فراسخ وهو عنتر بن زبيبة العبسي، وهي ارض ذات شعاب ومكسّرات وبها بئر عذب فرات. وإلى حدان ستة فراسخ. وإلى بحرى خمس فراسخ وبه تزرع الحنطة في العام مرّتين بعد كل ستة اشهر مرّة وهذا خلاف كلّ العالم في الزروع. وإلى الدرب فرسخين. وإلى ارض ليلى العامريّة وقيس بن المللوّح ويقال أنّ ليلى العامريّة وقيس بن المللوح كانوا في هذه الأرض وماتوا بها. وفي قبيلها يقول الشاعر:
ألا لَيتَ أتى بالما عامريّةٌ ... إذا صابها ضيمٌ دَعت يالَ عامرِ
وإلى نوا فرسخ، أول معاملة بجيلة وهم الذين يسمون السرو.
ذكر السرو
فأما السرو فإنهم قبائل وفخوذ من العرب ليس يحكم عليهم سلطان بل مشائخ منهم وفيهم وهم بطون متفرقون. فإذا خرج أحدهم إلى سفر أتت المرأة إلى عند المخلف أي عشيق تلك المرأة يحاضنها إلى أن يرجع زوجها. فإذا قرب المسافر من منزله نادى بأعلى صوته: أيها المخلف اللجوج، فقد حان وقت الخروج! ويدخل المسكن غفلة فإن وجده في المسكن قتله وإن كان قد خرج فقد عفا الله عما سلف. وسألت رجلًا منهم في مكة فقلت له: أيها الرجل والنزيل ماذا يصنع المخلف؟ فرد أسوئ جواب فقال: يسحق الخبز ويمحق المرأة. وغاية حج القوم عمرة أول رجب وقد ضمن لهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضه تلك العمرة بحجة كاملة مقبولة. فإذا دخلوا مكة ملئوها خبزا من الحنطة الشعير والسويق والسمن والعسل والدخن واللوز والزبيب وما يشبه ذلك، ولذلك يقول أهل مكة: حاج العراق أبونا نكسب منه الذهب والسرو امنًا نكسب منهم القوت. يقال أن معاملة نوا مائتي قرية أو اكثر ومن جملة القرى المائتين المسلم وعقدة واليفوع وحدا والراهن وسعمون وبريف. وبها وقعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الأفعى فقتله، وبه جبل إبراهيم الخليل ﵇. ومنهور والفروات والشعبين واللقاع وحرف والرجعين وهي قرى جماعةٌ. وبهذه الأعمال كانت وقعة بني تميم وبكر بن وائل وفي حرب منها هلك لقيط بن زرارة أخو حاجب بن زرارة وحسن. وإلى الرداء ستة فراسخ. وإلى الملحاء ستة فراسخ وهو جبل عظيم والله اعلم.
ذكر جبل الملحاء
1 / 10
حدثني أبو علي احمد بن محمد بن آدم اليزني قال: لما ملك تبع جزيرة اليمن وأرض حضرموت وبلاد الأحقاف والحجاز وأراد أن يخرج إلى ناحية العراق فجاء إلى هذا الجبل وأراد أن يحفر فيه سربا عظيمًا فجهّز تحت الأرض مسيرة ثلاثة فراسخ أو اكثر من ذلك مستفل منحدر. فلما حفر هذا القدر أمر أن يحفر في أواخر السرب بلدا عظيما والأصح سوقًا عظيما بدكاكين متقابلة مصطفة على خيط واحد ما مقداره ألف دكان ونفر من وراء الدكاكين والدور والأملاك. فلما تم عمله ملأ كل دكان من الدكاكين صنفًا من الأمتعة والأطعمة ومن الحوائج والعقاقير وما يحتاج إليه من ثقيل وخفيف ذخيرة له. وحفر في وسط السوق بئرًا واسعا عميقا في الطول والعرض وجمع جميع الأموال التي كانت معه وكنزها في البئر وجعل الذهب بيان له لأنه قد نصب على خرزة البئر عمودا معرضا وفيه طلسم إذا انزل إنسان رجله على العود المعارض دار العود وفي العود سيف مصنوع قاطع يضرب الإنسان نصفين يرميه في البئر. قال ابن المجاور: وما اضن السيف اصله إلا من الصاعفة التي ضرب بها يافث بن نوح ﵇.
ذكر سيوف الصواعق
حدثني عيسى ابن أبي البركات بن مظفر البغدادي قال: أما سيوف الصواعق فثلاثة وقيل سبعة. وقال آخرون: بل أربعة عشر سيفًا ضربة في أيام يافث بن نوح ﵇. وذلك انه لما مات نوح ﵇ وقع الخلف بين أولاده في طلب الرئاسة فتفرقوا. فطلب يافث المغرب وبنى بها مدينة جابلقاه وطلب أخوه حام المشرق وبنى بها مدينة جابرسا. وأمّا ما كان من أمر يافث فانه جمع الأموال أموال الربع المسكون وعباها خزين وعمل عليها طلسما وركب السيوف على الطلسمات. وبقيت الكنوز على حالها إلى أيام ذي القرنين فحينئذ ابطل عمل الطلسمات واخذ ذو القرنين تلك الكنوز. قال ابن المجاور: وإحدى تلك السيوف في جبل الملحاء في البئر التي فيها الكنز الذي أودعه تبع. تبع. ويقال انه يسبك من الصاعفة وزن حبة خردل على الفولاذ ويضرب منه سيف لم يحمل لغمد بل يوضع في جراب خزف. وقيل إذا وقعة الصاعقة لم تسكن إلا إذا افلت عليها الخل وإنها إذا وصلت الماء وقفت وإذا لم يفلت الخل عليه فانه يخرق تخوم الأرض. والأصل فيه انه عمود من حديد جهنم نعوذ بالله منها.
فصل
1 / 11
قال الله ﷿: لابثين فيها أحقابا. قال بعضهم الحقب أربعة آلاف سنة والسنة أربعة عشر ألف شهر والشهر أربعة آلاف يوم واليوم أربعة آلاف ساعة والساعة مقدار سبعين ألف سنة من سني الدنيا. قال ابن سلام: مساكين أهلها نسأل الله أن يعيذنا من شرها، ويؤخذ قياس نارها وحديدها من قياس أيامها وساعاتها. ويقال إنّ السيوف المذكورة أربعة أصناف: الصنعاني يضرب في صنعاء متقدم قصير لأنّه سيف الرجالة يقطع اليابس والرطب وعلامته أن يكون في وسطه مرازب ويقال مرازب واحد، وكثير ما توجد هذه السيوف في جبال اليمن عند العرب. والكرماني قديم ضرب في أيام دولة ملوك العجم بكرمان وهو قضيب ماد ما بين القصير والطويل، وأصل هذه السيوف من الفولاذ هرات، وقيل بل كان عندهم معدن يستخرج منه الحديد، وغاية ما توجد هذه السيوف عند الأكراد الشارونية والبلوج والكوشان والاوغان والسرهدية من أعمال غزنة والإفرنجي سيف طويل ماد بالمرة وما يطولونه إلا لأجل الفرسان واصله من تكاسير نعال الخيل ويسقى من نداوة زرع بلادهم، لين المرة ويقطع في اللين دون اليابس ولربما قطع اللحم في البدن وسلم العظم. وغاية ما تجلب هذه السيوف المعروفة عندهم في علب الخشب، وعلامته أن يكون به كف إنسان فهو الجيد. ويقال أن الذي نقش على سيوفه ذلك ضرب أربعمائة سيف لم يضرب مثلها في الربع المسكون. فلما رأى ملك الروم هذه الصنعة الشريفة أمر بقطع يده اليمنى فلما فعل به ذلك ارتحل من المدينة التي كان يسكنها ونزل بمدينة أخرى فضرب بيده اليسرى أربعمائة سيف أخر ونقش عليها الكفوف. فما حرب سيف من تلك السيوف إلا تراه وهو حديد ابيض وفي وسطه مرازب. والهندي أصناف شتى فمن جملتها الباخرى يضرب في السند واصله من حديد وبولاد هرات وعلامته اخضر اللون كأنه السلق وشيء منه احمر يشبه لون النار يرفع الدرهم ويبرى مرسخ الجمل وصنف ثاني من الروهينيا يضرب في بعض الأقاليم يتلوى وهو قضيب ماد فيه جوهر شبه الغبار وهو ما بين ذلك قواما، والصنف الثالث فيه أهلة يضرب في خور فوفل ويقال بحار بيدها سيوف طوال عراض بالمرة ذات جوهر عال لا غليظ ولا دقيق إلا وسط وهو يقطع في اللين لا غير، ومنه فلالك الشاهي يضرب في الكوز ويقال في برهب سيوف طوال عراض بالمرة الواحد خفيف مرهف وعلامته أن يكون جوهره أربع أصابع وهو غليظ خشن كخشونة خضرة الكراث أوّل ما ينبت قد اشتبك بعضه في بعض شبه ثعابين ملتفين، وأربع أصابع منه شبه جمع الذر على الشيء حلو. ويبان الجوهر في أرض السيف شبه فضة شبكت مع الحديد يبان جوهره ابيض صافي والأرض منه زرقاء سماوي. ويقال إنّه أهدى إلى الملك قطب الدين أبيك الأبثل من هذه السيوف سبعين بندًا إلى سبعين سلسلة. ويرى فيها مائية نداوة شبه الماء الزلال، إذا رفعته أنحدر وإذا حططته صعد، يابس يقطع فيما يرطب وبه يضرب أعناق الجاوميس قدام البيوت في يوم عيد لهم. وخاصيته إذا معص فؤاد إنسان يغسل سيفا من هذه السيوف ويشرب ويشرب ماءه ويزول عنه ما يشكي من المعص. وإما السيوف في العالم فكثيرة الأصناف وتضرب في كل بلد وإقليم إلا هذه الأربعة الأصناف الذين ارتفعوا دون غيرهم وعرفوا من بين جنسهم ورفعنا بعضهم فوق بعض درجاتٍ.
ولنرجع إلى الحديث الأول
1 / 12
فصارت أهل هذا الزمان يدخلون كبب غزل الوبر ويصحبون معهم سراج ومقدحة وخطاف وفتل وبر يشد خيط الوبر في رأس باب الغار وكلما مشى أحدهم نشر الغزل والخطاف. فإذا وصلوا إلى الدكاكين رأوا فيها جميع الأمتعة والأقمشة وقد تهرأت من طول المدا والحديد قد علاه الصدأ والصفار قد تزنجر فيأخذ الجميع ما يرى فيه رمق ويجد بعض القوم ذهبًا وفضةً ودراهم. وإذا رجع القوم لا يزالون يكببون غزل وبرهم وهم راجعون إلى فم السرب فلذلك العمل دأب القوم. ويقال إنّ بها ثلاث طرق إحداها تنفذ إلى سوق عكاظ والثانية إلى جبل الملحاء والثالثة تنفذ إلى بريقة فيد وهي أقربهن مسافة. حدثني أبو علي بن آدم اليزني قال: كثير من الرعاة ممن يحمل الذهب على غنمه فيقوم الراعي يطارد الذئب يريد قتله فيقع على المطلب. وهو طريق تنفذ إلى وسط البئر التي تقدم ذكرها، وطريق وسطى وهي التي بجبل الملحاء، والبعيدة التي تلي سوق عكاظ. والمكان إلى الآن باق ينزله من أراد على تقدم ذكره. وإلى أبيدة فرسخ وهي قرية حصينة في واد نزه. وإلى العقيق ستة فراسخ وهو يدبغ فيه الأدم ومنه يجلب القرظ إلى مكة. وبها الأمير أبو الحسن بن المعلم يقول:
قل يا رفيق المستها ... م متى يفيق المستهام
هذى المنازل والعق ... يق فأين ليلى والخيام؟
وقال أيضًا:
قف بالخيام المشرفات على الحما ... وأمزج دموعك في مغانيها دما
وإذا مررت على العذيب فقل له ... هل شربة تروي من الظمأ
إني ندمت على الذين ترحلوا ... يوم الغوير وحق لي أن اندما
فوددت لو سمحوا على بعودة ... يبرا بها الطرف القريح من العما
يا عين لا يذهب بناظرك العما ... فلربما دنت الديار وربما
إن بات جسمي في سهام فإن لي ... قلبًا يتيمًا بالعقيق متيما
وإلى تبالة ثمانية فراسخ. وإلى الجبل ثمان فراسخ، وهو جبل بني بدر وجميع من بها يهود والحصن حصن مكين في طرف جبل عالٍ والله أعلم.
ذكر نهر السبت
قالت أهل الذمة: إنه في أرض التيه. وحدثني يهودي صائغ بعدن قال: إنّ نهر السبت في أرض يقال لها صيون والأصح أنه في الحجاز وهو نهر رمل سيال يجري من ليلة الجمعة إلى غداة يوم السبت لم يقدر الإنسان أن يعبره من شدة جريانه في ذلك اليوم ويسكن باقي الأسبوع. ووراء هذا النهر من اليهود مائه ألف ألف رجل وامرأة وهم يزيدون على العد خارجون عن الحد، والقوم عرب يعقدون القاف الألف في لغتهم، وهي جملة القوم أولاد موسى بن عمران ﵇. ويقال إنما حصلوا هؤلاء اليهود في هذه الأرض والأعمال إلا من غزوة يخت نصر البابلي لليهود بأرض الشام وديار مصر والأصح لإظهار الله ﷿ محمدًا (فخرجوا هاربين من خيبر ووادي القرى وسكنوا هذه الأراضي. إلى الآن إذا تاه بعض الحجاج بطريق مكة ووصل إلى القوم فبعضهم يقتله وآخرون يقبلونه ويردونه على احسن حال.
فصل
مما ذكره الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي في كتاب معرفة الأديان: مسلة شرعية، قال إنّ لليهود يومًا إذا عمل فيه إنسان شغلا حل دمه فإن لم يعمل فيه الشغل حل دمه. وما ذاك؟ قال: إذا ولد لليهودي طفل ففي سابع يوم الطفل يطهر أي يختن فإذا اتفق سابع الطفل يوم السبت وختن الطفل حل دمه لكسر سنته وإنّ لم يختن حل سفك دم والده مخالفة والده الشرع، وذلك شرعهم لأنه قال بترك الأوامر.
فصل
قال بعض النصارى: إنّ الإسلام عجيب! قلت: وما رأيت من العجب؟ قال: إنّ تنصر الإنسان حل قتله يعني لامتناعه في دخول الدين الحنيفي وإنّ أسلم قطع أي ختن فجريان الدم في الحالتين حاصل. وكذلك اليهود قتله في الحالتين حاصل على الخبر الأول والله اعلم.
ذكر شهور اليهود
1 / 13
قمرية وأواسط المسير: تشري ومرحشون وكسليو وطيبث وشفط وآذار ونيسن وإير وسيون وتمز وأوب وإيلل، ويعمل على هذه الشهور جميع يهود الرابع المسكون. وما الفسح؟ في أعياد اليهود خرج فيه بنو إسرائيل من مصر هاربين من بعد أن تخلصوا من العبودية وقربوا القرابين كما مثل لهم وهي سبعة أيام تسمى الفطير لا يجوز لهم أكل اللحم ولا إمساكه في الرحل، وفي اليوم الآخر منها غرق فرعون في بحر سوف وهو قلزم ويعرف هذا اليوم بالكس. ما العنصرة؟ هو السادس من سبون يسمى عشر مشتق من الاجتماع وهو حج من الحجوج لإدراك الغلال. ما الكفور؟ هو اليوم العاشر من تشري وهذا ربما يسمى العاشوراء، وأما الكفور فهو من تكفير الذنوب وهذا اليوم فقط هو الذي فرض على اليهود صومه والقتل على من لا يصومه، ومدة الصوم خمسة وعشرون ساعة يبتدئ بها قبل غروب الشمس في اليوم التاسع ويختم بمضي ساعة بعد غروبها في اليوم العاشر، ولا يجوز أن يقع الكفور في يوم الأحد ولا في يوم الثلاثاء أو يوم الجمعة. ما المظلة؟ هي في لغتهم مصلى وهي سبعة أيام أولها الخامس عشر من تشري وكلها أعياد يجلسون فيها تحت الظلال من الأغصان والخلاف والعنب والزيتون، وقد أمروا أن يسكنوا فيها تذكرًا لأظلال الله إياهم في أرض التبه بالغمام. ما العربا؟ تفسيره ما الخلاف وهو آخر عيد المصلى أعني بذلك الحادي والعشرين من تشري وهو أيضًا حج لهم. ما التبرك؟ هو عيد مشتق من البركة وهو بعد عربا بيومين. ما الحنكة؟ هو عيد مشتق الاسم من التنظيف وهو ثمانية أيام أولها الخامس والعشرين من كسليو يسرجون فيها على أبواب دورهم في الليلة الأولى سراجًا واحدًا وفي الثانية أثنين إلى أن تتم الثمانية الأيام ثمانية سرج، وذلك تذكر لهم من أصغر ثمانية إخوة قتلوهم بمتغلب عليهم كان يفرغ من عذاريهم وتطوف بيت المقدس على بغلة. ما البوري؟ اسم مشتق من الاقتراع والفال وهو الرابع والعشرين من آذار يتلو نيسن ويعرف أيضًا بعيد المجلة أي مغلًا وسببه أن هيمون وزير أحشويرش أي أبرويز بن أنوشروان كان يكايدهم أيام كانوا ببابل فدبر عليهم وأستأذن في صلبهم فانقلب الأمر عليه في هذا اليوم فصلب، ولهذا يعملون تماثيل مصلوبة ويحرقونها ويفرحون بذلك. ولليهود في شهره صيام ونوافل وأسبابها أمور حدثت فحرمته وأوجبت الامتناع عن الطعام.
وكذلك إذا حاضت المرأة عندهم يسكنونها وحدها وتعزل لها آنية تأكل فيها وتشرب منها ولا يقربها أحد حتى تخرج من طمثها أي حيضها، فإذا خرجت منه غدت إلى الحمام فغسلت وإمتشطت وتجيء بعد ذلك إلى بيت بئر تسمى طوى. قال ابن المجازي ولهم ببغداد بئر تسمى بئر طوى في محلة خرابة بين خرزة وهو بئر مدرج وقد عرض في وسط البئر عود على خرزة وقد ضرب في الخشبة سلسلة طويلة إلى أن يصل إلى آخر السلسلة ثم إلى قرار الماء. فتخلع المأة ما عليها من الأثواب وتلزم السلسلة ولا تزل تسقط في الماء أي تغوص وتنبع إلى أن تقول لها امرأة من أعلى البئر: نظفت أي تطهرت. فإذا سمعت المرأة ذلك علمت أنها طهرت من نجس الحيض. فحينئذ تلبس ثيابها وجميع اليهوديات يلقونها حين تطهر المرأة. ويقال في الأمثال: شاور المسلمين ونام عند النصارى وتعشى عند اليهود. ويقال: إنّ للمسلم فرجة وللنصراني ماله وللمجوسي رئاسته ولليهودي بطنه.
من الطائف إلى صعدة
حدثني محمد بن زنكل بن الحسين الكرماني قال: إنّ من الطائف إلى المعدن أربع فراسخ. وإلى الران ثمان فراسخ. وإلى مجرى ثمان فراسخ. وإلى الدورب أربع فراسخ. وإلى يافع ثمان فراسخ. وإلى عدا ثمان فراسخ. وإلى ران كسه أربع فراسخ وهو جبل ذو طول وعرض وعليه مجاز الخلق. وإلى صفى أربع فراسخ وهو سوق يقوم يوم الجمعة. وإلى خفن أربع فراسخ وإلى مدر أربع فراسخ وهو سوق يلتام فيه الخلق ليلة الجمعة. وإلى عضة عرين أربع فراسخ وإلى بلاد بني قرن أربع فراسخ وإلى بلاد بني عبد الدار عشرين فرسخًا. وإلى ذهبان سبع فراسخ.
صفة هذه الأعمال
1 / 14
وحدثني الراوي قال: جميع هذه الأعمال قرى متقاربة بعضها من بعض في الكبر والصغر وكل قرية منها مقيمة بأهلها، كل فخذ من فخوذ العرب وبطن من بطون البدو في قرية ومن جورهم يشاركهم في نزلها وسكنها أحد سواهم. وقد بنى في كل قصر من حجر وجص وكل من هؤلاء ساكن في القرية له مخزن في القصر يخزن جميع ما يكون من حوزة وملكه وما يؤخذ منه إلا قوت يوم بيوم. ويكون أهل القرية محتاطين بالقصر من أربع ترابيعه. ويحكم على كل قرية شيخ من مشايخها كبير القدر والسن ذو عقل وفطنة فإذا حكم بأمر لم يشاركه ولا يخالفه أحد فيما يشيره عليهم ويحكمه فيهم. وجميع من في هذه الأعمال لم يحكم عليهم سلطان ولا يؤدون خراجًا ولا يسلمون قطعة إلا كل واحد منهم مع هوى نفسه. بهذا لا يزال القتال دأبهم ويتغلب بعضهم على مال بعض ويضرب قرابة زيد على أموال عمرو وهم طول الدهر على هذا الفن. وجميع زرعهم الحنطة والشعير وشجرهم الكروم والرمان واللوز ويوجد عندهم من جميع الفواكه والخيرات وأكلهم السمن والعسل. وهم في دعة الله وأمانه وهم فخوذ يرجعون إلى قحطان وغيرهم من الأنساب.
وأما ذهبان
فهي أم القرى بلاد عز ويقال إنّ دور أعمالها أربعون فرسخًا وهي نجد اليمن والأصح أطراف أعمال نجد اليمن من شرقي تهاما وهي قليلة الجبال مستوية البقاع. ونجد اليمن غير نجد الحجاز غير أن جنوب نجد الحجاز يتصل بشمال نجد اليمن. وإلى بلاد قحطان أربع فراسخ وإلى راحة بني شريف فرسخين وادٍ فيه وضعت مدينة البصرة ويسمى درب العقيق. وإلى صعدة عشرين فرسخًا وهي مدينة ذات عمارة وأرض نزة ودرب آمن. قال ابن المجاوز: وفي هذا الطريق من الأمم والبلاد والمدن والقرى ما لا يعد ولا يحصى ول تحويه أقلام الدواوين أي في صنعة الحساب. وشرب أهل البلاد من أنهر سائحة وبعضهم يشرب من آبار ماؤها خفيف على افؤاد ذات هضم ولذة.
من الطائف إلى مكة
راجع من الطائف إلى حدب الرنج فرسخان وهو كهف جبل، وإلى الطود الأعظم ثلاث فراسخ جبل طويل وهو الذي يسمى الحجاز.
ذكر الحجاز
قال الأصمعي: سميت بذلك الحجاز لأنها احتجزت بالحرار الخمس منها حرة بني سليم وحرة واقم، ويقال احتجز الرجل بإزار أي شده على وسطه ومنه قيل حجزة السراويل وقول العامة حزة خطأ. وقال الخليل: لأنه فصل ما بين الغور والشام وبين البادية. وقال الجوهري: إنها حجزت بين نجد والغور. وقال أهل اليمن: مكة يمانية، والدليل على برهانه قول النبي (وقف على المتكا وقال: هذا شام وهذا يمن. وقال أهل الطائف: مكة تهامية لأن ما بين نجد وتهامة جبل يسمى الطود الأعظم فكل ما غرب منه فهو تهامة وما شرق فهو نجد. وقال أهل العراق: مكة أرض الحجاز. قال ابن المجاور: إنّ الطود الأعظم على هذا الوجه هو الحجاز بعينه لأنه حجز ما بين نجد وتهامة، ويقال إنه جبل متصل إلى اليمن. وديار العرب هي الحجاز التي تشتمل على مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها ونجد الحجاز المتصل بالبحرين.
وليس في سائر الأقاليم أطيب منه ولا من جوه وهواه، كما قال:
إسكندرية داري ... لو قر قراري
لكن ليلى بنجد ... وبالحجاز نهاري
1 / 15
وبادية الشام واليمن المشتملة على تهامة ونجد اليمن وعمان ومهرة وحضرموت وبلاد صنعاء وعدن وسائر مخاليف اليمن. فما كان من حد السرين فهي تنتهي إلى ناحية يلملم حتى تنتهي إلى ظاهر الطائف ممتدًا إلى بحر اليمن إلى بحر فارس شرقًا من اليمن فكيف ذلك نحو من ثلثي بلاد العرب. وما كان من السرين على بحر فارس إلى قرب مدين راجعًا إلى حد الشرق على هجر إلى جبل طيء ممتدًا على ظهر اليمامة إلى بحر فارس من الحجاز ومدين وما كان من حد اليمامة إلى قرب المدينة راجعًا على بادية البصرة حتى يمتد على البحرين إلى البحر فمن نجد. وما كان من عبادان إلى الأنبار ونواحيها لنجد والحجاز على طيء وأسد وتميم وسائر قبائل مضر بادية العراق. وما كان من حد الأنبار إلى بالس ونواحيها لبادية الشام على أرض تسمى برية حسان إلى قرب وادي القرى والحجاز من بادية الجزيرة. وما كان من بالس إلى أيلة موجها للحجاز على بحر فارس إلى ناحية مدين معارضًا لأرض تبوك حتى يتصل بديار طيء من بادية الشام وعلى إنّ من العلماء من يقسم هذه الديار وزعم إنّ المدينة من نجد لقربها منها وإنّ مكة من تهامة اليمن لقربها منها.
من مكة إلى جدة
من مكة إلى عين أبي سليمن فرسخ، وهي عين جارية وقد غريس عليه نخل وشجر السدر. وإلى مقتلة الكلاب فرسخ. وكان السبب فيه أن لرجل من الأعراب كلبًا فحمل الكلب على رجل من أهل الحلة فنيبه وعوره فقتل المنيوب الكلب، فجمع صاحب الكلب بني عمه وجمع المنيوب أهله وقام الحرب بين الفريقين ولا زالوا على قتالهم إلى أن قتل الجميع فعرف المكان بمقتلة الكلاب. وإلى الركابية فرسخ، وهي بئر حول جبلين على يسار الدرب تسمى رشان، وفيه بعض الأعراب يقول:
أيا جبلي رشان يالله خبرًا ... متى جازكم بدر الحجاز معرضا
وإلى وحدة فرسخ، وكانت أرض مزروعة لبني البدرية فباعوها فاشتراها منهم سليمان بن علي بن عبد الله بن موسى واستخرج العين وقيل كانت العين على حالها فبقيت في أيدي القوم مدة زمان يستعملونها في إدراك الغلال فاشتراها منهم الشريف الحسين بن ثابت السديدي وغرس في جميع البلاد نخلا مقدار عشرين ألف نخلة والقوم ملاكها إلى سنة اثنين وعشرين وستمائة. وفي هذا التأريخ ملك الأمير طنبغا الملك الكامل ولاية الحجاز وملك نخل الأشراف مستهلكًا لها وأخذ هذا النخل في جملة ما أخذه والنخل رجع الآن سلطاني. ويقال إنما عرف حدة بهذا الاسم لأنه آخر حدود وادي نخلة والأصح أنه من وادي الصفراء. إلى القرين فرسخ، بناية الأمير هاشم وكان يوقف في الموضع رتبة الخيل يجيرون القوافل في الطرق وكان لهم على كل جمل دينار علوية، وهو حصن صغير مربع مبني على أكمة بالحجر والجص وقد بنى على دوره ثلاثة عشر برجا صغار تحتها بئر طيبة الماء عذبة، وإذا قل لماه في حدة فمنها يستسقي الماء أهل حدة. ويقال سمى القرنين وقرنين إلا أنه اقرن نصف الطريق ما بين مكة وجدة، ويقال أقرن ببنائه العدل والأمن. وإلى كتانة فرسخ، يقال إنّ الله ﷿ اهلك الحبشة الواردين بالفيل من صنعاء بهذا المكان. وإلى الثدين ميل وهو بين جبال عوالي آخر الوطأة وأول الأودية وقد كان قصر بني بالجص والحجر والآن خراب. وإلى وادي السدرة فرسخ وهي شجرة سدر صغيرة على أيمن المحجة ومنها رجع النبي (، وكل من يجوز الوادي يأخذ من أوراقها لأجل البركة ولم تبرح السدرة على حالها لم ينقص منها شيء إلى الآن. وإلى الغار نصف فرسخ. وإلى الفج الأخضر نصف فرسخ. إلى الفرع نصف فرسخ. وإلى مثوب نصف فرسخ. وإلى أبو الرحم ميل وهو جبل صغير على ايسر الدرب. وإلى النهود ميل وهم اثنا عشر رجلًا متفرقين شبه الهنود. وإلى المينة نصف فرسخ وتسمى الحديبية، ويقال أن النبي (وصل إلى هذا فصار كلما سار تبعد عليه الطريق فرجع منها وقال: ما أبعدك لا قربك الله! والموضع سبخة طويلة في أرض وطيئة مثل الكف. وإلى جدة نصف فرسخ.
بناء جدة
1 / 16
حدثني موسى بن مسعود النساج الشيرازي قال: لما أسلم سلمان الفارسي رضه تسامعت أهلوه بالخبر فقصدوه وأسلموا على يد رسول الله (وسكنوا جدة لأنهم كانوا تجارًا، وقال بعضهم: بل هي بناء حرد بن وبربر بن يزدجرد بن شهريار بن بهرام. ومما ذكره أبو عبد الله محمد بن أسحق بن عباس في كتاب الفاكهي قال: أوّل من أتخذ جدة ساحلًا عثمان بن عفان وكان قبل ذلك بموضع يسمى الشعيبة. قال ابن مجاور: والشعيبة هو خور عظيم ومرسى قديم مقابل وادي المحرم لا شك أنه كان قبل جدة لأن ما في تلك النواحي مرسى أدنى منه ولا أمن عاقبة. قالت العجم: فلما خربت سيراف انتقلت أهل سيراف إلى سائر سواحل البحر كما تقدم ذكره فوصل قوم منهم اثنان أحدهما يسمى سيار والثاني مياس فسكنوا جدة وأداروا على البلد سورًا من الحجر انضم بالجص. فلما ابتدءوا في المقام بها بنوا هذا السور وجعلوا عرض الحائط عشرة أشبار فبقي السور على حاله حتى تمكنوا من المقام بنوا على وجه السور سورًا ثانيًا من الحجر الكاشور منقوش أي منحوت مربع بالجص وجعلوا عرض الحائط خمسة أشبار فصار عرض الحائطين الملتصقين بعضهما إلى بعض خمسة عشر شبرًا. وركب عليه أربعة أبواب: باب الرومة، وباب المدبغة وكان عليه حجر حفر فيه طلسم إذا سرق في بلد سارق وجد بالغداة اسم السارق مكتوب في الحجر، وباب مكة، وباب الفرضة مما يلي البحر. وحفر حوله خندق عظيم في الوسع والعمق. فكان يدور ماء البحر حول البلد ويرجع ما فضل منه إلى البحر والبلد فيصير شبة جزيرة في وسط لجج البحر. فلما حصنوا الفرس البلد غاية التحصين خافت القوم من ضيعة الماء فبنوا ثمانية وستين صهريجًا داخل البلد وبنوا بظاهر البلد مثلها والأصح أنه بنى بباطن البلد خمسمائة صهريج وبظاهر البلد مثلها والله أعلم.
ذكر بعض الصهاريج
أبو الطبن عامر والمرباني والحفيرة والنخيلات وصهريج بكر والحجري والصرحي وصهريج السدرة والحوار والفرحي وصهريج يحيى الشريف والودية والمبادر وصهريج البيضة والبركة وصهريج أم ضرار وصهريج بركات وصهريج سليمان العطار والطولاني والعرضاني. فكان إذا وقع الغيث وامتلأت منه الصهاريج التي بظاهر البلد كانت العبيد تنقل ماء الصهاريج على الدواب فتقلبه في الصهاريج التي عندهم في الدور. وكذلك صهريج الأخميني وصهريج الأبنوس وصهريج ردرية وصهريج محمد بن القسم. وكان يبقى الماء عندهم من العام إلى العام وهم في أكل وشرب وغسل وهزل وجد وهرج ومرج.
ذكر خراب جدة
انفذ أصحاب مكة إلى شيخ التجار بجدة وطلب منه حملًا حديدًا، فقال الشيخ للغلام وهو واقف عنده: أعطه حملًا حديدًا! فجاء الغلام فأعطى الرسول حملًا حديدا. فلما فتح الحمل الحديد قدام الأمير بمكة وجده قضبان ذهب، فرد الرسول راجعًا وقال: قل للشيخ يتفضل وينعم وينفذ إلي بحمل ثاني من حديد هذا العين. فلما علم التاجر بقصة الحال نادى الغلام وقال له: ما أعطيت الرجل؟ قال: حمل حديد اصفر من طول الخبأ وقد علاه الصدى من طول المدى. نتحقق الشيخ عند ذلك إنّ الحمل كان قضبان ذهب وعرف أن قد طمع فيهم، فقصد الشيخ إلى شيخ كبير كان عندهم في السن فشاوره في أمره وما يصنع. فقال له الشيخ: الذي عندي أنكم قوم موسرون فخذوا جميع ما تحتاجون إليه ويركب كل مركبه وينطلق في هذا البحر الواسع وأي موضع أعجب الرجل منكم نزله وسكنه بعد أن تخلون البلد جوف حمار أو كرأس ليس في خمار. فعند ذلك عبوا أمتعتهم في المراكب ورفع كل قلعه ودخلوا البحر وذلك في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة. ويقال برواية أخرى إنّ العرب جاءوا وحاصروا القوم فلما قل عليهم الماء ركبوا مراكبهم وعدوا في البحر فسكن قوم منهم السرين والراحة وعثر والجرعة والدرعة ودهلك وبيلول وجدة من الجزيرة فرسان والمخاء وغلافقة والأهواب والثميد وجزيرة ذهبان وكسران وبندر موسى وباب موسى. فلما خلت الأرض من الأحباب ملكها الأعراب في دولة الأمير داود بن هاشم. قال أبن المجاور: ورأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: ما استفتح جدة من الفرس إلا مضر بن هاشم والأصح شكر ابن أبي الفتوح. ومن عهدهم خربت واندرست وبقيت الآثار خاوية على عروشها كما قال الشاعر:
1 / 17
لا بلغ الله نفسي فيك منيتها ... إنّ كان بعدك بعد الدار غيرني
جعلت دمعي على ذكراك محتسبًا ... والدمع عنوان ما يخفي من الخزن
وأقسمت مقلتي ما لا تظن به ... فالذكر يجري ويجري الدمع في سنني
وقال لي قد بانوا فقلت له ... قد فرق الله بين الجفن والوسن
ولأني بكر أحمد العبدي:
يا راقد الليل بالإسكندرية لي ... من يسهر الليل وجدًا ثم أسهره
ألاحظ النجم تذكارًا لرؤيته ... وإنّ جرى دمع أجفاني تذكره
وأنظر البدر مرتاحا لرؤيته ... لعل عين الذي أهواه تنظره
وقال ابن الدمينة:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجدًا على وجدي
لئن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنني غصن من البان والرندِ
بكيت كما يبكي الوليد ولم يكن ... جليدًا وأبديت الذي لم يكن يبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وأنّ النأى يشفي من البعد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعدِ
وقال آخر:
ليالينا بذي الأثلاث عودي ... لتورق في ربا الأثلاث عودي
فإن حديثكم في القلب أحلى ... وأطيب نغمة من صوت عودِ
ذكر فضيلة جدة
مما ذكره أبو عبد الله بن محمد بن اسحق بن عباس في كتاب الفاكهي قال حدثنا محمد بن علي الصائغ قال حدثنا خليل بن رجاء قال ثنأ مسلم بن يونس قال حدثنا محمد بن عمرو عن ضوء بن فخر قال: كنت جالسًا مع عباد بن كثير في المسجد الحرام فقلت له: الحمد لله الذي جعلنا في أفضل المجالس وأشرفها! فقال: أنت في جدة الصلاة فيها بتسعة عشر ألف صلاة والدرهم فيها بمائة ألف وأعمالها بقدر ذلك يغفر الله للناظر فيها مد بصره. قال ابن المجاور: وما أظن هذه البركة إلا من جهة أم البشر حوى صلوات الله عليها لأنها مدفونة بظاهر جدة. وكان الفرس قد بنوا عليها ضريحًا بالآجر والجص محكمًا فبقي إلى سنة إحدى وعشرين وستمائة فبعد هذا التاريخ تهدم وأرتدم بعضها على بعض ولم يعاد بناءه ورأيته عامرًا قائمًا وقد رأيته خرابًا وقد ارتدم بعضه على بعض. وهو موضع مبارك مستجاب فيه الدعوة.
ذكر أخذ الجزية من المغاربة
حدثني إسماعيل بن عبد السيد بن السبع البغدادي قال: إنّ الأمير علي ابن فليتة بن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبي هاشم كان يأخذ من المغاربة جزية في جدة إذا قدموا للحج، كان يأخذ من كل رأس سبعة يوسفية وزن كل يوسفي ثلاثة عشر قيراطًا وحبة بوزن مكة. وكان القواد يوزنون المغاربة أيضًا على كل رأس يوسفي في دية الكلب. والمجب لذلك أن جاء في جدة كاب فأخذ رغيف خبز فالتامت المغاربة فقتلوه فقامت القواد ليقتلوا المغاربة. فلما رأت المغاربة عين الهلاك أقروا على أنفسهم أن يزن كل واحد منهم يوسفي في دية الكلب. فتقرر ذلك عليهم فكانوا يزنون لأمير سبعة يوسفية ويوسفي للقواد وصار المبلغ ثمانية يوسفية على كل رأس. ومن لم يزن كانوا يأخذونه ويدلوه في صهريج من صهاريج جدة والأصح في صهريج مسجد الأبنوس ويقال أنهم كانوا يصيرونهم إلى جزيرة صندلة وقيل إلى جزيرة أبي سعيد ويعلقون أحدهم بحقوة وقد عرش بها أخشاب لهذا الفن. فإذا حج الناس وقضوا مناسكهم وأفاض كل راجعًا إلى مقصده فحينئذ يخرجوا المغاربة من الصهاريج والجور وقسطوهم على المراكب الراجعة إلى مصر والراجعة إلى عيذاب والقلزم.
سئل قائد من القواد: لم تأخذون منهم هذا اليوسفي وهم أشد الناس بخلًا وأنزق الناس في الخلق؟ قال: لقول الشاعر:
وخذ القليل من البخيل وذمه ... إنّ القليل من البخيل كثيرُ
1 / 18
قال الحسن بن محمد بن الحوت: ليس هو كذلك وإنما كان يزن أحدهم سبعة يوسفية ونصف كل يوسفي ستة وعشرين قيراطًا وحبتين بوزن مكة، وفي دية الكلب نصف يوسفي صار المبلغ ثمانية يعقوبية، أسس ذلك في دولة الأمير عيسى بن فليتة وبقى يحيى على حله إلى أواخر دولة الأمير مكثر. فلما كثرت الأقاويل ووصل هذا الخبر إلى مسامع العالم أنفذ صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب إلى الأمير مكثر بأربعة آلاف إردب حنطة والأصح ستة آلاف أردب إلى جدة وإلى مكة وقال له: خذ هذا القدر وأترك عن المغاربة الجزية مع دية الكلب! فأزال الأمير مكثر ذلك كله سنة ست وثمانين وخمسمائة. وبقى الأمر على حاله في أيام الأمير قتادة بن إدريس بن مطاعم بن الكريم وأراد أن يرد الشيء إلى أصله يعني أخذ الجزية من المغاربة فأدركه الموت وارتفع عنهم. حدثني أبو الربيع سليمن بن الريع الطرابلسي قال: وكانوا ملوك الفاطميين يوزنون المغاربة جزية على كل رأس دينارين وقيراطين.
فصل
قال ابن المجاز: رأيت في المنام ليلة الثلاثاء ثالث عشرة ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة كأني حدثني الأمير ناصر الدين فاروت والي عدن وفي هذا التاريخ تولى إمرة الحج إضافة إلى ولايته الأولى وكان الحاج قد رجع من مكة إلى اليمن وكأنه يقول من حج ورجع إلى الهند يوزنه عبد الغفور بن أحمد بن محمد بن الصناديفي البصري جزية عن كل رأس أثنين وتسعين فيلي ولو أن الحاج عقال لما سافروا إلى الهند إلا في مركبي حتى كنت أعطيهم مقرعتي فيأمن فيامن القوم من شر عبد الغفور في أخذ الجزية منهم وبنو مهدي ولاة زبيد ما كانوا يستحلون أخذ المكوسات من ما خلا الحاج وإنهم كانوا يأخذون منهم مقام الدرهم ثلاثة دراهم.
ذكر الجار
وهو موسى قريب من جدة ترسي فيه المراكب الواردة من الديار المصرية وهو بحر أسود جيفة وموج هائل تبطل فيه حيلة السابح.
فصل
سمعت من ألفاظ جماعة بمكة وغيرها أنه وقع من يد بعض السراملة قدوم بهذا المكان فشد في وسطه جراب ونزل ليأخذ الفأس فلما غور في النزول سمع هاتفًا يقول له: إلى أين أنت نازل يا عبد الله؟ فقال: نزلت لأخذ ما أنفلت من يدي. فرد عليه الهاتف: انفلت من مركب بهذا المكان أنجر فهو في النزول إلى قيام الساعة. والله اعلم واحكم.
ذكر جزر الخيل
يقال أنه كان في قديم العهد لم يكن هذا بحر وإنما كان عرصة إلا إنه لا فرق بين بر العرب وبر السودان. فلأجل ذلك إن السودان كانت تملك إقليم اليمن جميعًا دئمًا في زمن الجاهلية والإسلام. ولما كثر الماء في البحر وظهرت صعوبته من قريب صاروا يعدونه في المراكب، فلما عرق البحر هذه الأرض وكل موضع كان عليها رجع جزيرة في البحر يقال لها جزر المطارد أي مطاردة الخيل. ويقال إنّ العرب غي قديم الزمان كانوا يطاردون الخيل في قعر هذا البحر لم كان ناشفًا. ويقال مربط الخيل بهذه الأمكنة والعلف والشجر موجود.
صفة جدة
هي مدينة صغيرة على ساحل البحر وهي فضة مكة، وليس يمكن بها السكن لازدحام الخلق بها في أيام الموسم الحاج لأنه يلتام إليها من جميع أطراف بلاد العالم والربع المسكون والبحر المعمور من ديار مصر والمغرب والهند واليمن. وإذا قل الماء على أهلها نقلوه من القرين من نصف الطريق ما بين مكة وجدة. وأهلها من نسل العجم وبناءهم من الحجر الكاشور وخوص وكلها خانات. والخان المعروف بها خان البصر وهما خانان متقابلان بمخازن كبار. ويقال أنه بني بظاهرها الأمير شمس الدين طنبغا خان كبير عظيم ينة ثلاث وعشرين وستمائة. وكل من بنى بها بيت خوص يزن للسلطان في كل بيت في السنة ثلاث دراهم ملية. وأما الدور التي هي بالحجر والجص فليس عليها شيء لأنها ملك لأصحابها وفي تصرب أربابها. ويقال إنّها سميت جدة إلا إنّها دفن بها أم البشر حوى ﵍ فهي جدة جميع العالم فلما بني هذا البلد عرف باسم جدة أي حوى زوج أبي البشر ﵇. ويقال إنّها سميت بلاد العرب جزيرة لأحاطة البحار والأنهار من أقطارها وأرجائها فصارت بلاد العرب جزيرة من جزائر العرب.
ومن مكة إلى الرحالب
1 / 19
من مكة إلى القرين فرسخ، بناء الأمير هاشم. وإلى البيضاء فرسخين، وإلى أيدام ثلاث فراسخ، بئر حفره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وجدده القائد الحسين بن سلامة. وإلى وادي المحرم ثلاث فراسخ ومنه يحرم حاج اليمن. وإلى فرع خمس فراسخ، أرض بني شعبة. ليس يلبس نسائهم إلا الأدم وذلك إنّ المرأة تأخذ طاقين من أديم تخيط بعضة إلى بعض وتقور فيه قوارة وتكتسيه فإذا مشت بان جميع بدنها من فوق ومن تحت، وإذا رأى غريب المرأة على ذلك الزي يقول لها: استري فيقول زوجها أكسها وإنّ كانت الورأة عريانة وهي لابسة فيقول له زوجها: اكسها فان كساها وإلا قتله لأنهم يقولون: من ستر غيره. ولم يكن في جميع العالم أصل من هؤلاء القوم ولا أسرف ولا أجرم ولا أخسر منهم في أخذ مال الحاج لأنهم يسمون الحاج جفنة الله، فإذا قيل لهم في ذلك يقولون: إذا حضر جفنة الله لخلقه أكل منه الصادر والوارد. وإذا قلت لأحدهم: قطع الله رزقك من الحرام يقول: لا بل قطع الله رزقك من الحلال! ما ترى عندنا من خير سوى هذه الجبال السود لا لنا زرع ولا ضرع ولا أخذ ولا عطاء، وجميع ما تعملوه انتم الحاج آخر جاء مقابل الكعبة من الفضائح والغنائم فسلطنا الله عليكم حتى نستقضي للحاج منكم الحق وثلث الباطل. ولذلك تقول العجم في أشعارها:
ازسيم عرابي نه بل آيد نه رباطي ... زيراكه همه توشه حجاج ريابند
وإلى السرين ثلاث فراسخ، بناية الفرس على ساحل البحر. وإلى وادي الأثلاث ثلاث فراسخ. وإلى حصارة خمس فراسخ. وإلى حلى سبع فراسخ، بلد فيه جامع ومنارة. وأول من أخربها غازي بن متكلان من بني حارث الكردي في أيام دولة سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، وبقى المكان على حاله إلى أن أعاد بناءه موسى بن علي بن عطية وهو إلى الآن مالكها، وجميع هذه الأعمال لبني كنانة. وإنما أشتق اسم حلى من الحلي الذي جمعه السامري من بني إسرائيل في أيام هرون بن عمران ﵉ وجعل صورة عجل كما قال الله تعالى: (فأخرجَ لهم عجلًا جسدًا له خوارٌ.) وفي مشارق هذه الأعمال قوم يقال لهم البهيمية وهم يرجعون في الأصل إلى آل عامر ويرجع آل عامر إلى سنحان. فإذا نزل بهم ضيف يقول له: بما تعشى؟ يقول: بكذا! وبم تغدى؟ وما يقدم له إلا ما طلب وإشتهى عليهم. فإذا تعشى يقول الرجل لزوجته: روحي أكرمي الضيف! فتجيء المرأة فتنام في حضن الضيف إلى الصباح بلا خوف ولا حذر ويقوم الصبح كل يغدو إلى شغله. فإذا خطب زيد بنت عمرو وأنعم له عمرو بإجاب القول دخل زيد إلى بنت عمرو وإستفضها وبات معها طول ليلته، فإذا أصبح خرج وترك نعلاه في بيت بنت عمرو فيعلم إنّه رضى بها فحينئذ يعقد عقد النكاح. وإن لبس حذائه وغدا علم عمرو أن زيدًا لم يرض ببنته. وهذا من أجاويد هؤلاء القوم. ومصاغهم الصفر والحديد والرصاص ولبسهم الجلود المدبوغة وجواهرهم الودع ومهرهم قطع الطريق ومنع السبل. وإلى الدبساء خمس فراسخ. وثغر وادي عمق وهو سخل ويعرف بشرم الجارية، خور من البحر يخاض فيه مخاضة. وما عرف بها إلا إنّه خاضته الحجاج فلما توسطوه زلق جمل وعليه جارية وقعت الجارية في البحر فأخذها المد وراحت فعرف الشرم أي الخور بالجارية. وإلى ذهبان أربع فراسخ وسكانه عرب مجمعة من بني أسد وبني ريح وبني معاصم وبني رفدة إذا نزل بهم نزيل يقولون له: بؤس وساحق وعض وعانق، يعني صاحبة البيت، ولا تدخل معها أي لا تطأها فإذا أدخلت معها أدخلنا معك هذا الخنجر. ويسمى وادي الدوم وما سمى بذلك إلا لكثرة نخل الدرم بها وهو شجر المقل. وفي وادي الدوم يقول الشاعر:
وآخر عهدي منك يوم لقيتني ... بأسف وادي الدوم واثوب يغسلُ
ويرى جبل كدمل مما يلي البحر.
ذكر جبل كدمل
1 / 20