Tarikh Misr Min Fath Cuthmani
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
Genres
فتولى السلطان «سليم الأول» (918-926ه/1512-1520م)؛ فكان من أعظم سلاطين العثمانيين وأكثرهم انتصارا وفتحا، وكان مجيدا لقيادة الجيوش والسياسة، كثير الاطلاع، ولوعا بالأدب، إلا أن شيئا يخالطه من القسوة والميل إلى سفك الدماء، وقد قيل إنه قتل من أقاربه وعماله ما لم يقتله أحد قبله ولا بعده من ملوك آل عثمان. ورأى السلطان سليم أن يقف فتوح الدولة في أوروبا فترة، وأن يستعيض عن ذلك بالاستيلاء على شيء من ممالك الشرق النفيسة.
فبدأ بدولة فارس، وكان على عرشها حينئذ الشاه إسماعيل الصفوي، وكان قد ذاع صيته بفتوحه في المشرق، وأصبح لا يبالي بنشر مذهب الشيعة - الذي يمقته العثمانيون - في آسيا الصغرى، ويحرض أمراء تلك الجهة على الخروج على العثمانيين؛ فعزم السلطان سليم على غزو فارس، وعجل ذلك إيواء الشاه إسماعيل لابن أخي سليم، الفار من وجهه.
ففي سنة (920ه/1514م) خرج السلطان سليم بجيش عظيم يريد غزو الفرس، مارا في طريقه على «ديار بكر» و«كردستان»؛ فتراجع الفرس إلى داخل بلادهم وخربوا كل ما في طريق الترك من المرافق كي تضمحل جيوشهم جوعا وتعبا، ولما التقى الفريقان في وادي «جلديران» قرب «تبريز» كانت الجنود العثمانية في شدة التعب، إلا أن الفرس لم يقووا على مقاومة قوة الإنكشارية والمدافع العثمانية، فانهزموا شر هزيمة؛ فدخل السلطان سليم «تبريز» - حاضرة الفرس في ذلك الوقت - وأمر بإرسال ألف من أمهر صناعها إلى القسطنطينية، ثم اضطر بعد أيام إلى الانصراف إلى بلاده، لتمرد جنود الإنكشارية عليه. وكانت نتيجة تلك الحرب استيلاء العثمانيين على «ديار بكر» و«كردستان».
وبعد عامين (1922ه/1516م) خرج السلطان سليم لفتح مصر، ففتحها كما أوضحنا في غير هذا المكان، وجنى بيت آل عثمان من فتح مصر فائدة لم يجنها من فتح غيرها من البلدان؛ إذ إنه بتنازل الخليفة العباسي بمصر عن الخلافة للسلطان سليم الأول سنة (923ه/1517م) صار له ولسلاطين آل عثمان من بعده زعامة على العالم الإسلامي لم تكن لهم من قبل. وكان السلطان يتأهب بعد ذلك لفتح «رودس»، فمات قبل أن يتم عمله، بعد ثمانية أعوام من حكمه.
فتولى ابنه السلطان «سليمان القانوني» (926-974ه/1520-1566م)، وهو أعظم سلاطين آل عثمان، وعصره أزهر عصر في تاريخهم؛ إذ كانت للدولة في أيامه مكانة لم تحزها قبله أو بعده؛ صادفت أيامه تلك النهضة العلمية العظيمة التي انتشرت في أنحاء أوروبا في القرن السادس عشر من الميلاد المسيحي، وحدت بالغربيين إلى تلك الاستكشافات العلمية والجغرافية - التي أسست عليها المدنية الحديثة، والتي كانت سائرة حينئذ بسرعة لم يسبق لها مثيل - فلم يقتصر العثمانيون على السير بجانبهم في ذلك المضمار، بل فاقوهم فيه في عدة أمور، ولا سيما الفنون الحربية. ولم يكن بين ملوك أوروبا في عصر سليمان من يفوقه غزوا أو سياسة أو إدارة.
أما فتوح سليمان فلم تكن بأقل من فتوح سليم أو محمد الفاتح؛ إذ تم له في العامين الأولين من حكمه ما استعصى عليهما قبله؛ ففي سنة (927ه/1521م) استولى على «بلغراد»، وفي قابل فتح «رودس»، انتزعها من فرسان القديس يوحنا بعد حصار أظهر فيه من الكفاءة والدراية بالعلوم الحربية ما عظم به شأن الدولة في أعين الأوروبيين.
على أن معظم غزوات سليمان كانت موجهة إلى الغرب للتغلب على النمسا والمجر، ولا سيما الأخيرة التي طالما وقفت في وجه العثمانيين، ومنعتهم من الزحف في أوروبا إلى ما وراء الصرب والبوسنة؛ ففي سنة (932ه/1526م) غزا بلاد المجر، فلما التقى بجيوشهم في موقعة «موهاكر» الفاصلة لم يثبت جيش المجر أكثر من ساعة واحدة قتل فيها ملكهم «لويس الثاني» وكثير من الأمراء، وفتح السلطان معظم المدن والقلاع التي بالأقاليم الجنوبية، ثم ولى على البلاد ملكا من أهلها وهو «جان زابولي»، وغادرها ومعه أكثر من مائة ألف أسير.
وبعد خروجه من البلاد أغار عليها «فردنند» ملك النمسا، واستولى على مدينة «بودا»، وخلع الأمير الذي نصبه سليمان؛ فاستغاث الأمير بالسلطان، فخرج في جيش عظيم مؤلف من 250000 مقاتل و300 مدفع، فاسترد «بودا» وأعاد «زابولي» إلى عرشه، ثم اتخذ عمل «فردنند» ذريعة للإغارة على النمسا، فسار نحو «ويانا» - فينا - وكان فصل الشتاء قد أقبل وكثر المطر، فاضطر العثمانيون لترك مدافعهم الضخمة بالمجر، فلما وصل سليمان إلى «ويانة» ألقى عليها الحصار عشرين يوما سنة (935ه/1529م)، ثم وجد أن الجو وقلة المدافع يحولان دون الاستيلاء على المدينة، فرجع عنها. وكان هذا أول نزال فشل فيه، فلم ينسه طول حياته.
وبقيت الحرب إلى سنة (940ه/1533م)، فتم الصلح على تقسيم بلاد المجر بين زابولي وفردنند. ولما مات الأول عام (946ه/1539م) أغار فردنند على البلاد جميعها، فغزا السلطان سليمان بلاد المجر كرة أخرى، وكان هذه المرة يترك حامية في كل مدينة يفتتحها، لجعلها من الأملاك العثمانية، ثم تم الصلح بين الفريقين؛ فاعترف فردنند للسلطان بسيادته على المجر وترنسلوانيا، وتعهد أن يدفع له جزية سنوية. وربما كان خذلانه أكبر لو لم يشغل سليمان عن تلك الجهات بحروبه مع فارس وغيرها من بلاد المشرق. ومما فتحه السلطان في المشرق جزء كبير من أرمينية وأرض الجزيرة والعراق وفيه مدينة بغداد العظيمة.
وفي عصر هذا السلطان تقدمت البحرية العثمانية تقدما عظيما حتى صارت تهابها الأمم في جميع البحار، من البحر الأبيض فالبحر الأحمر، إلى المحيط الهندي. وظهر في الدولة إذ ذاك من مهرة الملاحين وأمراء البحر من تفتخر بهم أعظم دولة بحرية، وفي مقدمتهم «أسرة بربروس» الشهيرة، ورأسها «خير الدين بربروس» أكبر قواد أوروبا البحرية في عصره. ولد في جزيرة «لسبوس»، ثم اتخذ هو وأخوه قطع طريق البحر مهنة لهما، وكانت منتشرة وقتئذ في البحر الأبيض المتوسط، ثم عظم شأنه في هذه المهنة وصارت له سطوة عظيمة، واستولى على كثير من ثغور شمالي إفريقية، إلى أن صار صاحب الكلمة العليا في بلاد الجزائر؛ وعند ذلك قدم ولاءه للباب العالي، فنصبه السلطان سليم الأول حاكما عاما للجزائر سنة (926ه/1519م)، وأجزل له العطاء، وأمده بألفي جندي من الإنكشارية، وفي سنة (941ه/1533م) اختاره السلطان سليمان قائدا للأسطول العثماني الذي سيره لمحاربة أساطيل «شارل الخامس » «شرلكان» ملك إسبانيا، وكانت بقيادة أندريادوريا» الجنوي، فقهره «بربروس» وانقض على سواحل إيطاليا فسلب ونهب منها شيئا كثيرا، ثم ولى وجهته شطر تونس يريد الاستيلاء عليها، وكان يحكمها وقتئذ أحد ملوك الدولة الحفصية من بقايا الموحدين؛ فلجأ إلى شارل الخامس المذكور، فذهب شارل بنفسه إلى إفريقية في جيش عظيم، فلم يقدر بربروس على مقاومته وانجلى عن المدينة. ثم وقع خصام بين الدولة والبندقية لاعتداء بعض لصوص البحر من البنادقة على سفير الدولة في وقت السلم؛ فخرج «بربروس» إلى البحر الأدرياتي للانتقام من البندقية؛ فاستغاثت بالبابا وشارل الخامس، فساعداها بأسطوليهما، ولكن بربروس هزم الأساطيل الثلاثة في موقعة «برويزة» سنة (945ه/1538م) وقد حط ذلك كثيرا من شأن البنادقة.
Unknown page