كذلك حاول «جارنر»، من علماء الحيوان في أمريكا، أن يبين ما بين صوت القرد وحديث الإنسان من صلة وتشابه، فانسل بين غابات أمريكا الوسطى، حيث أمضى بين قرودها المختلفة شهورا؛ ليسجل أصواتها على أقراص الجراموفون. وقد تبين أن للقردة لغة تتألف من ألفاظ وأصوات مختلفة، يعبر كل منها عن معنى معين، فإذا غضب وثار لفظ هذه اللفظة «في في»، وإذا ضحك وابتهج أصدر هذا الصوت «ها ها»، واللفظة الأولى تشبه زفرة الإنسان ساعة ضيقه وتذمره، والصوت الثاني يشبه قهقهته حين مرحه وطربه. وقد استطاع «جارنر» أن يجمع طائفة كبيرة من ألفاظ القردة وأصواتها، وأن يؤلف منها «قاموسا».
ثم ذهب «جارنر» إلى حديقة الحيوان بمدينة لوس أنجليس وأدار أحد أقراص الجراموفون التي سجلت عليها ألفاظ الغضب وأصواته، فإذا بالقردة تثور في أقفاصها صاخبة هائجة، وتزمجر حانقة مغيظة، فلما أدار قرصا سجلت عليه ألفاظ المرح وأصوات الغبطة، هدأت القرود واستكانت ثم تولتها نشوة من الفرح والطرب، فقامت تلهو وتقفز وترقص. واستطاعت قردة الحديقة أن تفهم سائر الأقراص التي سجلت عليها أصوات الحب، والخوف والتهديد، والتحذير. وكشف «جارنر» أن هناك ألفاظا مشتركة بين بعض أنواع القردة ولا سيما الجيبون، وبعض القبائل البدائية التي تسكن الغابات. فمن ذلك لفظة «هيو» ومعناها النمر في لغة الجيبون ولغة قبائل الغابات في أمريكا الوسطى، بل إن بعض هذه الجماعات الفطرية ليست لها لغة تتألف من ألفاظ كجميع لغات البشر، بل تتفاهم بأصوات مختلفة كهذه التي يتفاهم بها الحيوان. (1-12) لغة النحل وحواسها العجيبة
أثبت «فرتش» الأستاذ بجامعة ميونيخ والنحال العالمي، أن النحل يميز البرتقالي والأصفر والأخضر والبنفسجي، ولكنه لا يميز اللون الأحمر بل يميز الأشعة التي فوق البنفسجي، وهي الأشعة التي يعجز الإنسان عن رؤيتها ولا يتبينها إلا باللوح الفوتوغرافي، وأثبت أن حس الشم فيه دقيق جدا وبه يميز أنواع الزهر بعضها عن بعض، وأن حس الذوق فيه قوي فيميز الحلو عن المر عن الحامض عن المالح، ولكن ما نحسبه حلوا قد لا يكون كذلك في نظره، فالسكرين والدولسين وهما من أنواع السكر المركب لا طعم لهما في ذوقه.
ثم درس لغة النحل. والذي حمله على ذلك التجربة الآتية: وضع قليلا من الحلوى على لوح ووضع اللوح على مائدة في الهواء الطلق، وجعل يراقبه حتى وصلت إليه نحلة وعرفت ما عليه، فلم ينقض وقت طويل حتى كثر النحل على اللوح، وجميعه آت من القفير التي جاءت منه النحلة الأولى، فقال في نفسه: كيف استطاعت النحلة الأولى أن تنبئ سائر النحل في القفير بما اكتشف؟ ثم عمد «فون فرتش» إلى رقم النحل في قفير ما؛كل نحلة رقما خاصا، ثم جعل يراقب ما يقع، فعرف أن النحلة التي تجد اللوح الذي عليه الغذاء تبدأ تأخذ منه ما تقدر عليه وتعود إلى القفير فتفرغ ما في جعبتها، ثم تجعل ترقص رقصا خاصا والنحل من حواليها مأخوذ برقصها يقترب منها ويلمسها بلوامسه، وما تنتهي من رقصها حتى يخرج النحل إلى موقع اللوح الذي عليه الغذاء، وعندما يجده يأخذ منه ما يستطيع ويعود إلى القفير فيفرغ ما في جعبته منه، ثم يرقص فيكثر إقبال النحل على مورد الغذاء .
وقد أثبت «فون فرتش» بالمراقبة الدقيقة أن بين كثرة النحل حول مورد الغذاء والرقص صلة مؤكدة، ثم خطر له أن يبحث كيف يعرف النحل موقع الغذاء من مجرد الرقص؛ لأنه شاهد أن النحل الذي يذهب إليه يذهب مستقلا لا تابعا للنحلة التي اكتشفته، فوجد أنه إذا كان مورد الغذاء جرة أو لوحا أو أي مصدر للغذاء غير مألوف في حياة النحل فقد يطول الوقت قبلما يكتشفه النحل، فكان الرقص يدله دلالة عامة على موقع المورد دون أن يستطيع التحديد، وقد كان مورد الغذاء في إحدى هذه التجارب جرة من الشراب السكري على بعد كيلومتر من القفير يحول بينه وبين القفير تلال وحدائق.
أما إذا كان مصدر الغذاء طبيعيا مألوفا؛ أي زهرة من الأزهار، فإن النحل بعد أن يشاهد الرقص يسير إليها توا، صادفا عن غيرها من الأزهار، وقد نجح في تطبيق تجربته هذه على جميع الأزهار إلا الأزهار التي لا رائحة لها.
وتفسير ذلك أن النحل يشم رائحة الزهرة العالقة بجسم النحلة الأولى عندما يلمسها بلوامسها وهي ترقص. (2) الكتابة
بدأت الكتابة صورا للإنسان والحيوان وما إليه، ثم اختزلت فكان يرمز بخط عمودي صغير تخترقه شرطة أو شرطتان، ثم صارت كتابة تصويرية مكثفة مألوفة، ولما كانت الكتابة السومرية تدون بالعصا على الطين، سرعان ما اختلفت أوضاع الصور الكتابية عما تمثله من الأشياء، ودعيت بالكتابة المسمارية.
أما الكتابة المصرية القديمة فقد بقيت المماثلة بين الشيء وصورته الكتابية قائمة؛ لأن المصريين كانوا يدونون الكتابة على الجدران، والقطع المستطيلة من قصة البردي، وهو أول نوع للورق.
ثم إن الكتابة سارت خطوة أخرى حين أصبحت الصورة لا تمثل الشيء المصور ذاته بل شيئا يماثله، أما اللغة السومرية فقد أصبحت تتألف من مقاطع مركبة، حين أريد منها التعبير عن الأفكار التي لا تستطيع الصور الدلالة عليها توا.
Unknown page