Tarikh Masuniyya
تاريخ الماسونية العام: منذ نشأتها إلى هذا اليوم
Genres
مقدمة الكتاب
الماسونية
منشأ الماسونية
أقسام تاريخ الماسونية العام
تاريخ الماسونية القديم
الطور الأول: الماسونية1 العملية المحضة
الطور الثاني: الماسونية المشتركة
تاريخ الماسونية الحديث: الماسونية الرمزية
الطور الأول: الإنكليزي
الطور الثاني من سنة 1787 إلى هذه الأيام
Unknown page
ختام
مقدمة الكتاب
الماسونية
منشأ الماسونية
أقسام تاريخ الماسونية العام
تاريخ الماسونية القديم
الطور الأول: الماسونية1 العملية المحضة
الطور الثاني: الماسونية المشتركة
تاريخ الماسونية الحديث: الماسونية الرمزية
الطور الأول: الإنكليزي
Unknown page
الطور الثاني من سنة 1787 إلى هذه الأيام
ختام
تاريخ الماسونية العام
تاريخ الماسونية العام
منذ نشأتها إلى هذا اليوم
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة الكتاب
بسم الله فاتحة كل عمل. أما بعد، فقد أصبحت الماسونية لحداثة عهدها في هذه الديار موضوعا لأبحاث القوم على اختلاف المذاهب والنزعات؛ فمن نصير مدافع عن صحة مبادئها مبالغ في وجوب كتمان أحوالها، وعدو مشدد النكير ومختلق الأراجيف عليها، يقول في ذلك أقوالا ما أنزل الله بها من سلطان. وعندي أن السبب في ذلك إنما هو شدة محافظة أعضائها على التستر في أعمالهم، إلى حد أوجب إساءة الظنون واختلاف الأقاويل، على أننا لو نظرنا إلى الحقيقة لما رأينا في المكاشفة ما يشينها؛ إذ ليس بين أعمالها ما يكسبها إلا فخرا، ولا بين مبادئها إلا ما يرفع منزلتها ويفحم من أراد بها شرا؛ لأن مبادئها أشرف المبادئ، وغايتها من أشرف الغايات.
على أننا لم نسع إلى إخفاء تلك المبادئ أو التظاهر بغير تلك الغاية، ولكنا لم ننج من سهام الملام وضروب التعنيف، وقد أصبح الناس لا يعتقدون صدق ما يظهر من أعمالنا، ولو كانت كالشمس وضوحا، بناء على أن وراء تلك الأعمال غاية لا تزال متسترة في خدر الاجتماعات السرية. فعندهم أننا لو أخلصنا النية وأردنا بالناس خيرا، لما كان ثم ما يمنع اجتماعنا جهارا، فيظهر الحق لذي عينين لأن الحق أبلج. والظاهر لدي أن هذه الجمعية لم تؤسس على شعائر يجب أن تبقى محجوبة إلى الأبد، على أن ما لم يزل محجوبا منها ليس بالأمر المهم لدى الجمهور، وإنما هي إشارات ورموز جعلت واسطة يتعارف بها أبناء تلك العشيرة، فيتميزون بها من سواهم، ولعل المانع من التصريح بها أن الناس لم يبلغوا في هيئتهم الاجتماعية مبلغا يؤهلهم من الاطلاع عليها جهارا، ولكن سيأتي زمن لا يبقى فيه بين أبناء تلك الجمعية وسائر الناس حجاب أو شبه حجاب، ومن يعش ير.
Unknown page
ولما كان التاريخ مرآة الأحوال، كانت الطريقة المثلى لتبيان حقيقة غاية هذه الجمعية - بعد ما تقدمت الإشارة إليه - أن نوضح لدى قراء العربية مختصر تاريخها منذ نشأتها إلى هذه الأيام، مع الإشارة إلى ما رافق سيرها من الحوادث في سائر أنحاء العالم على اختلاف الزمان والمكان، واستيفاء الكلام عن كيفية نشأتها. وبناء على ذلك قد أخذت على نفسي القيام بذلك العمل مع علمي بعجزي، وبما يحول دون ذلك من العقبات وتجشم المشاق في جمع أخبار هذه الجمعية، ولا سيما أخبار فروعها الشرقية، لأني قد عنيت إتماما لذلك بمكاتبة سائر جهات المشرق التي اتصل بي شيء عن أحوال الماسونية فيها، فكتبت إلى كثير من الإخوان الغيورين في تلك الجهات من ذوي الاطلاع على ما نحن في صدده، فوردت إلي إفاداتهم وعليها كان اعتمادي في الحوادث الماسونية الشرقية الحديثة. وإني أغتنم هذه الفرصة للثناء على بعضهم جهارا، وهم الذين أذنوا لي بذكر أسمائهم، فمنهم الأخ المحترم نقولا حجي رئيس محفل لبنان سابقا (بيروت)، والأخ المحترم وليم أسعد خياط رئيس محفل فلسطين. أما في تاريخ الماسونية في مصر، فمعظم الفضل عائد لحضرة الأخ الكلي الاحترام سوليتوري افنتوري زولا رئيس أعظم المحافل المصرية سابقا؛ لأني قد استعنت به في استخراج معظم ما ذكرته عن الماسونية في مصر، من الكتب والمنشورات الرسمية المطبوعة في المحفل الوطني المصري.
أما ما بقي من سير الماسونية في أوروبا وغيرها، فقد اعتمدت فيه على أشهر ما كتب في كتب الإفرنج من إنكليز وفرنساويين. ولزيادة التأكيد أذكر للقارئ أشهر الكتب التي استعنت بها في كتابة هذا التاريخ، وهي:
تاريخ الماسونية
تأليف ريبولد
فرنساوي
تاريخ الماسونية
تأليف فندل
إنكليزي
تاريخ الماسونية
تأليف أرنولد
Unknown page
إنكليزي
الشرائع الماسونية
تأليف باتون
إنكليزي
التعاليم الماسونية
تأليف باتون
إنكليزي
الرموز الماسونية
تأليف باتون
إنكليزي
Unknown page
منشأ الماسونية
تأليف باتون
إنكليزي
درجة الهيكليين
تأليف سير بطريق كلكهون
إنكليزي
الماسونية
تأليف هوغ
إنكليزي
أسرار الماسونية
Unknown page
تأليف يوحنا فيلوس
إنكليزي
وقد استعنت فضلا عن هذه التآليف الماسونية بالإنسكلوبيديا الماسونية، وتآليف تاريخية غير ماسونية تعزيزا للموضوع.
فأملي أن تروق خدمتي هذه لدى أبناء اللغة العربية، وليعذروني على ما يلاقونه فيه من النقص، فإنه أول تاريخ للماسونية كتب في اللغة العربية، وأملي بحضرات الكتبة الأفاضل - الذين هم أطول باعا مني - أن يساعدوني لسد ما يلاقونه من الخلل؛ فإن العصمة لله وحده عز وجل.
هذا وإني التزمت في كل ما ذكرت جانب الاعتدال والحيادة ما استطعت، تاركا الحكم في مجمل ما ذكرت إلى نباهة القارئ، ولو ساعدني المقام لأتيت على تفاصيل أعلمها عن الماسونية في المشرق، وعلى الخصوص في مصر وسوريا، فقد رافق سيرها هناك في أول عهد دخولها حوادث قد أشرنا إلى بعضها اكتفاء بالنزر اليسير، وأغضينا عن البعض الآخر لما يحول دون التصريح بها من المحظورات التي نرجو قرب زوالها، يوم لا يحظر على أحد التصريح بما في ضميره، إذ يعرف كل منا حقوقه وواجباته، فلا يتقاعد عن طلب الأولى ولا يأنف من القيام بالثانية.
والله نسأل أن يلهمنا إلى ما فيه خيرنا وإصلاح حالنا، إنه على كل شيء قدير.
الماسونية
ما برحت الماسونية من يوم نشأتها على قدم عهدها عرضة لألسنة القوم، يسلقونها بألسنة حداد ويسومونها ما شاءوا وشاءت الخيلاء من الأمور الصعاب. وقد ساءوا بها ظنا فأرادوا بها سوءا، وهي بحمد ربك راسخة الأصول قويمة العماد حليفة السداد، لا تزيد إلا انتشارا، ولا تدفع إلا أمورا كبارا، ذلك لأن عمادها الفضيلة وغايتها الكمال، ونصراءها أبناء الحرية الذين لا تأخذهم الصيحة ولا هم غافلون.
أيها العقلاء، إن الماسونية تخاطبكم فاسمعوا لها وهذا قولها: «مهلا سادتي أرعوني من فضلكم أذنا صاغية وقلبا واعيا، وأرغب إليكم أن تبقوا حكمكم فيما أقول حتى آتي على النهاية. لقد أسأتم بي ظنا وأردتم بي سوءا، على حين أني لم أنفك منذ القدم مصدرا لتمدنكم وفيئا لأعاظمكم، أجمع شتاتهم وأبذل النفيس في مرضاتهم. ألم أكن مدربة لحكامكم مدبرة لأحكامكم، ساعية في نشر الفضيلة بينكم؟ ألم أردع أقوياءكم حين ظلموا وأنصف ضعفاءكم حين ظلموا؟ كم سقطتم فأنهضتكم! وكم تبعثرتم فجمعت شتاتكم! وكم كنت نصيرة للعدل والمساواة بينكم ولم أتعرض لكم في شيء من دينكم!
وإني في كل ذلك لم أكلفكم أجرا، ولم أغادر من داعيات فلاحكم أمرا، فما ضركم إذا كنت أفعل ذلك سرا أو جهرا؟!
Unknown page
إذا قلت لكم هذه مقاصدي فافهموها، قلتم هذه بهرجة وإن وراء الأكمة ما وراءها، وأبيتم إلا أني حييت لإماتة الفضيلة، واجتمعت لتشتيت السلطة والديانة، فلا أدري كيف أخاطبكم، ولا بأي السبل أتطرق إلى إقناعكم، رغما عن شدة رغبتي في الإخلاص لكم والتقرب منكم، قياما بما تفرضه علي الإنسانية وتأمرني به الواجبات الماسونية.
أراكم تشددون النكير على أن من وراء التستر ما يوجب المظنة، وإلا فالمكاشفة أولى وأحرى. على أني ألتمس لكم على ذلك بعض العذر، سيما وإن كل محجوب مرغوب.
غير أني لا أخفي عنكم أن ليس بين أسراري ما يهمكم استطلاعه، إنما هي إشارات ورموز جعلت واسطة للتعارف بين أبنائي المختارين، فلا يقوى غير المختار على التلبس بالدعوى، فيسترق من حقوقهم المقدسة ما ربما لا يكون له أهلا فيفسد في الأرض، فإذا كثر أمثاله عمت البلوى، وربما آلت إلى انفصام عروتي والعياذ بالله. ولا يفوتكم أيضا أن القوم إذا تعاهدوا على أمر باجتماع الأيدي، يزيد ائتلاف قلوبهم إذا جعلوا بينهم ما يتعارفون به ويكون خاصا بهم.
تلك سنة قد جرى عليها كثيرات من أترابي في الأزمنة الخالية بين سائر الأمم المتمدنة في الهند وآشور ومصر وفينيقية وسوريا واليونان وغيرها. لم يكن دأبهن إلا رفع منار العلم والفضيلة حيث أقمن، وقد لاقين كما لاقيت وألاقي أنا بينكم، وقد ثبتن كما ثبت وأثبت إن شاء الله.
فأنا على بينة من شريف مقاصدي وعظيم فوائدي ، لا شيء يوقفني عن السعي وراءها، ولا أبالي بما يتهمني به المتهمون، أو يقوله القائلون على غير هدى. على أني لم أعدم نصراء من ملوككم وسلاطينكم وعلمائكم وفلاسفتكم وقادة أديانكم.
فما أنا خاشية سطوتكم، ولا أنا راجية نصرتكم؛ إنما أتقدم إليكم بلسان الصدق أن تعتقدوا صدق نيتي فيما أرجوه لكم من الإصلاح في دنياكم، ولله ما وراء ذلك وهو على كل شيء رقيب.» ا.ه.
منشأ الماسونية
للمؤرخين في منشأ هذه الجمعية أقوال متضاربة، فمن قائل بحداثتها، فهي على قوله لم تدرك ما وراء القرن الثامن عشر بعد الميلاد، ومنهم من سار بها إلى ما وراء ذلك، فقال إنها نشأت من جمعية الصليب الوردي التي تأسست سنة 1616ب.م ومنهم من أوصلها إلى الحروب الصليبية. وآخرون تتبعوها إلى أيام اليونان من الجيل الثامن قبل الميلاد، ومنهم من قال إنها نشأت في هيكل سليمان، وفئة تقول إن منشأ هذه الجمعية أقدم من ذلك كثيرا، فأوصلوها إلى الكهانة المصرية والهندية وغيرها. وبالغ آخرون في أن مؤسسها آدم، والأبلغ من ذلك قول بعضهم إن الله سبحانه وتعالى أسسها في جنة عدن، وإن الجنة كانت أول محفل ماسوني، وميخائيل رئيس الملائكة كان أول أستاذ أعظم فيه. إلى غير ذلك من الأقوال المبنية على مجرد الوهم.
والسبب في تفاوت هذه الأقوال وتضاربها طموس التاريخ الماسوني قبل القرون المتأخرة؛ لأن الماسونية كما لا يخفى جمعية سرية، ونظرا لما كان يتهددها من الاضطهادات المتواترة في الأجيال المظلمة وغيرها، كانت تبالغ في إخفاء أوراقها إخفاء، ربما لا يعود يتيسر معه لمن يبقى حيا بعد الاضطهاد أن يكتشفها، هذا إذا لم يعثر عليها المضطهدون ويعدموها حرقا.
ولكنهم نهضوا مؤخرا إلى جمع تاريخ هذه الجمعية، فعثروا على أوراق قديمة العهد أمكنهم الاستدلال منها ومن غيرها - مع ما هو محفوظ في أعمالها الحاضرة من التقاليد - أن يتوصلوا على سبل مختلفة إلى إتمامه، على أنهم مع ذلك لا يزالون في تضارب من حيث منشؤها على ما تقدم.
Unknown page
ولكل منهم أدلة على صحة رأيه لا نرى لها محلا هنا، فضلا عن أنها لا تأتي بفائدة إذا ذكرناها. وقد طالعت جميع هذه الآراء بالتمعن الممكن، وقابلت أدلتها من غث وسمين مستعينا بالاستدلال والاستقراء، مع مراعاة النصوص التاريخية غير الماسونية من قديم وحديث، فوصلت إلى نتيجة أشرحها للقارئ على ما يأتي، وأظنها أقرب إلى الحقيقة، والله الموفق إلى الصواب.
وجد الإنسان على سطح هذه الكرة عرضة للعوامل الكثيرة المحيطة به، والمؤثرة على طبيعته تأثيرات تختلف نوعا ومقدارا باختلاف الزمان والمكان؛ فنتج من ذلك اختلاف الأفراد بالقوة بدنا وعقلا، فامتاز بعضهم بالقوة العقلية، وبعضهم بالقوة البدنية، وامتاز آخرون بالقوة البدنية والعقلية معا.
ولما كان للإنسان احتياجات لا مفر له من السعي وراءها، مع ما طبع عليه من حب الأثرة والسيادة، التجأ الضعيف إلى القوي يستنصره أو يستجير به أو يستشيره في حاجاته، فحصل الاجتماع الإنساني على أبسط حالاته.
والإنسان على فطرته ميال للبحث عن أصل الموجودات وتعليل الحوادث. وأول حادث استوقف تصوراته توالي الليل والنهار؛ فكان يراقب الشمس وهي تسير من الشرق إلى الغرب، ثم تتوارى وراء الأفق، ثم تعود فتظهر في الغد، ثم تسير فتتوارى كالأمس، ثم تعود فتشرق وتتوارى على الدوام، وكان ينظر إلى الأجرام السماوية وكثرة عددها نظر الاندهاش. وكان في أشهر الربيع يرى الطبيعة مكسوة حلة كثيرة الألوان، تبهج النظر وتشرح الصدر، والأثمار كثيرة والأعشاب يانعة، ثم إذا جاء الشتاء تمر عليه أشهر والسماء مطبقة ليلا ونهارا والمطر يتساقط مدرارا، فيمنعه من الجولان سعيا وراء رزقه، ثم ربما رافق ذلك بروق ورعود وصواعق، فكان ينذعر، وربما فر من أمام البرق خشية أن يخطف أبصاره، ومن الرعد لئلا يكون جبلا منقضا عليه من أعالي الجو فيسحقه، ويجعل أصابعه في آذانه من الصواعق، ويهرول طالبا ملجأ في الكهوف والمغر. وهو إذ ذاك في ظلمات من الجهل لا تزيده إلا اضطرابا ودهشة؛ فأجهد فكرته يطلب تعليلا لذلك جريا على ما فطر عليه من حب البحث، فشاور كبيره وعاقله فأجمعوا على أن للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية قوة وسلطة، وهي التي تبعث الأمطار، وتنبت الأثمار، وترسل البرق الذي يخطف الأبصار، ثم تتبعه بالرعد والصواعق إرهابا وتهديدا؛ فعبدوها وتدينوا لها على أساليب تفوق الحصر، والشورى في ذلك والرأي لكبارهم وعاقليهم.
ومعلوم أن تسلط الفئة العاقلة وانقياد الفئة الجاهلة إليها من النواميس الطبيعية المقررة.
فانتشرت هذه العبادة بين أولئك القوم وامتدت إلى نسلهم، فمرت بهم أجيال وهم يضيفون إليها ويحورونها طبقا لما اختبروه من حوادث يومهم وأمسهم. وكان يرافق كل ذلك تقدم في هيئتهم الاجتماعية على مقتضيات بيئاتهم، فوجدت بينهم العلوم والصنائع، فأقيم عليهم نوع من الحكومة تدبر أعمالهم. كل ذلك بتدبير تلك الفئة العاقلة، فوصلوا إلى ما ندعوه بالقبائل، حتى إذا تمصروا وانتظمت هيئتهم وارتقت أفكارهم فكروا في أمر ما كانوا يعبدون، فرأت تلك الفئة العاقلة أن تعبدهم لتلك الأجرام المنظورة ضرب من العبث، فأجهدوا الفكرة فاهتدوا إلى عبادة الإله غير المنظور. على أنهم لم يستطيعوا تصوره إلا بعد أن استنارت عقولهم بالعلم والاختبار، فأصبحوا إذا أرادوا إفهام العامة شيئا من ذلك لا يستطيعون، فلم يتحول هؤلاء عما كانوا يعبدون.
فالأمة في هذه الحال كانت مؤلفة من فئتين كبيرتين تحتهما فئات كثيرة، الفئة الواحدة وهي التي بيدها زمام البلاد دينيا وسياسيا وعلميا وصناعيا، وهم جماعة الحكام والكهنة، وقد تكونان الكهنة والجنود فقط، والفئة الأخرى باقي الشعب من فعلة وخدمة ورعاة وباعة وتراجمة وملاحين، فقد كان في يد هذه الفئة العاقلة جميع علوم ذلك العصر ومعارفه وصنائعه، من بناء وفلك ورياضيات وطب وموسيقى وفلسفة أدبية ودينية وغيرها، وكانت لا تسمح بتعليمها إلا لمن تختبر فيه اللياقة والمقدرة على اكتسابها واستعمالها، ووضعوا لانتقاء اللائقين من الراغبين شروطا وقوانين بالغوا في المحافظة عليها.
ذلك كان شأن الأمم التي تمدنت قديما في مصر والهند وآشور وفينيقية وسوريا واليونان وغيرها، فكانت فيها تلك الفئات من الفلاسفة تدعى غالبا بالكهنة وعلومهم بأسرار الكهانة. وكان بين طرق تعليمهم وشروط قبول الراغبين في الاشتراك معهم من المشابهة، ما يحمل على القول بوحدة أصلهم أو بتفرع جمعياتهم بعضها من بعض.
وإيضاحا لما سيجيء لا بد لنا من ذكر شيء عن أحوال تلك الجمعيات، كل منها على حدة، فنقول ...
الكهانة المصرية
Unknown page
قال هيرودوتس المؤرخ المشهور: إن مصر قبل دخول تعاليم إيزيس وأوزيريس إليها كانت من الهمجية والتوحش على غاية، أما بعدها فساد فيها النظام، وازدهت بالعلم والفضيلة، وارتقت في الدين والشرائع، ولا يخفى أن عهد هذين الإلهين وراء التاريخ المصري القديم بأزمان.
ويستفاد من المصادر التاريخية القديمة أنه كان في مصر عند إبان تمدنها جمعية سرية تدعى «جمعية إيزيس السرية»، وكانت ذائعة الصيت في سائر أنحاء العالم، وكان يقصدها الطالبون من أنحاء شتى، ولم يكن يقبل فيها إلا من علم عنه - بعد التحري التام والشهادات الحسنة - أنه أهل لنوال تلك الأسرار الثمينة. وليس ذلك فقط، فإنهم كانوا يسومونه عند القبول مشقات عظيمة تختلف بين تخويف وتهديد؛ حتى إذا جازها بثبات قالوا إنه تغلب على الشر فيلقنونه الأسرار. وكيفية ذلك أنهم كانوا يأتون بالطالب بعد الإقرار على قبوله، فيمرون به على امتحانات شتى، ثم يوقفونه أمام أحد الكهنة المدعو أوزيريس (وهو عندهم نائب الإله أوزيريس) جالسا على كرسي مرتفع، وبإحدى يديه سوط وبالأخرى عقافة
1
رمزا عن العدالة والإحسان، فيقف الطالب جزعا من هول الموقف، فيسألونه عن سيرة حياته، وكل ما عمله وكابده ويدققون عليه كثيرا، فإذا لم يروا في سيرته ما يمنع إتمام قبوله يسلمونه إلى قائد متنكر، على رأسه غطاء كرأس الكلب يسير به في أتياه من الطرق تغشاها الظلمات، إلى أن يصل إلى مجرى من الماء، فيقف به وفي يده كأس فيه ماء، ويخاطب الطالب قائلا: «أيها الراغب في مؤاخاتنا، الساعي وراء السداد الأعلى، هذا هو ماء النسيان تجرعه ينسك جميع ما مر بك من الأدناس والنقائض، فتصير أهلا لاقتبال الفضيلة والحق والصلاح التي ستتشرف بنوالها الآن.» فيشرب، ثم يتقدم به إلى أماكن أشد ظلاما وإرهابا من ذي قبل، فيزيد وجلا، ثم ينبثق النور بغتة، وينسم الهواء المنعش مضوعا بالروائح العطرية، ثم يسمع الترنيمات الموسيقية المطربة تضرب نغم الانتصار؛ إشارة إلى انتصاره على تلك التجارب المهولة، ثم يلقن الأسرار المقدسة وتتلى عليه العلوم والمعارف، ويحسب من ذلك الحين في عداد سعاة الكمال، ثم يرقى في سلك تلك الجمعية بموجب دستورها.
مجمع الإلوسينيا
نشأ في تراسيا (اليوم بلغاريا وروملي) نحو الجيل الرابع عشر قبل المسيح، ومؤسسه أورفيوس التراسي، وكان من عائلة ملوكية وذا قوى عاقلة شديدة مع عزم وثبات، تلقن العلم في الجمعية الإيزيسية السرية في مصر، واختلط بسائر طبقات البشر إتماما لاختباره، ولما عاد إلى بلاده جعل يعلم أبناء وطنه، وكانوا على جانب من الهمجية، فطفق يخطب في الأسواق ويعلم جهارا في الأحراش والجبال على الجماهير الكبيرة ويحثهم على الفضيلة. ويقال إن هذا الرجل العظيم هو المؤسس الأول للتمدن اليوناني، ثم بعد وفاة أورفيوس رأى تلامذته ومن كان على دعوته أن يجعلوا تعليمهم الشعب على أسلوب الجمعية الإيزيسية، فبنوا لهم مجمعا في إلوسيس من أعمال اليونان دعوه «مجمع إلوسينيا». وقد اشتهر هذا المجمع في تلك الأعصر بالعلم والصناعة والفلسفة على أنواعها، وكانت تلقن فيه العلوم سرا، ولم يكن يقبل في سلك هذا المجمع إلا المنتخبون والذين يجمع على أنهم لائقون، فإذا أقروا على قبول طالب يغمون عينيه جيدا ثم يقودونه في طرق معوجة، فيخال له أنه صاعد متلمسا على آكام، وكأن تحت أرجله أرضا وعرة تخدش أخمصيه، ثم يتراءى له أنه منحدر في منحدرات من الأرض تنتهي بأودية أو أحراش غضة يعسر المرور فيها، ثم يسمع أصواتا مرعبة يخال له أنها زئير أسود وفحيح أفاعي. ولا يزال يشعر بمثل ذلك حتى يأتي على نهاية الطواف الأول، فيرفع الحجاب عن عينيه، فيشاهد أمامه ما لا يزيده إلا اضطرابا؛ إذ يرى أرضا قفرا مظلمة يضيء فيها قبس ضعيف النور يزيدها رهبة، ويرى حوله أسرابا من الوحوش الضارية من أسود ونمور وضباع وثعابين تتهدده، وكأنها تهم للوثوب عليه، ثم يرى برقا ويسمع أصوات الرعود القاصفة، ويشعر بالزلازل والعواصف الشديدة، فيخال أن السماء ساقطة على الأرض، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وبينما هو في تلك المشاهد المرعبة لا يبدي حراكا، يرى أمامه بابا كبيرا من الحديد مكتوبا عليه ما معناه: «إن الذين يبغون منتهى الكمال وأعالي البركة لا بد لهم من تطهير أنفسهم بالنار والهواء والماء.» ولم يكد يقرأ هذه الكلمات حتى ينفتح الباب بغتة، فيدخل ذلك الطالب إلى متسع من البناء مظلم لا يسمع فيه إلا تأوهات وزفرات وأنين، كأنما هناك مئات من البشر يتوجعون لعذابات أليمة يقاسونها. وبينما هو في اضطراب من هول ذلك الموقف، لا يدري إذا كان ما يراه حقيقة أم حلما، يفتح من على يمينه بابان من الحديد كبيران، تنبعث منهما مجار من الهواء حارة، كأنها صاعدة من الحميم، ترافقها لهب عظيمة تكاد تخطف بصره ثم يغلقان بغتة، ثم يلتفت إلى ورائه فيرى هوة لا قرار لها، تنبعث منها ريح سموم ترافقها أصوات توجع ينفطر لها القلب، وإذا أمعن نظره في قرار تلك الهوة يشاهد الخطاة المتوجعين يقاسون ألوان العذاب، ثم يرى من على يساره بحيرة تغشاها الغيوم، تتطهر فيها الأنفس التي خطاياها لا تستوجب التطهير بالنار أو الهواء.
وبعد تلك المشاهد المرعبة يقاد الطالب إلى الدرجة الثالثة من الامتحانات، فيفتح أمامه باب آخر من الحديد فيدخله وقائده، فيسمع صوتا مرعبا وكلمات كأنها قصف الرعد، فيقف لاستماعها، وإذا هي: «هأنذا أطلع هذا الأجنبي على سر من أسرارنا، فأصغ إلي يا نسل سيلانا، فإني أتلو عليك حقائق مهمة.» ثم يوجه الخطاب إلى الطالب قائلا: «انظر إلى الطبيعة الإلهية، إلى الصمد الأعلى، تأمله بلا انقطاع، اقمع نفسك وطهر قلبك، وإذا مررت في طرق العدالة ومأمن الحق أعجب بمدبر الكائنات، ذلك الفرد الكائن بذاته الذي قد وهب الحياة لكل الأحياء.»
ولما يتم القائل كلامه ينقلب المنظر من الرعب إلى الأمن، فيظهر النور، فيرى الطالب كل ما يستدعي تسكين جأشه، ثم يقاد إلى رجل جالس على مرتفع يراد به رئيس ذلك المجمع، فيلقنه الأسرار وحوله 24 رجلا في لباس أبيض يرتلون التراتيل المقدسة.
مجمع الكبراء
يظهر أن منشأ هذا المجمع قديم العهد جدا، وتعاليمه كانت منتشرة في سائر المدن القديمة كفينيقية والهند ومصر وسوريا واليونان وغيرها، حتى قيل إنها أصل لجميع تعاليم المجامع السرية القديمة في العالم، ولا يجتمعون إلا ليلا.
Unknown page
فالذي يقرون على إدخاله بينهم كانوا يمتحنونه امتحانات شبيهة بالامتحانات المتقدم ذكرها. وكان على الطالب أيضا عند الإقرار على قبوله أن يغتسل أولا بالماء والدم، ثم يقدم ثورا أو كبشا ضحية، ثم يتقدم إلى الامتحانات المرعبة، وبعد ذلك يلقن التعاليم السرية، ثم يعمد بالماء كما يفعل المسيحيون، ويعطى اسما جديدا منقوشا مع علامة أخرى رمزية على حجر أبيض صغير، فيحفظه الطالب كطلسم مقدس وينقله معه إلى حيث توجه؛ إشارة إلى كونه عضوا في ذلك المجمع، فيعرفه سائر الأعضاء في سائر الأنحاء ويعاملونه معاملة الأخ.
وقد كانت تعاليم هذا المجمع منتشرة في سائر مدن سوريا، ولا ريب أن حيرام ملك صور كان أحد كبار الكهنة فيها.
وقد كانت هذه التعاليم معروفة في أيام المسيح في اليهودية؛ ولذلك نرى في رؤيا يوحنا اللاهوتي، الإصحاح الثاني عدد 17، ما يشير إلى شيء من ذلك حيث يقول: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن الخفي، وأهبه حصاة بيضاء منقوشا عليها اسم جديد لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه.»
وكانت تعرف هذه الجمعية في ذلك العهد باسم طائفة الأسينيين، وقد ذكرها يوسيفوس مطولا وذكر كثيرا من تعاليمها ومبادئها. ولا نعلم ما الداعي لإغفال السيد المسيح ذكرها مطلقا، مع أنه تكلم كثيرا عن طائفتي الصديقيين والفريسيين المعاصرتين لها.
ومن تعاليم هذه الجمعية ومبادئها الانقطاع عن الملذات، وقمع الشهوات، والتقشف في العيش وكره الغنى، والمساواة في الأرزاق والممتلكات، وأعضاؤها لا يستقرون في سكن، فقد يسكن الواحد في مدن كثيرة. وإذا اجتاز أحدهم من بلد إلى آخر يلاقي حيث توجه من أبناء جمعيته من يكون له أخا مساعدا ونصيرا، ولذلك لا يحملون في أسفارهم شيئا من احتياجاتهم إلا الأسلحة لدفع الأعداء إذا باغتوهم، فأقاموا في كل مدينة من يعتني بمسافريهم ويدبر لهم ما يحتاجون إليه من حاجيات العيش والنقل، وكانوا إذا لبسوا لباسا لا يغيرونه إلا متى فني من الاستعمال. والبيع ممنوع بينهم، فإذا احتاج أحدهم ما بيد الآخر يأخذه منه عفوا. وهم شديدو التورع في الدين إلى ما يفوق التصديق، ففي الصباح لا يذكرون شيئا من حطام هذه الدنيا؛ لأن ذلك رجس في اعتقادهم، لكنهم يتلون من الصلوات ما كانوا تعلموه من أجدادهم، فإذا كان الضحى يذهب كل منهم إلى عمله، فإذا كانت الساعة الخامسة يجتمعون مرتدين بألبسة بيضاء للاغتسال بالماء البارد، وبعد الاغتسال يلتئمون في منتدى خاص بهم لا يسمح لأحد من الخوارج الدخول إليه، فإذا كان العشاء هموا إلى العشاء وتناولوا الطعام بعد أن يباركه أحد كهنتهم.
وكانوا معروفين بالأمانة، ويعتبرون القسم شرا من الجريمة؛ لاعتقادهم أن من لا يركن لقوله بغير قسم يستوجب القصاص.
وهناك مجامع كثيرة كانت تبث تعاليمها ومبادئها سرا على الأساليب المتقدم ذكرها منها.
تعاليم فيثاغورس
الذي عاش في الجيل السادس قبل المسيح. أخذ العلم عن الكهنة المصريين في الجمعية الإيزيسية السرية، ومن سحرة وعلماء الكلدانيين، ومن جمعية الكبراء المتقدم ذكرها في فينيقية، وزار لهذه الغاية أيضا اليهودية وسوريا وكريت وسبارطا والسي وفليوس، ثم عاد إلى وطنه ساموس من أعمال اليونان، ونظم مجمعا لتعليم العلوم والآداب التي اكتسبها في تلك السياحة الطويلة، وجعل طريقة تعليمه على مثال سائر المجامع، وكان على الطالب قبل التقدم إلى الامتحان أن ينقطع عن الكلام من سنتين إلى خمس سنوات. ثم انتقل فيثاغورس إلى كروتونا وجعل يبث تعاليمه هناك، ومنها امتدت إلى أنحاء شتى من العالم، فغيرت فيه ورقته إلى أوج من العمران. ومن العلوم التي كان يعلمها فيثاغورس الرياضيات والموسيقى والفلك والفلسفة واللاهوت وعلم الإنسان.
ومن أمثال ما تقدم:
Unknown page
تعاليم الإسكندينافيين وجمعياتهم السرية
نشأت هذه التعاليم نحو سنة 50 قبل الميلاد في حدود آسيا الغربية، وانتشرت إلى أنحاء أوروبا، فغيرت هيئتها الاجتماعية، وكانت مصدرا لتمدنها بعد ذلك بأجيال.
وكيفية نشوئها أن دولة الروم بعثت جيشا في الجيل الأول قبل الميلاد لمحاربة الملك ميتريداتس الذي لم يبق غيره من ملوك أوروبا على غير دعوة الروم، وكان قد التجأ إلى أحراش سكيثيا والتف حوله كثير من القبائل البدوية؛ ظنا منه أنهم يقوون على نجدته في محاربة الروم، لكنه بعد الامتحان تحقق خيبة الأمل ووقع هو ومن معه في سلطة الروم، فأخذ الروم بعضا من جيش عدوهم يستخدمونهم في قضاء حاجاتهم، وكان في عداد أولئك أحد عظماء الكهنة المدعو أودن «واسمه الحقيقي سيغ»، فكان يكابد من مشاق الذل ما كان يثير منه حب الموت ويكرهه بالحياة، على أنه كان كاظما غيظه صابرا لبلواه، لولا أن قائد الجيش الرومي لم يصفعه مرة، فإنه عند ذلك لم يعد يستطيع الصبر على الذل، فهاجت فيه خواطر حملته على احتمال المخاطر في سبيل الانتقام؛ ففر من خدمة الجيش وهام على وجهه في القفار، ثم جعل ينتقل من أمة إلى أمة يبث تعاليمه بينهم، وكان فصيحا بليغا وحازما حكيما، فانقادت جميع الشعوب إلى تعاليمه، فكبرت أحزابه ولقب حينئذ بأودن، وهو اسم إله التيوتينيين في ذلك العهد، وكان مقامه في مدينة تدعى اسغار بجوار بحر قزيين، ومنها امتدت سطوته إلى أوروبا شمالا وغربا، فأخضع جميع من مر به من الأمم وأقام عليها نوابا من بنيه.
ثم سار إلى إسكندينافيا مارا في سيمبريا، وتدعى الآن هولستين، فأخضعها وأخضع كثيرا غيرها حتى انتشرت سلطته على كل الشمال، فعهد أمور الملك لأولاده بعد أن وضع لهم قوانين جديدة وحور القوانين القديمة، وانقطع هو إلى التعاليم السرية المقدسة، ولم تمض مدة حتى انتشرت هذه التعاليم في سائر أنحاء إسكندينافيا، ودخل في عداد تلامذته جميع عظماء وحكما تلك البلاد، فدخلت تلك الأنحاء في دور جديد من التمدن.
وكان يشترط على الطالب شروط تشبه شروط الجمعيات المتقدم ذكرها، ومتى قبل يلقن العلوم والمعارف على سبيل الاستجواب.
وتفرع عن هذه الجمعية جمعيات أخرى زادتها انتشارا، وكان من ضمن تعاليمها وجوب الوجود وخلود النفس. واشتهر بعض هذه الجمعيات بعدم خوفها من الموت ، فإن أعضاءها كانوا يستقبلونه بترحاب.
جماعة الهرمنداد في إسبانيا
نشأت هذه الجمعية في كستيل وليون سنة 1295 بعد الميلاد، وكانت غايتها التعاون على اتقاء مظالم الحكام في ذلك العهد ومقاومة العسف والعتو، ففازت وانتشرت مبادئها هذه واستنارت البلاد بها، وكانت وثيقة الارتباط بين أعضائها يدافعون بعضهم عن بعض ما استطاعوا، فإذا شكى أحدهم ظلما لا ينفكون عن الظالم حتى يقتصوا منه ضعف ما ارتكب. وعظم شأن هذه الجمعية حتى أيام فرنديناد وإيزابلا من ملوك إسبانيا، فاعتنى الملوك برعايتها، فتحول اهتمامها إلى تنظيم البلاد وحفظ النظام فيها، فكانت أقوى نصير للحكومة.
ومن أمثال هذه الجمعيات السرية القديمة كثير في العالم، ووجودها في مقدمة كل تمدن قديم وحديث دليل على شدة احتياج البشر إليها، فانتشار العلم والفضيلة على طريق الجمعيات السرية أمر طبيعي، والبشر منقادون إليه بالفطرة.
ومن العناية أن هذه الجمعيات تظهر في كل عصر بما يحتاج إليه ذلك العصر من الدين والعلم والصناعة، فارتقاء الهيئة الاجتماعية تابع لارتقائها، وهي دعامة العمران حيث وجد.
Unknown page
ولا نظن أحدا يجادلنا في احتياج البشر لمثل هذه الجمعيات السرية، وفي أن العلم لا ينمو وينتشر إلا بواسطتها، على أننا لا نحتاج إلى شديد عناء في إقناعهم إذا أصروا على الجدال؛ كيف لا وإن من أشهر الأديان الحديثة المتدينة لها أكبر دول الأعصر الأخيرة ما لم ينم وينتشر إلا باتباعه خطة تلكم الجماعات من التعاليم والتبشير سرا، مع الاحتراس والتشديد في انتقاء من رغب الالتحاق بها.
الديانة المسيحية
هذه الديانة المسيحية - ولا نزيدكم علما بشأنها - من هيئتنا الاجتماعية الحاضرة، فإنها لم تتأيد دعوتها إلا بما اتبعته من طرق التعليم السري، فقد كانت في بادئ نشأتها أشبه بإحدى الجمعيات السرية التي سبقتها، ولم تكن تسلم أسرارها إلا لمن يطلبها، ويبرهن على شدة رغبته في الحصول عليها، وعلى صدق نيته بها وطاهر إخلاصه في اكتسابها، بعد أن يتعهد بالقسم أن لا يكاشف بأسرارها غير المستحقين.
وكانت تلك الأسرار مراتب متفاوتة يتدرج فيها الطالب مرتبة بعد أخرى، بموجب قانونها وعلى حسب استحقاقه، بعد تجارب شديدة على مثال ما تقدم في جماعات الأعصر الخالية. ولم يكن لأصحاب المراتب الأولى أن يطلعوا على شيء من أسرار المراتب الأخيرة ولا يعكس، ولم يكن بين جميع المسيحيين من يعرف جميع تعاليم الديانة المسيحية إلا الذين جازوا المراتب كلها، فكانوا يجيزون لمن أرادوا الحضور في مجامعهم العمومية لاستماع شيء من مواعظهم، وكانوا يلقبونهم بالموعوظين، فهؤلاء متى تلي عليهم بعض الصلوات والأعمال مما لا شيء من الأسرار فيه، كتلاوة فصل من الكتاب أو ما شاكل، يناديهم الكاهن أن يخرجوا، ويبقى المسيحيون يتمون الصلاة «ما يسمونه أحيانا بالكلام الجوهري»، وهذا معنى قول الكاهن في معظم كنائس المسيحيين بعد تلاوة فصل من الكتاب المقدس: «اخرجوا أيها الموعوظون، اخرجوا ليس أحد الموعوظين، بل كافة الموعوظين، والبثوا أيها المؤمنون ... إلخ».
ولا يزال أولئك الموعوظون يترددون إلى الكنائس على ما تقدم إلى أن يرتد أحدهم فيطلب الاعتماد، فيجربونه التجارب اللازمة، حتى إذا رأوا منه رغبة وإخلاصا عمدوه ودعوه «مؤمنا». «وللمؤمنين» الحق بالاشتراك في الصلاة الربانية، ولهم وحدهم أن يقولوا «أبانا الذي في السموات» إلخ.
ثم يرتقي المؤمن بالاستحقاق إلى درجة «المستنيرين»، ولهؤلاء الحق في استطلاع أسرار الديانة المسيحية التي عليها مدار تعاليمها، وكانت لها امتيازات أخرى.
ومن هذه المرتبة يرتقي المسيحي إلى مرتبة «الكاملين»، وهم الذين يحق لهم الاشتراك بالعشاء الرباني.
وكان للمسيحيين غير ذلك من الشئون، مما يستدل منه على أن الديانة المسيحية كانت تنشر تعاليمها في بادئ أمرها على مثال الجمعيات السرية، منها: (1)
أن تعاليمها كانت تبلغ سرا بعد إخراج الموعوظين على ما تقدم. (2)
أنها كانت تستعمل في احتفالاتها ملابس بيضاء، ولا سيما عند العمادة. (3)
Unknown page
كانت لها علامات سرية مخصوصة، منها الاسم الجديد الذي يعطونه للمعتمد حديثا منقوشا مع علامة أخرى رمزية على حجر أبيض، كما كان يفعل الأسينيون على ما تقدم. وأشهر علامة استعملها المسيحيون إشارة الصليب، وقد أكثروا من استعمالها حتى أدخلوها في كل أحوالهم، فهم يرسمونها عند التحية، وعند النوم، وعند النهوض من النوم، وعند الدخول إلى الكنيسة وفي الخروج منها، وفي غير ذلك، ومن هذا القبيل قول بعضهم «المسيح قام»، وكانت عبارة التحية بين المسيحيين في الأزمنة السالفة. (4)
أنه كان بين المسيحيين روابط شديدة تربطهم بعضهم ببعض، وقوانين تقضي بوجوب مساعدة أحدهم الآخر بكل ممكن. وقد كان ذلك مشهورا بينهم إلى حد يفوق التصديق، فإذا سافر أحدهم إلى حيث لم يكن يعرف أحدا، لا يلبث أن يصل حتى يرى إخوانا ينتظرون أمره في كل ما يشاء، ولمثل ذلك فتحت الأديرة في البلدان، وطلب من المسيحي أن يتوجه إلى الدير، وفيه من الأقوات والنزل ما يضمن راحته، فضلا عما يلاقي من الاستئناس بمن هو مرتبط بهم بعهود مقدسة. (5)
أن غايتها رفع منار الفضيلة، وترقية شأن الهيئة الاجتماعية. وبالحق إنها قد بلغت مما أرادت شأوا عظيما.
فالديانة المسيحية كانت في بادئ أمرها متخذة سبل الجمعيات السرية في نشر تعاليمها.
النتيجة
فقد تبين أن الطريقة المثلى لنشر العلم والفضيلة إنما هي الجمعيات السرية المنظمة على مثل ما تقدم، فضلا عن أن وجود مثل هذه الجمعيات في الأعصر الخالية في سائر العالم المتمدن دليل على أن ذلك أمر طبيعي في جسم العمران. وقد تقدم عليه من الأمثلة ما يكفي، فلا تعاب الماسونية في اتباعها مثل تلك الخطة.
وإذا تأملت بما مر ذكره من الجمعيات وكيفية نشوئها، وتشابه تعاليمها ومبادئها، وأساليب التعليم فيها، مع علمك بإغفالنا كثيرا من أمثالها؛ يترجح لديك القول بوحدة أصلها أو بتفرعها بعضها من بعض.
فالماسونية إذا لم تكن أحد تلك الفروع، فهي لا شك في أول نشأتها منسوجة على منوالها؛ لأن الذين سعوا إلى تأسيسها واهتموا في نشر تعاليمها لا يخلو أن يكونوا على بينة من تلك التعاليم أو خلوا منها، ولا يتأتى لمن كانوا على الفرض الثاني أن يقدموا على مثل هذا العمل. فالمؤسسون إذن من فئة العلماء، وهم لا يقدمون على ما تقدم إلا وهم على شيء من أمر الجمعيات السرية وقوانينها وأساليب تعليمها، لكي يتهيأ لهم تنظيم مثل هذه الجمعية، فلا يخلو أن يكون هؤلاء أعضاء جمعية أو جمعيات سرية وجدت في العصر الذي أسست فيه تلك الجمعية أو قبله. فالماسونية إذن قد نسجت على منوال الجمعيات السرية القديمة، هذا إذا لم نقل إنها فرع من فروعها، أو استمرار إحداها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أقسام تاريخ الماسونية العام
يقسم تاريخ الماسونية العامة إلى قسمين: قديم وحديث، أو ماسنوية عملية «أو حقيقية» وماسونية رمزية.
Unknown page
وتاريخ الماسونية القديمة أو الماسونية العملية على طورين:
الطور الأول:
الماسونية العملية المحضة من سنة 715 قبل الميلاد إلى سنة 1000 بعده.
الطور الثاني:
الماسونية المشتركة من سنة 1000 إلى سنة 1717 بعد الميلاد.
وتاريخ الماسونية الحديث أو الماسونية الرمزية على طورين:
الطور الأول:
من سنة 1717-1783.
الطور الثاني:
من سنة 1783 ولا يزال.
Unknown page
تاريخ الماسونية القديم
الطور الأول: الماسونية1 العملية المحضة
من سنة 715ق.م-1000ب.م
كانت الماسونية في هذا الطور مقصورة على بناء الأبنية وما شاكلها، ولم يكن يقبل فيها إلا الذين يمارسون صناعة البناء بأنفسهم، ولا بأس إذا كانوا فوق ذلك على شيء من العلوم والآداب والفضيلة. على أنهم كثيرا ما كانوا يمارسون هذه الفضائل رسميا في اجتماعاتهم كما سترى. (1) مهد الماسونية ومؤسسها
إن مهد هذه الجمعية رومية، وأول اجتماع التئم تحت اسم البناية كان في سنة 715ق.م بأمر نوما بومبيليوس وتحت عنايته. وتفصيل ذلك أن رومية بعد موت بانيها «روملس» أصبحت في احتياج لمن يحكم فيها وينظم أحوالها، لا سيما وقد كان فيها من الأحزاب المتناظرة في طلب التبوء ما كان يخشى معه أن تنحط سطوتها، فتذهب فريسة المطامع والانقسام.
وبعد التداول في الأمر أقر السراة ورجال الدولة على أن يختاروا لهم ملكا من غير أبناء ملتهم، وأن يكون صابنيا.
وكان في ذلك العهد في صابنيا «من إيطاليا» رجل من الأشراف يدعى نوما بومبيليوس من الفضل والتقوى على جانب عظيم، وكان محبا للعزلة، كارها لما يسعى إليه الناس حبا بالسلطة والأثرة، عاملا على كبح شهواته، وكانت له زوجة تحب ما يحب وتكره ما يكره، فعاشا ثلاثة عشر عاما في «كورس»، ثم قضت نحبها فأسف نوما عليها كثيرا، فزاد كرها في الدنيا ورغبة في العزلة، فغادر المدينة وألف القفار وأوى إلى الكهوف، جاعلا نصب عينيه ألا ينفك عن التعبد والتقوى وتعديد صفات الآلهة، والتردد على الينابيع المقدسة.
فأقر الرومانيون على انتخابه ليحكم فيهم، فأنفذوا إليه اثنين من سراتهم ليبلغوه ما كان من إجماع الشعب على انتخابه، فقال لهم: «إني ممن يؤثرون هذا القفر على قصور رومية، فضلا عن أن السلطة - ولا سيما على الشعب الروماني - لمن الأمور الصعاب، فقد كان لي أن أعتبر بما صار إليه روملس وأنتم تعتقدون أنه سلالة الآلهة، فكيف بي وأنا رجل لم أعتد سياسة الملك، وربما إذا داهمكم سوء من عدو لا أقوى على دفعه، إنما أنتم في احتياج إلى رجل باسل اعتاد الغارات ودفع النازلات.» فأخذ الرسولان يستنهضان شعائره إلى إنقاذ رومية من نزاع الأمة، وأنه إذا فعل ذلك إنما يفعله إرضاء للآلهة التي اختارته، وما زالا على مثل ذلك حتى أجاب الطلب. فنهض للحال وذبح للآلهة ثم سار إلى المدينة، وذهب توا إلى رابية طاربيس ليستخير الآلهة، فجلس على حجر موليا وجهه الجنوب، وجعل على رأسه غطاء، ورئيس العيافة وراءه جاعلا يده اليمنى فوق رأسه مصليا، فنظر نوما إلى السماء متيمنا، فإذا ببعض الطيور مارة، فتفاءل الجميع واعتبروا ذلك دليلا على استحسان الآلهة ذلك الانتخاب، ثم سار نوما إلى البناء المعد له وأخذ في سياسة الملك وتوطيد الأمن، فوسع المدينة ومد أسوارها.
وكان هذا الملك يعتقد بإله واحد واجب الوجود غير متغير وغير منظور، ولا ريب أنه كان عضوا لإحدى الجمعيات السرية المقدسة في ذلك العهد، لأن مثل هذا الاعتقاد كان معدودا من التعاليم السرية لا يباح به إلا لمن يستحقه على ما مر بك. ويظهر من شدة التقوى والزهد اللذين كان عليهما نوما، أنه كان من المتعمقين في تلك الأسرار، ولعله كان من الكهنة العظام، ومما يؤيد ذلك أنه منع الرومانيين من تمثيل آلهتهم بصورة رجل أو بهيمة، وجعل قرابينهم محصورة في الخبز والعسل والخمر واللبن، ثم شاد المعابد ونظم الكهنة وأكثر من الاحتفالات الدينية، وبنى هيكلا للإله جانس رب الفطنة والتدبير، وأمر أن يغلق هذا الهيكل في أيام السلم ويفتح في زمن الحرب. وحرم الآباء حق التسلط المطلق على أولادهم بعد الإرشاد، واعتنى بأمر الحراثة اعتناء خصوصيا، فأقام لها دواوين خاصة بها، وفرض على الأهالي الاعتناء بها، وكان يعاقب الذين يهملونها.
ومما يهمنا ذكره هنا أنه جعل للصناعة في رومية شأنا مهما، فقسمها إلى حرف وطوائف، وجعل لكل حرفة تمثالا، وأعطى الجميع امتيازات، وسمح لكل طائفة أن تملك عقارا وأن تذخر مداخيلها في صناديقها تنفقها في سبيل احتفالات مقدسة تقيمها في أوقاتها. وكان في جملة تلك الطوائف طائفة البنائين، جعلها جماعات على نظام جماعات الديونيسيين الذين كانوا منتشرين قبل ذلك العهد بأجيال في سوريا ومصر وفارس والهند، وبنى لها مدارس مختصة بها دعاها «مدارس البنائين»، وعهد إليها وحدها بناء الهياكل الدينية، وما تحتاج إليه الدولة من القلاع والأسوار والمحلات العمومية. وجعل لهذه المدارس قوانين خصوصية وامتيازات لم تعط لغيرها، وجعل لها أن تضع شرائع لنفسها، وأن تقيم المعاهدات فيما بينها، وهي معافة من سائر أنواع الضرائب. وجعل على كل فئة من أولئك البنائين رئيسا دعاه «الأستاذ»، وتحته معاونون «منبهون» وكتبة وأمناء الخزنة وأصحاب الختم وغير ذلك. وكان لهم أطباء مخصوصون وخدمة من بينهم، وكانوا يفرقون الأعطيات شهريا، وكان عدد أعضاء كل مدرسة أو جمعية محدودا بحسب القانون ومعظمهم من اليونانيين. وكانوا يحافظون على أسرار صناعتهم وأشغالهم محافظة تامة، ويستعملون الرموز والإشارات، وكانوا يدعون بعضهم بعضا إخوة.
Unknown page
فكانت الدولة إذا أرادت بناء الهياكل أو القلاع أو الأسوار عهدت ذلك إلى جماعة من تلك الجماعات، فترسل من أعضائها فئة فيها من كافة عملة البناء، يقيمونه على أحسن أسلوب من الهندسة والمتانة والجمال. فكانوا إذا انتدبوا إلى بناء الهيكل مثلا، تذهب الفئة المنتدبة لذلك من البنائين، ويبنون لأنفسهم بيوتا من الخشب قريبة من محل البناء يأوون إليها في ساعات الاستراحة، وهناك يلتئمون بصفة رسمية ، يتداولون فيما كان من شغل نهارهم ويوزعون شغل الغد فيما بينهم، ويكرسون من قد سبق الإقرار على قبولهم، وكل ذلك يقرر بأغلبية الآراء.
وكانوا منقسمين إلى ثلاث فرق: (1)
التلامذة. (2)
الرفاق. (3)
الأساتذة.
وهي درجات يرتقي فيها العضو بالاستحقاق، وكانوا يقيمون فيما بينهم العهود الوثيقة المؤيدة بالأيمان أن يساعدوا بعضهم بعضا. أما رؤساء اجتماعاتهم «المحافل»، فكانوا ينتخبون كل خمس سنوات ويلقبون بالأساتذة.
وكان الإخوة البناءون لا يبتدئون في أشغالهم إلا بعد تقديم بعض الفروض الدينية، ونظرا لاختلاف نزعاتهم ومعتقداتهم كثرت أسماء آلهتهم؛ فاتفقوا إذا صلوا أن تكون صلواتهم باسم «مهندس الكون العظيم» إشارة إلى أن هذا الكون بناء عظيم، فخالقه مهندس عظيم.
وكان تكريس الطالبين المختارين في هذه الجماعات مقصورا على تلاوة بعض الفروض الدينية، ثم يبلغونهم واجباتهم ويفسرون لهم بعض الرموز، ويعلمونهم إشارات التعارف بعد القسم على كتمانها. ومثل ذلك في ترقية التلامذة إلى رتبة الرفاق، إلا أن هؤلاء يتعلمون فوق ذلك كيف يستخدمون المربع والفادن.
أما في ترقية الرفاق إلى درجة الأساتذة، فإنهم كانوا يقيمون الاحتفالات المقدسة والامتحانات المرهبة بما يشبه طريقة المصريين القدماء.
وجماعة البنائين على انحصار مهنتهم في البناء، كانوا لا يتركون علما من علوم العصر إلا أتقنوه وبرعوا فيه وعلموه في محافلهم، بحيث إنهم فاقوا سائر الجماعات الأخرى في العلم والفضل، فانتشروا في أنحاء كثيرة من العالم، وكانت لهم كلمات وإشارات يتعارفون بها.
Unknown page
وكان انتشار هذه الجماعات تابعا على الغالب لانتشار سطوة الدولة الرومانية، ولا سيما الفئات التي كانت منوطة ببناء الحصون والاستحكامات والمستشفيات والجسور والترع وما شاكل، وكانت تدعى «أخويات» إحداها «أخوية»، وكانت تستخدم في مثل هذه الأبنية العساكر وفعلة آخرين من غير جمعياتهم، فبلغت هذه الجمعية درجة عظيمة من العلم والأدب وصناعة البناء، وصار لها شأن عظيم عند الدولة الرومانية، وكانت ترافقها حيث حلت منتصرة، فأصبحت دعامة هيئتها الاجتماعية علما وعملا. وما زالت هذه حالتها حتى سقوط الدولة الرومانية وتسلط البرابرة، فانحطت وضعفت سطوتها، وما زالت تحاول النهوض حتى انتشرت الديانة المسيحية في أوروبا، فعادت هذه الجمعية أو الجمعيات إلى رونقها واتسع نطاقها. (2) الماسونية في عهد الدولة الرومانية
ففي سنة 710ق.م عهد نوما بومبيليوس إلى جماعة البنائين بناء سور المدينة، ثم أمر بتتميم بناء هياكل الشمس والقمر وزحل وغيرها من المعبودات. وكان روملس والصابنيون قد شرعوا فيها، فعهد هو إلى البنائين إتمامها، ولما أتموها عهد إليهم بناء هيكل لكل من الفضيلة والأمانة وروملس وجانس، وكان نوما يعتبر هذا الإله على الخصوص، وبنى غير ذلك من الأبنية الهائلة.
وفي أيام أنكس ماركس كثر الشعب الروماني فاتسع نطاق رومية، فعهد إلى البنائين بناء سور آخر خارج الأول، ثم بعد ذلك عهد إليهم بناء مينا بحرية في أوستي لتقوية التجارة، وبناء كثير من المراكب البحرية.
وفي أيام تركوين سنة 610ق.م بنى البناءون هياكل عديدة للآلهة جوبتير ويونون ومنارڤا، وعهد إليهم بناء سور وترعة تحت الأرض.
وفي أيام سرفيوس طوليوس سنة 580ق.م بنوا هيكل ديانا وغيره. وما زالت البنايات تشاد حتى سنة 451؛ إذ وضعت الشرائع الرومانية في 12 لوحا، في اللوح الثامن منها شيء يتعلق بجماعة البنائين.
وفي سنة 390ق.م هدمت بعض بنايات رومية بسبب غارة الغاليين عليها وحرق بعضها، وفي 385 رممت وبنيت معابد وبنايات أخرى.
وفي سنة 285ق.م بعد استيلاء الرومانيين على غاليا سيسالبين انتشرت أخويات البنائين «كذا كان اسمهم»، في أقسام كثيرة من تلك البلاد المفتتحة، أخوية في كل مقاطعة. وكانوا يرافقون الجيوش حيث توجهوا لتمهيد السبل وبناء القلع والحصون والخنادق والجسور والترع، شأن فرق المهندسين في جيوش الأمم الحديثة، فإن هؤلاء يرافقون الجيش في الحروب؛ يقيمون لهم الجسور والسكك الحديدية، ويوصلون خطوط المخابرات من تلغرافات وتلفون وإشارات وغير ذلك. وكان الإخوة البناءون يستخدمون العساكر وغيرهم من الفعلة في إقامة تلك الحاجيات الحربية وغيرها، وكانوا على جانب من الانتظام يرأسهم رؤساء عموميون وخصوصيون، وفيهم أرباب الصنائع والعلوم وحقوقهم وامتيازاتهم محفوظة؛ فانتشر بوساطتهم حب الفضيلة والآداب والصنائع الرومانية في سائر البلاد التي افتتحتها الدولة الرومانية، وكانوا يحملون الأمم المقهورة على استعمال الشرائع الرومانية والتخلق بأخلاق الرومان.
وفي سنة 280ق.م بعد غلبة الرومان على القرطجنيين في البحر، بنوا هيكلا لجانوس وآخر للرجاء.
وفي سنة 275ق.م أتم الرومان فتح معظم البلاد الغالية، وأقاموا فيها أخويات البنائين يرممون ما هدم منها، ويقيمون فيها القلع والأسوار، وبعد يسير استولوا على إسبانيا، فأقاموا فيها أخوية، فأسست مدينة قرطبة سنة 225ق.م.
وفي سنة 220ق.م هاجم هانيبال الرومانيين، فهزموه وأقاموا في رومية تذكارا لانتصارهم معبدا لإله سخري.
Unknown page
وما زال الرومان يقيمون البنايات والمعابد في بلادهم والبلاد المفتتحة إلى سنة 101ق.م بعد انتصارهم على التيوتينيين. وكانت بنايات الإخوة البنائين إلى هذا العهد على النمط الأتروري (نسبة إلى أتروريا من إيطاليا) أي أن يقيموها على بساطتها، وإذا أرادوا تزيينها يجعلون فيها تماثيل وأدوات أخرى مغتنمة من أعدائهم، أما بعد هذا التاريخ فصار فيهم ميل شديد إلى تقليد اليونانيين في مبانيهم، إلى أن تمكن ذلك الميل فأهملوا النمط الروماني.
وفي سنة 79ق.م دمرت مدينة هركولانوم، وهي مدينة قديمة العهد بناها الإخوة البناءون، فذهبت فريسة بركان فيزوف.
ومثل ذلك مدينة بومباي، وهذه لم تكن أقل شهرة من هركولانوم، فإنها ذهبت فريسة زلزلة حصلت في تلك السنة، ثم ردم معظمها من متصعدات فيزوف.
وفي سنة 60ق.م تسلط يوليوس قيصر على جميع غاليا الترنسالبانية، وهي الآن فرنسا وبلجيكا وسويسرا، وذلك بعد حرب عشر سنوات. قال بلوتارخس: إن ثمانمائة مدينة غالية دمرت بسبب هذه الحرب. فعهد يوليوس قيصر إلى جميع أخويات البنائين في سائر الأقطار أن يقيموا تلك المدن بمساعدة عساكره، وأن يجعلوها أتقن مما كانت، وأن يجعلوا فيها الهياكل والمعابد، فأجروا ما أمر به وتتبعوا العمل بعد وفاته بأمر من خلفه، حتى أتوا على إتمام ذلك العمل العظيم؛ فكان لديهم مدن كثيرة صار لها شأن، ولا يزال إلى هذا اليوم، منها مون تريف، والريم، وتور، وبوردو، وليون، وڤينا، وطولوس، وباريس، وغيرها من المدن العظيمة، وقد درس بعضها.
وفي سنة 55ق.م حارب الرومان بريطانيا مرارا وتغلبوا على أهلها، لكنهم لم يتسلطوا عليها، وأخيرا أمر يوليوس قيصر أن تتقدم جيوشه في البلاد البريطانية، وأمر الإخوة البنائين أن يرافقوهم ويبتنوا لهم معسكرا محاطا بسور يجعلون في ساحته خنادق ومعابد وبيوتا، ففعلوا ودعوا ذلك المكان «أبوراكم» وهي الآن «يورك»، وهي عظيمة الأهمية في تاريخ الماسونية.
وبينما كان يوليوس قيصر منشغلا بالفتوحات ويهدم هياكل السلتيين والبروديين سنة 50ق.م كان بومبه منشغلا في رومية ببناء المرسح الشهير المصنوع من الرخام الأبيض، وهو من السعة بحيث إنه يسع ثلاثين ألفا من الناس، فبناه الإخوة البناءون وبنوا كثيرا غيره، ثم لما عاد يوليوس قيصر إلى رومية رمم كثيرا من الهياكل وأمر ببناء هياكل جديدة، منها هيكل لمارس، وآخر لأبولون، وآخر للزهرة، وجميع هذه في إيطاليا الحديثة، ولما أتموا ذلك أنفذ منهم فرقة إلى قرطجنة ليرمموها. وما زالت البنايات والمعابد تقام في رومية وما تحتها في أيام يوليوس قيصر ومن خلفه إلى أول التاريخ المسيحي.
ففي سنة 5ب.م كان في رومية بناءون من اليهود، وكانوا تحت حماية الحكومة، وكان مرخصا لهم إقامة المعابد من أيام يوليوس قيصر، فانضم منهم جانب إلى أخوية البنائين ليتيسر لهم استخدام صناعة البناء في بناء معابدهم، فأدخلوا جانبا من الأسرار اليهودية إلى الأخوية.
وفي سنة 50ب.م أخذت أخوية البنائين في الضعف لما طرأ عليها من تغير الحكام واختلاف مشاربهم، فسلب منها كثير من الامتيازات رويدا رويدا؛ ولذلك نرى أن المباني التي أقيمت في ذلك العهد لم تكن قويمة العماد كالتي بنيت قبلها، ومثل ذلك الانحطاط لوحظ في بنايات اليونان أيضا، والسبب في ذلك أن يوليوس قيصر كان قد أرسل عدة من كبار البنائين في فرق من إخوانهم إلى الأنحاء الكثيرة التي افتتحها، لكي ينشروا فيها روح الفضيلة والآداب وحب العدل والإذعان للحاكم. وبالحقيقة إن تعاليم أولئك البنائين كانت تؤثر في عقول هؤلاء الشعوب تأثيرا يعجز عنه سيف يوليوس قيصر.
وبين الرؤساء الأساتذة الذين قاموا في ذلك العهد كوسوتيوس وكايوس وماركس ستاليوس ومينالبوس وسيروس وكلوتيوس وكريسيب وغيرهم، وكان بينهم آخرون امتازوا بأنهم كتبوا شيئا عن علم البناء لكي ينشر على الإخوة البنائين الذين كانوا بعيدين من المدارس المركزية، وهؤلاء المؤلفون هم ڤيترڤيوس يوليو، وڤولڤوتيوس، وفارون، وبوبليوس، وسبتموس.
وفي سنة 54ب.م أحرق نيرون الملك عاصمته، ثم أمر ببناء سرايته المعروفة بقصر الذهب. وفي أيام كلوديوس اتسعت رومية.
Unknown page
وفي سنة 90ب.م بنى البناءون في بريطانيا بأمر القائد إغريقولا استحكامات في خليجي فورث وكليد.
وفي سنة 120ب.م في حكم أوديان كثر بناء الهياكل في رومية، ثم إن هذا الملك الهمام طاف في سائر بلاده الشاسعة الأطراف، وبعد عوده أنفذ فرقة من الإخوة البنائين إلى بريطانيا لتبني سورا كبيرا ممتدا من «تين» إلى خليج «سلوي»، قاطعا جميع بريطانيا من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي؛ وقاية للمستعمرات العسكرية من هجمات الاسكوتلانديين المستمرة. وأنفذ فرقة إلى إسبانيا لإتمام الهياكل التي كان شرع في بنائها أوغسطوس، وأقام هياكل كثيرة في أفريقيا ولا سيما في جزائر الغرب وتونس، ولم تحرم آسيا أيضا من مثل تلك البنايات. إلا أن اليونان أحرزت القسم الأكبر من الاعتناء في أمر البناء، فأقيمت فيها هياكل لجوبتير وبانهلينيان وبانثيون، والأول من هذه الهياكل قائم على 122 عمودا.
ولما سقطت الجمهورية الرومانية سنة 130ب.م سقطت معها جميع الجماعات العلمية والصناعية، التي كان أقامها نوما بومبيليوس وخسرت كل امتيازاتها، إلا أن أخوية البنائين نظرا لحب أولي الأمر للمجد والفخر وداعيات الترف أبقوا لها امتيازاتها كما كانت تقريبا؛ كل ذلك لينشطوا صناعة البناء، فيبني لهم البناءون القصور والهياكل والتماثيل الهائلة لتحفظ ذكرهم إلى الأجيال الآتية بعدهم.
وفي سنة 140ب.م أنفذ أنطونين جماعة من البنائين إلى بريطانيا لتبني سورا منيعا؛ وقاية من الاسكوتلانديين الذين لم ينفكوا عن مهاجمة مستعمرات الرومان. ونظرا لعظم ذلك المشروع احتاج البناءون إلى استخدام الوطنيين في بنائه، فأدخلوا في أخويتهم عددا من رجالهم.
ومن آثار الإخوة البنائين التي أقيمت بأمر أنطونين قلعة بعلبك الشهيرة، فإنها في الأصل هيكلان أقامهما هذا الملك لعبادة الشمس، وكيفية ذلك أن جماعة من الإخوة البنائين - وهم من بقايا جماعات رومية - هاجروا إلى تلك الأصقاع في أيام اضطهاد نيرون ودميسيان وتراجان للديانة المسيحية، وكانوا في جملة من تابعها، فغادروا رومية طلبا للنجاة، ثم لما جاء على الأحكام من رفع الاضطهاد عنهم عادوا إلى بلادهم. (3) انتصار الماسونية للديانة المسيحية وما قاسته في سبيل ذلك
وفي سنة 166 اعتنق الديانة المسيحية كثير من الإخوة البنائين في رومية وجاهروا بالانتصار لها، فشق ذلك على الإمبراطور مارك أورال، فاقتفى آثار أسلافه فأعاد الاضطهاد وشدد النكير، فهاجر كثيرون من غاليا وغيرها والتجئوا إلى بريطانيا حيث لاقاهم هناك إخوانهم وأكرموا مثواهم.
أما البناءون المتنصرون في رومية فكانوا يأوون الكهوف والمقابر فرارا مما كان يتهددهم من المخاوف والاضطهادات، فنجوا من الإعدام الذي كان محكوما عليهم به، ولم تمض عليهم عشر سنوات من الاضطهاد تحت حكم مارك أورال حتى جعلوا المدافن التي كانوا يأوون إليها هياكل بديعة الصنعة مزينة بأنواع النقوش، وأقاموا مذابحها على قبور الذين استشهدوا منهم في سبيل الدين. ثم زاد عدد الشهداء حتى إنهم كانوا يبنون فوق مدافنهم الكنائس العظيمة، وبالغ البناءون في الانتصار للديانة المسيحية حتى إنهم نسوا ذواتهم ومالهم في سبيلها، فكانوا يعرضون بأرواحهم للقتل والاضطهاد الذي كان يتزايد يوما فيوما، كل ذلك انتصارا لما كانوا يعتقدون فيه الصواب والحق.
ولا نظنهم كانوا يفعلون ذلك إلا رغبة في نصرة الحق ونشر المبادئ الصحيحة؛ تخلصا من عبادة الأوثان المزعجة التي كانت سائدة في ذلك العهد. وسترى أنهم تابعوا سيرهم في هذا السبيل، بحيث إنه لم يعد لدينا ما يمنع قولنا إنهم كانوا أقوى وسيلة لنشر الديانة المسيحية في تلك الأعصر المظلمة.
وفي عهد الإمبراطور طيت سنة 180ب.م استؤنف الاضطهاد، وبالغ هذا الإمبراطور في ذلك حتى أباح دماء كل من عرف عنه الانتماء أو الانتصار لتلك الديانة، فأقام في البنائين القتل والأسر، ولم ينج منهم إلا الذين أتيح لهم الفرار إلى المشرق، فانحطت صناعة البناء في رومية.
وفي عهد الإمبراطور إسكندر سافار سنة 193 عادت تلك الصناعة إلى شيء من الظهور؛ لأن ذلك الإمبراطور كان منشطا لها، وكان يدافع عن المسيحيين سرا، فرمم عدة هياكل قديمة كانت على وشك الدمار، وكان في نيته إقامة معبد للمسيح، لكنه أوقف عن عزمه بدعوى الشعب أنه إذا فعل ذلك إنما يكون ساعيا إلى خراب سائر الهياكل.
Unknown page