ورد على صاحب تونس ، من أكابر ملوك البربر ، ابن ملك منهم يعرف بابن غمراص فاحتفل به الملك ، واستدعى أهل البلاد والعربان ، فبادرت أمراء العربان ، قبل جميع الناس ، وهم يومئذ سبعون أمير . فخرج إلى لقائهم بنفسه ، وضربت لهم الخيم ، وقيل لهم : " أنتم معتادون البر ، وما تطيب لكم العماير ، فاقعدواعلى عادتكم ، ومن أحب منكم أن يدخل البلد فليدخل !" . وأخلى لهم عشر دور برسم راحتهم في النهار واحترمهم الحرمة التامة ، بحيث أنه كان الرجل من أهل البلد يقتل قتيلا ويلم بأبياتهم ، فلا يؤذى . ثم إن ابن غمراص ركب قاصدا الملك ، فركبوا في خدمته ، ودخلوا تونس ، فقام هم صاحب تونس ، وجعل يثني عليهم وعلى ابن غمراص أيضا ، وأمراء العربان يقبلون الأرض عقيب كل شكر . ثم طلبهم أن يدخلوا قصره ليلة واحدة ليشربوا معه ، فدخل منهم الأكثر ، وتوقف منهم نحو العشرين نفرا لم يدخلوا . فسير هم من المأكول والمشروب وغرايب ما عنده ، وقال لهم : "إنما طلبتكم لأريكم زخرف ما عندي ، فمن خطر له الدخول إلى عندي دخل ، ومن اختار المقام فليقم " . ثم إنه أظهر لأولئك الذين دخلوا القصر من أنواع الزينة ما أذهل عقولهم ، واخرج من جواريه نحو الخمسين جارية ، يرقصن بين ايديهم ، ومن خطر له جارية منهن أعطيها ، وأنعم على الحاضرين بالذهب ، ولم يسير للبرانيين شيئا . فلما اصبح ركب معهم ، وخرجوا إلى عند الجماعة المتأخرين ، وسلم عليهم وثنى رجله على نسج جواده ، وقال لهم : الغدر باق فيكم ، فلهذا تأخرتم ، ولكن ما نواخذكم بل نعمل لكم قبة في وسط القصر جديدة ، ونسميها قبة العرب ، تجتمعوا فيها علىاختياركم ، ومن أول يوم نضع آساسها نشرب فيها" . فرضوا بذلك ، فقال رجل منهم ، يقال له صابر الدبابي ، " افتخر بنا يا آمير المؤمنين ، فمن أعمارنا ما قبلنا يد ملك ، ولقد كان والدك يحسن إلينا وما نشتهي نراه" . فتبسم وقال : " إن العرب يتكلمون بما يريدون" . ثم أمر لهم بمثل ما أعطى من كان معه من الذهب . ثم ساق بخيله ومماليكه وقال : "لي شغل فاستريحوا في مواضعكم" . ثم سار إلى أن دخل فصره.
ذكر مكيدة صنعها للعربان تمت
وعندما دخل قصره استدعى معمارا يقال له عمرون القرطبي ، وقال : "أريد ان تبني لي في هذه الرحبة قبة أربعين ذراعا في مثلها تكون جميعها حجرا صامتا ويكون لها تلاثة أبواب ، باب يختص بالعرب ، وتكتب عليه اسمأهم ، وباب سر ادخل منه وأخرج، وباب آخر للحاشية" . فرسمت القبة بالجير ، وأمر بقطع الحجارة فقطعت في أسرع وقت . ثم إن الملك عانق عمرون المعمار ، من غير عادة تقدمت ، وقال له : إني وقفت على سيرة بعض الخلفاء ، فرأيت فيها أنه قتل جماعة في قبة أساسها ملحسيب عليه الماء فسقطت ، فهل لك في ذلك حيلة؟" فقال : "إنني أشد الناس حيلة في ذلك" . فتقددم بعمل فرن حيلة لإحضار الملح ، لئلا يتهم في إحضاره . ثم شقالأساس ، وردم ملجا في الليل ، فلم يصبح إلا وهو قد دار بالحجارة دورا واحدا . ثم طلب العرب فحضروا ، وبسط المكان وجلس الملك والعربان يشربون ، والصناع تعمل إلى العصر ، فركب وتركهم بالمكان ، فمنهم من خرج بعده ، ومنهم من تأخر إلىالغرب ، وبتي على هذا الحال يشرب في ناحية القبة ، والصناع تعمل في الجهة الأخرى مدة أربعين يوما . وكملت القبة ، فرسم ببياضها وتصوير العربان منها ، فكان البدوي منهم ينظر إلى صورته كانها تنطق ، فيعجب من حذق الصانع . وكان بالقصر حمام عتيقة ، مجرى مائها حاكم على أساس القبة ، فخزن الماء ، من حين الشروع في بنايها في بركة معدة له . فلما تمت القبة قال لهم الملك : " إني الليلة بايت بالقبة معكم ، فلا ينصرف منكم أحد" فشربوا من آخر النهار ، واستقبلوا الليل بالسرور والأفراح. وكان قد حصل عند العربان في هذه المدة الأمن الزايد الذي لا يرتابون معه ، فهم على غاية الطمأنينة ، وأمر الملك أن يحفر التراب من على الأساس ، إلى أن يظهرالح، ويطرق إليه طريق من الحمام ويستر بالبسط . ثم أحضر منجما يقال له أبواالرقيقة من أهل إشبيلية ماهرا في صناعته ، وقال له : " إذا أطلق ماء سخن على أساس ملح ، ففي كم يذوب؟" . فقال له : " في تسع ساعات" . فصرفه ، وعلق الأصطرلاب على عشر ساعات من الليل . ثم إنه دخل بهم في ثالث ليلة ، ولم يغب منهم أحد إلا بكمالهم وجلسوا على عادتهم ، وأطلق الماء من المغرب في الأساس ، فساح الماء على الملح إلى ثامن ساعة ، فقام أمير المؤمنين ، بعد أن جهز من يعز عليه في اشتغال ، وترك من لا يريده معهم وخرج، فأوسع طريق الماء بالأسياخ إلى أن ذاب أكثر الملح، وقوي عليه الماء ، فسقطت يدأ واحدة ، فلم يسلم منهم أحد ، وكان قدا أمرهم أن يكتبوا إلى أولادهم ليحضروا البنات ، ويحضروا أخذ الذهب، فكتبوا من حال وصوهم ، فاتفق أن الأولاد [تأخروا] إلى أن نجزت أشغالهم وتوجهوا و وافق وصولهم صبيحة الليلة الي سقطت فيها القبة . فلما حضروا رأوا الملك باك وعليه ثوب قطن ، والحزن ظاهر عليه ، فقال لهم : "ما ترون ما قد جرى على هؤلاء يعر والله علي ، ولكن هذا أمر سماوي ما لأحد فيه حيلة !" . ثم إنه طلب المعمار فضرب عنقه ، لئلا يشيع هذا الأمر ، ونبش العربان فدفنوا ، وحلف الأولاد وبايعوا مبايعة جديدة ، واستقر له الملك من يومئذ ، واستعاد من العربان ما كان أعطاهم من البلاد االخمس المذكورة ، وعوضهم عنها بالغلال . وكان من سيرته آن سلاح جنده جميعه و الة الجهاد والحرب عنده مخزونة في خزاينه ، وعلى كل سلاح اسم صاحبه لا يمكن أحدا من التصرف في شيء منه ، فإذا اتفق حرب حملت العدد على الجمال وأخرجت فرقت على الرجال ، فإذا قضي الشغل أعيدت إلى الخزاين ، وكلما عتق منها شيء جدد ، وكلما فسد شيء أصلح من ماله ، وإن مات الرجل ورثت لولده ، وإن لم يكن له ولد ولا وارث تركت لرجل غيره . ولم يعتمد هذا في تونس غير آمير المؤمنين اي عبد الله محمد هذا بعد عمومته ، وقتله إياهم خوفا من الخروج عليه ، فلم تطمئن فسه إلا بما ذكرناه آنفأ . وأما الأجناد ، فلم يكن لأحد خبز بل نقد ، ولا لأحد من الناس في البلاد شيء إلا من كان له ملك من أجداده فهو باق عليه . وارتفاع البلاد اسرها يجمع ويحمل ، ثم يفرق في السنة ، أربع مرات كل ثلاثة شهور نفقة ومجموع المال ؛ فالربع والثمن لأمير المؤمنين ، والنصف والثمن لبيت المال ، فما يصرفعلى الشواني للجهاد والعماير وإصلاح ما يجب إصلاحه من البلاد من النصف والثمن أمر قاضي القضاة ، وما يخص أمير المؤمنين من خيل وسلاح ولباس وعدة ومماليك ونفقات ، فهو من الربع والثمن، ومن خامر من الجند أو مات وليس له وارث عاد ما ترك إليه مع الربع والثمن، / فيصير له نحو من النصف والثمن ، فيكون له من هذا الوجه نصف وكمن ، ولبيت المال نصف وتمن :
Page 198