ذكر عود أبي يحيى وأولاد أمراء العربان صحبته
ثم إن الملك محمد صاحب تونس كتب إلى الشيخ ابي يحيى بن صالح يستدعيه إليه ، وقال له : من اختار من امراء العربان أن يصحبك فاستصحبه معك" . فصحبه من العربان تسعة نفر من كل فخذ ثلاثة ، وهم أولاد الأمراء المذكورين . فدخل إلى تونس ، وكان يوم دخوله يوما مشهودا ، خرج الملك بنفسه من غير عادة تقدمت له لذلك لأحد ، ففزع أبو يحيى من هذا التجاوز في الاحترام الحد ، فأقام ثلاثة أيام يسأل العفو من هذا الذي عامله به ، فقال له : "لا عليك إنها داهية في حق العربان !". ثم أنزل التسعة المذكورين ومن معهم ، وصاروا كل ليلة يحضرون مجلس صاحب تونس ، ويشربون وينصرفون بالخلع والمال . ثم إن الملك أحضر يهوديا نقاشأ وقال له : " افتح لي سكة يضرب عليها دينار ماية مثقال" . فقال له : "السمع والطاعة، غير أنها إذا أفرغت يتصدق الملك علي وعلى عاثلتي بما علينا من الجالية !" . فقال : ا نعم !" . فذهب وفتح السكة ونقشها ، فضرب عليها عشرة آلاف دينارا . ثم دخل دار الحرير ، وهي دار الطراز ، فأبطل ما كان بها من أشغاله ، وأمر أن يعمل بها ثياب برسم بنات العربان الذين خطبهم ، وأن يعمل شوار كل بنت رنك أبيها . وأخرج الذهب ، وجعل في الصناديق مقسوما سوية ، وأخرج ستة من العدول صحبة الذهب ، وسير الجميع إلى العربان ، ليكون كتبة الكتاب عندهم ، وقيل لهم فيما قيل : "من شاء منكم أن يحضر ، ومن شاء يقيم مكانه" . فلما رأت أمراء العربان أن أولادهم عادوا سالمين ، ورأوا ما معهم من الأموال ، ورأوا أيضأ تلك الأموال والقماش وقد فرش في البرية ، فذهلت عقولهم ، واشتدت أطماعهم ، ولم يبق هم حديث إلا فيه ، ولا لهم فكر ينصرف عنه . فلما كتب الكتاب عادت العدول إلى تونس ، وتنوسي ذلك الأمر قليلا . ثم كتب كتبأ تتضمن أنه قد طرأ أمر نحتاج فيه إلى المشورة ، فمن أراد منكم أن يحضر المشورة فليحضر ، فأول من سارع إلى ذلك التسعة المقدم ذكرهم ، ثم وصل معهم نحو السبعين رجلا من كبارهم . فأركب الملكا ولده للقائهم ، وأنزل كل عشرة منهم في دار ، وأوسع عليهم في النفقات والمأكول والمشروب، وصاروا معه حيث كان فأقاموا على ذلك عشرة آيام . ثم قال لهم : " إنالأمر الذي أحضرناكم فيه قد قضي من غير احتياج إلى مشورة فيه وذلك ببركاتكم فارجعوا إلى بلادكم" . فخرجوا رافعي الرايات داعين للملك شاكرين . فأخذ رجل منهم في الطريق عشرة أرؤس بقرا ، فقطعوه بالسيوف ، وسيروا رأسه إلى تونس . فشق ذلك على الملك وقال : "البقر بقري ، ولعل قد كانت له حاجة بها فلم فعلتم به ما فعلتم " . ثم أمر أن تعمل له جنازة ويدفن . فأمنت العرب بذلك غاية الأمن لواطمأنوا غاية الطمأنينة ، وأقاموا على هذه الحال سنة كاملة ، فحصل لصاحب تونس ، بسبب أمن البلاد ، أضعاف ما أنفق من في العربان من المال .
Page 195