Tarikh Junun
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
لم تبدأ الإدارة الملكية في التفكير في الإصلاح الكامل لنظام تقديم المساعدة في المملكة إلا متأخرا، بعد أن تنبهت إلى إخفاق المشافي العامة وإلى أسلوب الإدارة غير المرضي لدور الاحتجاز الجبري ومستودعات التسول. كان لا بد من البدء من نقطة الصفر، واضعين في الاعتبار أن المختلين عقليا لا يشكلون إلا فئة من بين الفئات الأخرى من المبتلين. فما العمل - على سبيل المثال - مع الأطفال اللقطاء، الذين يتزايد عددهم أكثر فأكثر؟ كيف يمكن تحسين تنظيم عملية إيداعهم في دور الحضانة في الريف؟ وكيف ينبغي التعامل مع المصابين بالأمراض التناسلية، بينما ينتشر بسرعة متنامية «مرض الزهري» [السفلس]؟
هذا الفكر الإصلاحي الذي ساد العقود الأخيرة من النظام القديم، كان يحركه الاتجاه القوي نحو المحبة الإنسانية ومساعدة الغير، الذي ازدهر في هذه الفترة، وفي الوقت نفسه الإنجازات الهائلة التي حققتها المركزية الملكية، والتي أعطت دفعة ثانية لنظام الحكم المطلق الذي خفف منه فكر التنوير.
الإحسان والجنون
بدأ تيار العمل الخيري، الذي كان متأصلا بالفعل في إنجلترا، يزدهر في فرنسا في نهاية حكم لويس الخامس عشر، وذلك في الفترة التي شهدت بزوغ نجم العلماء الموسوعيين. يتميز هذا التيار على وجه الخصوص ب «النفور الفطري الذي يشعر به الإنسان إزاء رؤية معاناة نظيره» (روسو). هذه الشفقة نحو الآخر وهذا التطلع إلى مساعدة الغير، يتميزان عن تيار العمل الخيري التقليدي (الذي خمد بشكل كبير) بأن أهدافهما ليست إلا وقتية. فقد بدأت تنشأ عقيدة المساعدة على أساس أن الشقاء هو نتاج الوضع الاجتماعي. فالمجتمع ملزم بإصلاح الضرر الذي تسبب فيه. ويعد واجب تقديم المساعدة عند الحاجة أمرا أقرته القوانين (ديدرو)، وهي فضيلة علمانية تماما تصبح الدولة بمقتضاها هي الكيان الأكثر قدرة على الوفاء بمتطلبات الإنسانية. وهذا هو المقصود بكلمة «المساعدة العامة».
في سياق هذا الفكر، أنشأ تورجو، الذي تولى منصب مراقب عام الشئون المالية في الفترة من يوليو 1774 إلى مايو 1776، لجنة تقصي حقائق بقيادة رئيس أساقفة تولوز لوميني دي بريان. وهو العمل الذي كان من شأنه أن يسفر فيما بعد عن وضع خطة شاملة لتنظيم المساعدة. وبالطبع، اقترح محبو العمل الخيري العام إصلاحات أخرى، خاصة في مجال التعليم والتربية، والصحة والقضاء، ولكن المساعدة شكلت الأولوية القصوى، ولا سيما وقد اشتعلت جذوة النقاش بعد حريق المشفى الرئيس بباريس في 30 ديسمبر 1772. خلف نيكر - واحد من أبرز الشخصيات في مجال العمل الخيري (وكذلك زوجته التي اتخذ نشاطها طابعا شبه رسمي) - تورجو في عام 1777، وأنشأ في العام نفسه لجنة مكلفة بالبحث عن الوسائل اللازمة لتطوير نظام المشافي.
في كل مكان سلط الضوء على الوضع المؤسف للمشفى الرئيس والمشفى العام بباريس. أما عن المؤسسات الموجودة بالأقاليم، فكان ينظر إليها على أنها نماذج مصغرة عن بيستر؛ أي مشافي رئيسة صغيرة تخفي نفس الفظائع. «أنا مقتنع - كتب رئيس الدير دي فيري في دفتر يومياته - بأن المريض، المتروك لطبيعته وحدها ولتعاطف جاره، سيبرأ بالتأكيد، الأمر الذي ليس مضمونا في حال تلقيه للرعاية المزعومة التي من المفترض أنها تقدم له في المشافي الرئيسة بالمدن.» أما لوكلير دو مونلينو، فقد أطلق التصريح التالي: «فلنتوقف عن التصدق ولنهدم جميع المشافي!» المراد من هذا القول هو أنه، خلافا للتجمعات المركزية الكبيرة، كان يجب تطوير فكرة الإعانات المنزلية والاهتمام ببناء مؤسسات صغيرة. قدم نيكر مثالا يحتذى، بإنشائه في عام 1778 مشفى نموذجيا مصغرا، بشارع سيفر، وعهد إلى زوجته بإدارته. وتكمن الفكرة هنا أيضا في إضفاء طابع التخصص على المشافي، وهي فكرة ليست بالجديدة بالنظر إلى أنه في أثناء إحدى المداولات التي أجريت بمكتب المشفى الرئيس في عام 1525، أعرب المسئولون عن رغبتهم في الاقتداء بإيطاليا في «إلزام المشافي الكائنة في هذه المدينة بالتخصص في استقبال الحالات؛ بحيث يستقبل بعض المشافي النساء على حدة، وبعض آخر الجرحى، والباقي المختلين عقليا، بالإضافة إلى مشفى للأطفال الصغار، وآخر للمصابين بالأمراض الجلدية والتناسلية، وهكذا يجري الفصل بين المرضى.»
وهكذا استطاع أنصار تيار العمل الخيري، في هذا السياق، اكتشاف الحمقى، بكل ما أحاط بهم من زنازين وقيود. لقد خلق الجنون ومحبو العمل الخيري ليلتقيا، كما تكشف عن ذلك قصة إليونور التي حددت شكل حقبة ما قبل الرومانسية الناشئة. يتحدث إلينا طبيبها الذي قرر - بالاتفاق مع الأب - إخراج إليونور من أحد أديرة تور؛ حيث تم احتجازها لإصابتها ب «الاهتياج الرحمي » [غلمة]. «لن أستطيع أن أصف حجم الرعب الذي تملكني عند دخول هذا المنزل؛ حيث يسكن السخط والجريمة واليأس [...] يا له من مشهد قبيح جدا ومخيف للغاية! يا لهاتين العينين الزائغتين والغائرتين، وهذه البشرة الصفراء الشاحبة، وهاتين الوجنتين المترهلتين الباهتتين، وهذه الشفاه المتدلية ذات اللون البنفسجي، وذلك الفم المزبد الذي تنبعث منه رائحة نتنة، وهذه الأسنان السوداء المتخلخلة، وذلك القوام المحني والمشوه! في المجمل يا لتلك البشاعة! أيمكن أن أظن أنك كنت يوما ما جميلة وتمتلكين مفاتن؟ [...] حين أبلغت الرئيسة بأنني مكلف باصطحاب إليونور لإعادتها إلى منزلها، قالت لي إنني سأكون المسئول، ولكن الأمر يبدو لها مستحيلا، ما لم تقيد بالسلاسل في عربة مسقوفة، وأنه على الرغم من هذه الترتيبات قد تتسبب إليونور بصرخاتها المخيفة في إحداث بلبلة واضطرابات وإثارة فضيحة شنيعة في الطريق. أجبتها بأنني أعددت العدة لكل شيء. أما بخصوص وسيلة تقييد إليونور، فلن أسمح بذلك.»
1
فظاعة زنازين الحبس الانفرادي والقيود هما أكثر ما أثار شفقة محبي الخير، حتى عدالة النظام القديم تأثرت بهذا الأمر، كما ورد في نص ذلك القرار الصادر في عام 1781 عن محكمة برلمان روان: «بناء على التنبيه الموجه إلى البلاط من قبل النائب العام للملك، والذي أوضح أن الجنون يعد أحد أكثر الأمراض إذلالا وإيلاما للبشرية، ومن ثم، فإن هذا المرض بقدر ما يحتاج إلى الرحمة، يتطلب اللجوء إلى أشد الوسائل عنفا لوقف نوبات الهياج وفورات الغضب المصاحبة له. ومن هنا تأتي تلك الزنازين المليئة بالجنازير والقضبان الحديدية حيث يقاسي المجنون غالبا [المقصود بالطبع المختلون عقليا]، العقوبات نفسها تقريبا دون أن يكون مذنبا في أي من الجرائم التي تستوجب التعذيب.»
لقد أتاحت عملية نقل المجموعة الأخيرة من المختلين عقليا، التي كانت موجودة في برج المجانين بكاين، إلى مستودع بوليو للتسول، في السابع والعشرين من أبريل 1785؛ الفرصة لإعادة اكتشاف شناعة عالم السجون وويلاته التي يعانيها المختلون عقليا. ثم تقرر أخيرا تدمير هذا البرج المشئوم. بالطبع، كان الأمر يتعلق في البداية بإحدى عمليات التعمير العامة (حيث كان من المقرر إنشاء محاكم في هذا الموقع)، ولكن هذا البرج كان ينشر الرعب في قلوب الجميع، بدءا بالحاكم الذي كتب في العام الفائت بشأن حبس مجنون قاتل قائلا: «أرى أنه يجب سجن هذا المختل مدى الحياة، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك في برج شاتيموان؛ لأن ما سيلاقيه هناك من عذاب يبدو لي أسوأ من الموت .» وهذه المرة يجدر القول بأن ضباط المارشالية كانوا هم من رووا لنا في أحد تلك المحاضر الدقيقة والتفصيلية التي كانوا بالفعل على دراية كاملة بدوافعها الكامنة؛ وقائع استخراج المختلين عقليا، واحدا تلو الآخر، من البرج. «في البداية، فتحت لنا أكثر من حجرة خشبية في إحدى الشقق الموجودة في وسط البرج، ثم خرجت من إحدى هذه الحجرات المدعوة ماري جان جيدون [...] لقد كانت عارية تماما، وكانت قد سقطت من أعلى البرج؛ ولذا لم يكن بإمكانها الوقوف. ألبسناها كيفما اتفق قدر استطاعتنا، ثم حملها الشيالون الذين حضروا خصيصى لهذا الغرض ووضعوها في عربة نقل مفروشة بالقش ومعدة لاستقبالها.» ثم أخرجت خمس سجينات أخريات من هذه الحجرات ووضعن في عربات النقل. «وفي ثنايا التجاويف الموجودة بزوايا جدران البرج السميكة، في الغرفة نفسها، وجدنا أولئك المدعوين وقمنا بإخراجهم.» كانوا ثلاثة مختلين عقليا، من بينهم «رجل طويل وقوي مسجون منذ عشرين عاما. كان مجنونا هائجا، عاريا وخطرا، ولم يكن قد فتح له الباب منذ زمن طويل للغاية لدرجة أنه تعين كسر القفل والمزاليج [...] ثم تسلقنا أسوار المدينة ووجدنا، داخل سمك الجدار المذكور، المدعو نيقولا ديشان - مجنونا - راقدا على القش مرتديا قميصا رثا وكان جزء من فخذه متآكلا. في موضع آخر من الجدار عينه، وجدنا داخل وعاء حقيقي للعدوى والعفن والرعب المدعوين [...] الذين جرى أيضا حملهم ونقلهم إلى العربات. ثم نزلنا إلى عمق سحيق لا يتسلل إليه الضوء إلا عبر شباك مزود بقضبان حديدية على ارتفاع يزيد عن ثلاثين قدما، وأخرجنا من إحدى الزنازين المصممة داخل أسس هذا البرج المدعو فيليب، الذي كان قد جرى تقييد قدميه بسلاسل حديدية مربوطة إلى الجدار. كان ذلك الرجل مسجونا في هذه الزنزانة منذ ثلاثة عشر عاما، لم يكن يستطيع تحمل الضوء، ولم تكن ساقاه الضعيفتان تقويان على حمله. وقد وضع كالباقين السالف ذكرهم في إحدى العربات ...»
Unknown page