Tarikh Junun
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
كان الاتجاه السائد، منذ السنوات الأولى، يقضي بالإفراج عن المتسولين الذين يتعهدون بعدم معاودة التسول على الإطلاق، مع عدم الإبقاء إلا على العائدين إلى الإجرام وكذلك العاجزين، والمختلين عقليا مثل تلك المتسولة، «المصابة بعجز بالغ والفاقدة تماما لرشدها [والتي] لم يطالب أحد بها. لا يمكن بأي حال من الأحوال إطلاق سراحها.» أما عن ذلك المصاب بالصرع ذي الأربعة والعشرين عاما، الذي ألقي القبض عليه في شهر يوليو 1768، فلم يفرج عنه إلا بشرط أن يمكث عند والدته على أن تتم معاقبته بالحبس نهائيا في حالة معاودة الجرم. كان المشردون الذين «يصرعهم الداء الأعظم» - أي مرضى الصرع - كثيرين ومعظمهم من الشباب.
في أعقاب تصريحات تورجو التي تسببت في عام 1775 في عرقلة هذا المشروع، أغلقت مستودعات فير وفالوني (في عام 1769، بلغ عدد الحمقى في مستودع فير أربعة من بين إجمالي 14 شخصا)، ولكن واصل مستودع بوليو نموه وتطوره؛ حيث كان عدد المحتجزين يتراوح في الثمانينيات ما بين 200 و300 شخص. وكان يجري التذكير على الدوام بالغرض المزدوج من إنشاء المستودع، كما ورد في الخطاب الذي بعث به حاكم كاين إلى فرساي في عام 1775: «طالما كان لدار الاحتجاز التابع لمشفى الجذام والواقع بالقرب من كاين هدف مزدوج؛ الأول: أن يكون بمنزلة مأوى أو سجن للمتسولين والمتشردين والمتسكعين ، والثاني: أن يحتوي المجانين والمنحلين والعناصر الفاسدة التي من مصلحة العائلات احتجازها حتى لا تلوث سمعتها [...]» وهكذا، من وجهة النظر المؤسسية، كان يتم احتجاز المختلين عقليا على وجه التدقيق في دار احتجاز جبري (رسمي) وليس في مستودع للتسول في بوليو.
في عام 1784، بلغ عدد المختلين عقليا 43 (27 رجلا و19 امرأة) من بين إجمالي 283 شخصا. يضاف إلى الأشخاص الذين تم توقيفهم باعتبارهم مشردين، أولئك الذين تم إيداعهم الدار بموجب أمر ملكي وبناء على طلب العائلات، وفي أحيان كثيرة بشكل متزايد نزولا عند رغبة المجتمعات المحلية. تم إعداد حجرات المختلين عقليا في جناح بعيد، على مستويين، على جانبي ممر مركزي. وكانت كل حجرة، بمساحة «ستة أقدام مربعة» [3,80م
2 ]، تحتوي على نافذة صغيرة مرتفعة وباب قوي مزود بشباك صغير؛ «لتمرير حصة الطعام للمرضى من خلاله.» الجدران والبلاط قوامهما الأحجار التي تنتجها مدينة كاين. نصف الحجرات تقريبا ذات مساحة مضاعفة؛ مما يدل على أن السبب وراء ذلك، إن لم يكن توفير قدر أفضل من الراحة والرفاهية بشكل استثنائي، يكمن في أنه كان يتم غالبا وضع اثنين، بل وأحيانا ثلاثة، من المختلين عقليا معا. أما المصابون بالهياج، فكان يجري تسكينهم بالطبع في غرف منفردة. كان العدد في بوليو كثيرا، وفقا لتقارير سلوك كل واحد منهم. «إنه مجنون هائج، خطر ويخشى منه، إنه محبوس بشكل متواصل في غرفته.» أما عن المختل الذي يتشارك حجرته مع آخر والذي «تنتابه في بعض الأوقات نوبات هياج»، فيوضع مؤقتا - ودون وجود أي اتجاه للخلط بين الفئتين - في إحدى زنازين الحبس الانفرادي التأديبية المخصصة للمسجونين.
على الرغم من أن المختلين عقليا في بوليو كان لديهم مكان لإيوائهم ووضع مستقل، فإن حياتهم اليومية لم تكن تسير على ما يرام تحت سقف هذه الدار الفسيحة ذات الاستخدامات المتعددة؛ حيث لم يكن المتسولون الأصحاء هم الأكثر عددا، إنما، مما يثير المفارقة، أيضا العاجزون والمعوقون والمصابون بالأمراض التناسلية، والمصابون بالجرب ... هل كان المختلون عقليا يتلقون معاملة جيدة في بوليو، بالمقارنة مع المشفى العام؟ حدد قصر فرساي ، في عام 1770، القواعد المنظمة على النحو التالي: «طالما فكرت الوزارة في أن المحتجزين في المستودعات، إذ يتعين دوما إخضاعهم لنظام تأديبي بهدف إصلاحهم، من الضروري - لإشعارهم بثقل جرمهم وبغية تقويم سلوكهم في المستقبل - ألا تتم معاملتهم بصورة جيدة تماما، ونظن أنه لا بد من اتباع نهج وسطي نوعا ما بين الطريقتين اللتين يتم بهما إطعامهم في السجون وفي المشافي.» في موضع آخر، نجد الحاكم يذكر المهندس المعماري «أن دار الاحتجاز الجبري لا تتطلب إلا الصلابة والبساطة»، بعيدا عن «التصاميم الزخرفية المعمارية التي تكلف دائما الكثير من المال». من البداية، كان حاكم كاين، المسئول المباشر عن بوليو، يجري وراء المال الذي يعطيه إياه قصر فرساي بالتقتير وببخل مفرط يتزايد مع تفاقم الأزمة المالية التي أصابت البلاد في عهد النظام القديم. أصبح مستودع بوليو، مثل العديد من المستودعات الأخرى، مؤسسة تجارية. في عام 1781، كان هناك مائتا محتجز من بين مائتين وخمسين يغزلون القطن، بيد أن نتاج هذا العمل لم يكن كافيا لموازنة الميزانية، فضلا عن أن الحاكم ندد ب «عمليات النصب والاحتيال» التي يمارسها المقاول.
كل تفاصيل الحياة اليومية جرى تنظيمها بشكل مستفيض وبمنتهى الدقة. القادم الجديد، كان يجرد من أسماله البالية (وتعاد إليه بعد نقعها في ماء مغلي وغسلها جيدا بمساحيق التنظيف عند خروجه)، ويحلق شعره وذقنه (ويظل هكذا طوال مدة إقامته)، ويتم تنظيفه وإلباسه الزي الموحد للمستودع: سترة بنية مصنوعة من النسيج الصوفي الغليظ، وسروالا أبيض اللون من قماش الشبيكة، وطاقية بنية اللون من الصوف الغليظ للرجال؛ أما النساء فكان زيهن الموحد يتكون من تنورة بنية مصنوعة من النسيج الصوفي الغليظ، ومشد نسائي أبيض اللون مصنوع من نسيج قطني مشبوك الحبك، وقبعة من القماش وقلنسوة من القطن أو الحرير المضلع، بالإضافة إلى قميص أصفر اللون من القماش الفضفاض، وجوارب صوفية وأحذية لكلا الجنسين. ولكن، ماذا يتبقى من كل هذا فوق جسد الحمقى بعد بضعة أسابيع؟ من المؤكد على أي حال أنه لم يكن يسمح لهم بانتعال الأحذية، التي قد تصبح سلاحا في أيديهم وكان يتم الاستعاضة عنها بالخفاف. وفيما يتعلق بالأسرة، فقد كانت مكونة من هيكل خشبي وفراش من القش رقيق للغاية أشبه بحزمة من القش، يجرى تجديده بشكل مبدئي كل شهرين للمختلين عقليا الثائرين أو الذين يميلون إلى تمزيق الأشياء.
في مستودعات التسول، كما هي الحال في جميع الأوساط الأخرى المتعلقة بعالم السجون، أكثر ما يهم المحتجزين هو الطعام. ولقد كان النظام الغذائي الموحد المطبق بالنسبة إلى الحد الأدنى من نفقة الإقامة (120 جنيها) أكثر من مقتصد؛ إذ كانت وجبة الطعام البسيطة تتألف من: رطل ونصف من الخبز المكون من ثلثين من الشعير وثلث فقط من الحنطة (مع النخالة)، وأوقيتين (حوالي 60 جراما) من الأرز في يوم، وأربع أوقيات من الخضراوات المجففة في اليوم التالي. هذا كل شيء، مع الماء. من الواضح أن هذا النظام أبعد ما يكون عن قوائم الطعام والنبيذ اللذين تقدمهما دور الاحتجاز الجبري «الفاخرة». بالإضافة إلى أن الأرز، باعتباره مادة غذائية جديدة، لم يكن مقبولا وكان يثير استياء النزلاء، بالرغم من أن قصر فرساي، الذي كان يتولى توزيع وصفات الطعام في جميع المستودعات، قد عمل على الترويج جيدا لهذا المنتج. لقد كان الأرز بديلا للقمح الذي يوشك مخزونه دائما على النفاد، وذلك في انتظار البطاطس، التي ستلقى أيضا مقاومات شديدة. في بوليو، كان يتم طهي الأرز تارة بالدهون أو بالزيوت المستخرجة من المكسرات، وتارة بالحليب. ولكي يكون للنزيل الحق في تناول اللحوم أو حساء المرق الدسم (لسنا بعد في زمن حضارة الفواكه والخضراوات الطازجة)، يجب ألا تقل نفقة إقامته عن 200 جنيه. لقاء هذا السعر، يمكن أن نشرب خمر التفاح «المخفف» (نصف الكمية ماء، والنصف الآخر «عصير التفاح المختمر»)، مع شيوع الاعتقاد بأنه «في البلدان المنتجة للنبيذ»، يتم إعطاؤه للمرضى كشراب؛ «ليتعافوا بسرعة أكبر». خمر التفاح «في هذا البلد، يحدث الأثر نفسه [الذي يحدثه النبيذ] ولن يكون منصفا حرمان هؤلاء التعساء من هذا العون». هذا ما كان يظنه حاكم كاين، ولكن قصر فرساي لم يوافقه الرأي وجاءه الرد كالتالي: «ذلك ترف غير ضروري لا مكان له في أي من مستودعات المملكة؛ حيث يجب ألا تحصل هذه النوعية من البشر إلا على الماء كشراب» (وهذا خطأ). لقاء 300 جنيه، يحصل المرء على اللحم في الوجبتين - ناهيك عن غرفة خاصة (حيث تتولى العائلة تأثيثها) - ويختلف «خبز النزلاء» المصنوع بالكامل من الحنطة عن «خبز المتسولين ». على أي حال، كان النزلاء الذين يدفعون تكلفة إقامة تتجاوز المائة والعشرين جنيها قليلي العدد للغاية (أربعة فقط في عام 1770) وكان النظام الغذائي الموحد هو السائد بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة. فضلا عن ذلك، كان هذا النظام الغذائي مرنا وقابلا للتغيير. فعندما يكون الشخص مريضا، يتبع حمية غذائية - أي يتناول نصف الحصة المقررة - ويقدم إليه أحيانا «حساء بلا دهن» كمكمل غذائي. وقد ورد في البيانات المفصلة التي تؤرخ لنهاية القرن الثامن عشر، وصفا تفصيليا للتمييز الذي تحظى به الفئات المميزة؛ مما يعد أمرا جيدا، حتى على هذا المستوى، وفقا لفكر النظام القديم. كما هي حال «السقائين» أو «الأشخاص الشرهين»، وهي الفئة المؤلفة من العمال المشتغلين في الأعمال اليدوية أو المعاونين بمختلف أنواعهم، الذين كان يتم بحكم الأمر الواقع الاعتناء بتغذيتهم على نحو أفضل. علاوة على ذلك، كان «الأجر» الذي يحصل عليه المحتجزون يتيح لهم تحسين وضعهم الاعتيادي، بما في ذلك شراء النبيذ في الخفاء. كل ما سبق، لا يعني بأي حال الحمقى المعزولين في قسمهم.
خفضت العمالة إلى الحد الأدنى؛ فانحصرت في وجود حاجب (أي ما يعادل رئيس حرس في العصر الحديث) مطلق السلطات كما في سائر الأماكن الأخرى وغير مطالب بتبرير أفعاله إلا أمام وكيل المدير الغائب دائما، وأربعة صرافين، وعشرة حراس مسلحين. «الموظفون» الآخرون جميعهم عينوا من بين المحتجزين، بما في ذلك أولئك الذين كانوا يتولون رعاية المختلين عقليا. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك قسيس، وطبيب وجراح. وكان هذان الأخيران يفعلان ما في وسعهما، ولكن لم يكن في استطاعتهما الكثير، خاصة حيال المختلين عقليا، الميئوس من شفائهم جميعا. أما فيما يتعلق بالشكاوى النادرة المقدمة من الجانحين ، والتي وصلت إلينا، فهي تضفي لونا قاتما على اللوحة؛ إذ تزعم إظهار الوجه الخفي للوائح الداخلية: بواب لص يأخذ لنفسه إتاوة عن كل شيء، اختلاط غسيل الأصحاء بغسيل المصابين بالأمراض الجلدية كالجرب والقوباء والزهري، قش لا يتم تغييره مما يوفر مناخا ملائما لتكاثر الحشرات الطفيلية القذرة وانتشارها، زنازين حبس انفرادي أو التقييد بأغلال في الفناء عند أول هفوة، ضرب بالعصي ... أما الطعام، فقد كان يهدر بكميات هائلة لصالح موظفي الإعاشة والعاملين بالمستودع؛ كانوا يأخذون لأنفسهم أفضل القطع المنتقاة من لحوم الذبائح، ويدخرون لأنفسهم كمية من الملح لاستخدامهم الشخصي عند تناول الأطعمة المقددة (كان الملح باهظ الثمن في ظل النظام القديم؛ إذ كانت تفرض عليه ضريبة). بالطبع، كان الجانحون هم الذين يشتكون مما قد يدفعنا للاعتقاد بأن المختلين عقليا - غير المذنبين ولكن المرضى - كانت تتم معاملتهم على نحو أفضل. كتب أحد الوكلاء الموفدين بخصوص إحدى الجانحات قائلا: «لقد كانت قبل [...] مقيمة في جمعية خيرية، ولم تخرج منها إلا لأنها كانت تعتقد أنها ستكون أفضل حالا في بوليو. يبدو أنها انجذبت لاسم المكان (حيث تعني بوليو بالفرنسية «المكان الجميل»). ولكن، لم يكد يتم حبسها داخله حتى رأت بنفسها أن هذا المنزل لا يمكن أو يجب ألا يدعى هكذا إلا من وحي خيال واهم.» بوليو، هذا الاسم الذي ليس على مسمى، لا يعدو أن يكون في الواقع سوى سجن من أشد السجون صرامة، ومنبع لحركات التمرد وعمليات الهروب. فهذا المكان، مثل غيره من المستودعات، ليس إلا مأوى للهالكين الذين ينتظرون حتفهم.
فشل
بعد انقضاء خمسة عشر عاما على إنشاء مستودعات التسول، بدا فشلها جليا. بالطبع، عانى 230 ألف شخص من هذا الفشل، ولكن في حقيقة الأمر، كانت الفئة المستهدفة أساسا من هذا المشروع، وهي الأصحاء، الأكثر تضررا؛ فقد كانت تكلفة العملية باهظة: تتراوح ما بين 900000 و1500000 جنيه سنويا. وكانت الظروف المعيشية بغيضة. وعلى عكس المشافي العامة، كان نظام التأديب قاسيا والمستودعات محكمة الغلق بشكل صارم وخاضعة لإشراف الجند. كانت العقوبات والضربات تنهال كالمطر، وكان يكلف بالحفاظ على الانضباط داخل كل غرفة مراقب يعين من بين المحتجزين، ويفضل أن يكون رجلا عسكريا سابقا. ومن ثم، كانت حركات التمرد وعمليات الفرار كثيرة، وغالبا ما كانت تنتهي بوقوع قتلى. فعلى سبيل المثال، هرب حوالي ستين محتجزا (نصفهم من النساء) من بوليو في الرابع عشر من يوليو 1783، على أثر اندلاع حركة تمرد أسفرت عن مصرع شخصين. في روان، استدعي فوج (وحدة عسكرية) من المدينة، في عام 1775، للمساعدة على إخماد تمرد. وقد وجد الضابط المسئول نفسه، «بعد أن أطلق أعيرة نارية» [خراطيش فارغة]، مضطرا «للجوء الحتمي إلى إطلاق الرصاص»؛ مما أسفر عن سقوط العديد من القتلى.
Unknown page