Tarikh Junun
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
كما هي الحال في مؤسسة سالبيتريير، لم تكن التغطية الطبية تتسم لا بالاستقرار ولا بالجودة، على الرغم من وجود مستوصفين أنشئا في وقت لاحق، ولا يعزى ذلك إلى أسباب صحية بقدر ما يعزى إلى متطلبات أمنية. في الواقع، كان نقل المرضى بين بيستر والمشفى الرئيس لتلقي الرعاية الطبية يمثل في كثير من الأحيان فرصة سانحة للقيام ب «حركات تمرد» أو عمليات هروب. ولم يكن المجانين يتلقون أي علاج طبي خاص يزيد عما كان يقدم في مؤسسة سالبيتريير. بيد أن المخطط الكلاسيكي الذي يظهر أن معالجة المجانين لم تكن تتم إلا في المشفى الرئيس ولم تكن تستغرق إلا فترة زمنية قصيرة، وأن أولئك الذين كان يتم وضعهم في المشفى العام كان ينظر إليهم باعتبارهم حالات مستعصية ميئوسا من شفائها؛ جدير بالدراسة من منظور نسبي بحت؛ نظرا لأن نقل أحد الحمقى إلى المشفى الرئيس لتلقي العلاج لم يكن بالأمر النادر. كما كان يحدث أيضا أن يطلق سراح بعض الحمقى المحتجزين في بيستر بعد التحقق من شفائهم، أو على الأقل بعد التأكد من خمود المرض وخفوت حدته لديهم. وهناك قرار صادر عن البرلمان في عام 1784 يذكر بهذه الوقائع، وهو بخصوص فرد محتجز في بيستر بسبب الاختلال العقلي، وقد ورد عنه أنه «لم يعد يعطي الفرصة لأحد للشكوى من سلوكه.» هذا لا يعني أن تلك هي النتيجة الطبيعية لتلقي العلاج وفقا للأصول الواجبة، ولكنه يثبت على الأقل إلى أي مدى كان هناك اعتراف بالوضع الطبي للجنون على حاله كما يتجلى من خلال الحالات المحتجزة في المستشفى العام. وقد نص القرار نفسه على أنه قبل إصدار الأمر بإخلاء سبيل أحد المجانين، يتعين على الأطباء والجراحين المنتدبين من قبل المحكمة (التابعة لمجلس النواب) أن يقوموا بزيارة هذا المختل عقليا المعافى، ثلاث مرات كل خمسة عشر يوما.
لم يكن اعتقال المختل عقليا في المشافي العامة في الأقاليم يسير على الوتيرة نفسها التي تحدث في باريس، كما أن الأوضاع تختلف في هذا الشأن من مدينة لأخرى، أو تتفاوت بالأحرى وفقا لكبر أو صغر المدينة. ففي المشافي العامة بالمدن الصغيرة، كان المديرون غالبا ما يرفضون قبول الحمقى بحجة أن مراسيم الاعتقال المختلفة لم تأت على ذكرهم. ولقد كان عدم توافر أقسام مخصصة للمجانين معزولة جيدا ومهيأة على نحو ملائم يشكل عائقا جذريا. في عام 1712، أعلن في مدينة ليزيو عن «إيداع أحد المجانين السجن الصغير التابع للمشفى العام. وكان هذا المجنون قد أتى إلى تلك المدينة منذ فترة وجيزة، فاتخذ ضده هذا الإجراء بهدف إرغامه على العودة من حيث جاء.» فما كان احتجازه إلا لحثه على الذهاب إلى مكان آخر غير ليزيو ليمارس به تصرفاته وأفعاله الجنونية. وقد كان هناك العديد من المشافي العامة الصغيرة، كمشفى بايو، حيث كان المختلون عقليا يتركون على حريتهم وكانوا يتلقون يوميا رغيفا من الخبز من المشفى العام.
أما في المدن الكبيرة، مثل كليرمون فيران، فقد كان المشفى العام يجتذب، رغما عنه وبصعوبة، المختلين عقليا المحولين من منطقة أوفيرني الإدارية؛ وذلك نظرا لأنه مزود (إذا جاز القول) بأقسام خاصة؛ حيث كان يعهد بالمجانين إلى «سجان» لم يكن يحتجزهم عادة إلا في الليل، وكان يتولى تنظيف الأفنية والغرف، وتغيير القش المفروش على الأسرة، وتقديم الطعام لهم ومعاملتهم «برفق وإنسانية قدر الإمكان». أما المجنونات، فكان يعهد بهن إلى إحدى الأخوات. وقد كانت غرف المجانين قريبة للغاية من أقسام الأطفال، أما غرف المجنونات فكانت تقع بالقرب من أقسام الفتيات ذوات السمعة السيئة. ولم يكن واردا في ذلك الوقت التفكير بأي معالجة طبية. في مشفى روان العام، كانت هناك منشآت ضخمة تضم 2000 محتجز (حيث كان عدد النساء ضعف عدد الرجال)، وكان المجانين والمصابون بالصرع قليلي العدد على النحو التالي: حوالي عشرة رجال وستين امرأة «مريضات بالسوداوية ومجنونات ». في مدينة رين، انتقل عدد الحمقى المحتجزين من حوالي عشرة في القرن السابع عشر إلى حوالي مائة في أواخر عهد النظام القديم. وفقا لما جاء بالعديد من الكشوف الصادرة في القرن الثامن عشر، اشتملت المؤسسة على قسم مخصص للمجانين، وآخر للمجانين الهائجين يتميز عن سابقه بكونه مجهزا بكمية هائلة من القضبان الحديدية المحيطة بالنوافذ، والأقفال والرزات الداعمة للأبواب من أسفل، والكلاليب المزروعة حول أسرة المرضى لتقييدهم، والجنازير المعدة لاحتواء فورات الهياج.
أتاح وضع ليون معاينة العلاقة الكائنة بين المشفى الرئيس والمشفى العام، تلك العلاقة المبهمة التي لم يكن لها وجود إلا في المدن الكبرى بالمملكة. بادئ ذي بدء، كان يتم إدخال المختلين عقليا بشكل تقليدي للمشفى الرئيس؛ حيث كان يتم علاجهم لفترة قصيرة نسبيا، شأنهم شأن بقية المرضى. في المشفى الرئيس بليون،
12
ألقي المختلون عقليا في «غرف سفلية»، على طول نهر الرون: حيث خصصت في البداية بعض الزنازين لهذا الغرض، منذ القرون الوسطى وحتى القرن السابع عشر، ثم خصصت حوالي أربعين غرفة للمختلين عقليا في القرن الثامن عشر. بيد أن هذه القدرة المحدودة على استقبال الحالات عوضها نظام التناوب السريع بالعمل؛ فقد كانت فترات الإقامة قصيرة، وكانت تنتهي غالبا بإعطاء المريض تصريحا بالخروج دون التأكد تماما من شفائه. على أي حال، كان المرضى يتلقون الرعاية الطبية في هذه الأماكن؛ نظرا لأن المشافي الرئيسة كانت ترفض استقبال الحالات التي لا أمل في شفائها، وذلك على الرغم من الإلحاح المتزايد للحكام الذين لم يكونوا يدرون أين يجب وضع المختلين عقليا المعوزين الموجودين في المقاطعات التابعة لإدارتهم. ولكن بفضل إنشاء المشفى الخيري العام، أصبح بالإمكان الفصل لأول مرة بين «المجانين، والمختلين عقليا والمصابين بهياج عقلي»، الذين استمر قبولهم بالمشفى الرئيس، وبين «السذج والخرق»، الذين شاع عنهم أنه لا أمل في شفائهم ومن ثم كان يتم إيداعهم المؤسسات الخيرية. في الواقع، لم تكن الأمور يوما محسومة إلى هذه الدرجة تحت حكم النظام القديم، وهناك بالفعل قسم كبير من الملفات كان لا يزال موجودا بالمشفى الرئيس، خاصة تلك التي كان أصحابها ينتمون إلى عائلات لديها المقدرة على دفع نفقة مرتفعة. وكان يجري احتجاز المجانين المصابين بهياج عقلي في مؤسسة «بيستر» التي أنشئت كمبنى ملحق بالمشفى العام في سنة 1759.
في جنوب فرنسا، ولا سيما في بروفانس، يبدو أن استقبال المختلين عقليا سواء في المشافي العامة أو في غيرها من المؤسسات هو ثمرة بذل جهد متواصل في سياق حياة اجتماعية محلية أكثر نشاطا وفعالية، على نسق إيطاليا وإسبانيا، وربما أيضا أكثر اهتماما بأعمال الخير والإحسان. وسوف تعطينا الأمثلة التي ستقدمها مدينتا مارسيليا وإكس، وهي أمثلة لا يستهان بها، لمحة عن مدى تعقد الصلات التي تربط بين استقبال المختلين عقليا الذي يعود غالبا إلى زمن بعيد في جنوب فرنسا، وتأسيس المشفى العام ...
في عام 1671، أتاحت المبادرة الفردية التي أطلقها أحد القساوسة في مرسيليا
13
ضم مجموعة من المختلين عقليا في نزل. في عام 1699، استقرت هذه الجماعة الصغيرة في المشفى القديم الذي كان مخصصا لمرضى الجذام وكان يقع في إحدى الضواحي. وهكذا تأسس مشفى سان لازار (القديس لعازر) أو مشفى الحمقى؛ بغية «مساعدة الأشخاص المصابين للأسف بالاختلال العقلي والخبل وعدم الاتزان والهياج في أغلب الأحيان والتخفيف من آلامهم، سواء في المدينة المذكورة أو في منطقة مارسيليا التابعة لها، وإعطائهم بعض المعونات لإعانتهم على تحمل البؤس، والحيلولة دون وقوع اضطرابات أو أعمال فوضوية قد يتسببون بها.» اعتبارا من هذا التاريخ، أصبح وضع مشفى سان لازار معقدا. طالما أطلق عليه «مشفى الحمقى العام»، بيد أن مشفى مارسيليا العام، الذي كان في منتهى السعادة؛ نظرا لأنه أصبح بإمكانه رفض استقبال المختلين عقليا، لم يرد ضم مشفى سان لازار إليه بوصفه ملحقا به؛ ومن ثم بقي مشفى سان لازار تابعا للمشفى الرئيس حتى عام 1702 حين اشترت المدينة العقار ووضعته تحت رقابة أعضاء مجلس البلدية. ثم برزت مشاكل مالية خطيرة ناجمة عن قدم المباني وتهالكها، وضيق مساحتها في مواجهة ذلك التدفق المتزايد للمختلين عقليا الذين ازداد عددهم من 30 تقريبا في عام 1700 إلى 114 في عام 1788؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى طرد «الغرباء» (عن المدينة). في عام 1770، بنيت منشأة جديدة حوت 24 غرفة. لم تكن هذه الغرف الخشبية - على الرغم من أنها كانت متسعة بما يكفي لتكون لكل واحدة منها نافذة على حدة - مزودة بنظام تدفئة ولم يكن المختلون عقليا يشغلونها إلا في الليل، بينما كانوا يتمتعون بقية الوقت بشبه حرية داخل جدران المؤسسة، باستثناء المصابين بالهياج بالطبع. كانت كل غرفة تشتمل على سرير مثبت بإحكام وفراش محشو بالقش وتطل على ساحتين منفصلتين وضيقتي المساحة؛ إحداهما مخصصة للرجال والأخرى للنساء، وتنتهيان عند المصلى. بيد أنه بمعاينة الغرف الستين اللاتي اشتملت عليهن مصحة سان لازار في أواخر القرن الثامن عشر، واللاتي بلغ إجمالي عدد النزلاء بهن 114 مجنونا؛ ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الغرف، على الرغم من أنها كانت مصممة في البداية لاستيعاب فرد واحد، فإن هناك العديد من الغرف التي كان يشغلها اثنان أو حتى ثلاثة من المجانين. وإذا نظرنا عن كثب، فسنجد أن اللوائح الداخلية تعرضت لتشويه وتحريف رهيب؛ مما أعطى الانطباع بأن هذه المنشأة تعد مؤسسة رائدة (نصت تلك اللوائح بشكل خاص على وجود جراح لحلاقة المرضى وإجراء عمليات الفصد لهم، وتضميد الجروح، وتوزيع المطهرات وجرعات الدواء)، وهو ما يخالف الواقع اليومي بكل تفاصيله: الغرف المزودة بأفرشة القش القذرة، والمجانين المصابين بالهياج المقيدين بالأغلال، والمصابين بالخرف المهملين دون أدنى رعاية أو اهتمام، والوفيات المسائية «التي لا تحدث إلا كنتيجة لعدم متابعة حالة المرضى». وكان يجري تشغيل المختلين عقليا في الأعمال اليدوية بغية الحصول على بعض المال؛ «مما أدى إلى تحقيق مدخرات كبيرة». وكانوا يعرضون يوم الأحد على زوار مارسيليا الفضوليين مقابل فلس «أوبول». ومع ذلك، كان «المشفى يعاني من ناب الفقر الذي ينهشه»، على حد تعبير أمين صندوق سان لازار.
Unknown page