Tarikh Junun
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
ولكن لم التركيز على هذه النقطة الخاصة بالمصابين بالأمراض التناسلية، فقد خصص فوكو لهم عدة صفحات من كتابه؟ السبب يرجع إلى أنه، في المشفى العام والدور الصغيرة (حيث يوجد بالفعل مجانين، ومصابون بأمراض تناسلية، وتجدر الإشارة إلى الحرص آنذاك على الفصل بين الفئتين)، «على امتداد مائة وخمسين عاما، سيخالط المصابون بالأمراض التناسلية المختلين عقليا داخل حيز واحد مسيج؛ وستظل آثار ذلك الاختلاط حاضرة لمدة طويلة، وستكشف، عند الضمير الحديث، عن تقارب غريب وغامض جعلهما عرضة لنفس المصير، ووضعهما داخل النسق العقابي نفسه [...] فباختراع فضاء الحجز داخل الهندسة الخيالية للأخلاق، اهتدت الحقبة الكلاسيكية إلى وطن، وإلى مكان للخلاص المشترك من الخطايا المضادة للجسد ومن الأخطاء المنافية للعقل.» ربما تبدو هذه الجدلية جذابة ولكن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. في الواقع، كان النظام القديم ينظر إلى المصابين بالأمراض التناسلية باعتبارهم آثمين ومذنبين، ولكنه لم يكن ينظر إلى المجانين النظرة عينها. ما يثير اهتمام فوكو ليست الحقيقة بقدر ما هو الإدراك. ولم لا؟ ألا يملك الحرية التي يملكها الفلاسفة؟ تلك الحرية، التي من أجلها، يغلب الفيلسوف الحس (إدراكه الخاص وحسه الشخصي) على الحق. نأمل أن يطرح ذلك إشكالية في التاريخ.
تحول اهتمام فوكو عن المصابين بالأمراض التناسلية ليصبح منصبا على اللوطيين، الذين يمثلون فئة كان مصيرها الحتمي القمع الشديد في ظل النظام القديم (إلا إذا كان المتهم باللواط ينتمي إلى علية القوم أو إلى طائفة الأمراء الإقطاعيين). ما يريد فوكو إظهاره هنا هو تلك الصلة التي تربط الشذوذ الجنسي بالجنون: كان العصر الكلاسيكي قد رسم معالم الانقسام بين «حب العقل وحب اللاعقل». «ينتمي الشذوذ الجنسي إلى الفئة الثانية. وهكذا بدأ يشكل شيئا فشيئا درجة من درجات الجنون، ويحتل في العصر الحديث موقعه ضمن اللاعقل.» وهذا يعني إغفال حقيقة أن النظام القديم لم يكن يعد الشذوذ الجنسي مماثلا للجنون إلا بقدر محدود للغاية؛ لدرجة أن القضاء كان يعاقب على الفعل الأول باعتباره جريمة (كما يتضح ذلك على أي حال من خلال النصوص ونادرا من خلال الوقائع الفعلية)، بينما لم تراوده قط فكرة معاقبة مجنون على خلل عقله.
أما فيما يتعلق بالحالات التي يطعم بها فوكو أطروحته، فغالبا ما جرى تفسيرها طوعا على نحو خاطئ. هكذا يجسد تورين «ذلك المصير المثير للشفقة الذي طواه التاريخ في صمته»، «افتراض بائس لمرور عابر يرفضه المستقبل.» توحي هذه العبارات بأن تورين هذا لم يكن مجنونا. بيد أن هذا الخادم العامل بالمنزل الكبير كان قد سمع أصواتا تدعوه لقتل الملك، وذلك عقب هجوم داميان
3
مباشرة. وقد حبس تورين في سجن الباستيل، واشتبه في البداية بتظاهره بالجنون، ثم تبين أنه مجنون بالفعل، وبالتالي وجب نقله فيما بعد إلى شارنتون. يذكر فوكو حالة أخرى متمثلة في ديشوفور، الذي حكم عليه بالإعدام في عام 1726 لاتهامه باللواط، ولكن فوكو أغفل أن يضيف أن المدان المذكور كان مقتنعا (هذا ما أكده وهو على حبل المشنقة) أنه كان يقوم بتدبير وتنظيم عمليات اغتصاب جماعية لقاء المال لشباب كان يقوم أولا بإسقائهم خمرا ممزوجا بأفيون. وقد نجا شركاؤه عبر قضاء بضعة أشهر في سجن الباستيل.
4
ليس بالإمكان كتابة التاريخ إلا باحترام الوثائق والسجلات، في مجملها.
استكمالا لعملية استكشاف الممارسات الجنسية المحكوم عليها بالانتماء إلى عالم اللاعقل في العصر الكلاسيكي، يضيف فوكو - إلى ما سبق ذكره - البغاء والفجور. يلي ذلك المتهمون بتدنيس المقدسات، سواء بالتجديف والقذف أو بالمس بالمقدسات الدينية وانتهاك الحرمات، حيث وضع هؤلاء أيضا ضمن «عادات الاعتقال». وأخيرا، نود أن نتمكن من تتبع فوكو حين يتطرق لاحقا إلى معالجة قضية السحرة والمشعوذين، الذين أصبحوا في عصر العقل، «سحرة كذبة». هنا، تم اتخاذ خطوة فعلية أدت إلى حدوث انقسام وثورة، إن لم يكن في العقول، على الأقل على صعيد القانون. بيد أن فوكو يؤكد أن السحر «في ذاته لا يعد جريمة، ولا عملا تدنيسيا»، ولم يعد يحكم عليه إلا «وفقا لما تكشف عنه من غياب العقل.» بعيدا عن الشيطان وبعيدا عن أي دلالات لاعقلانية، أصبحت معاقبة المشعوذين الدجالين تتم بموجب القانون العام باعتبارها جريمة كفر وإلحاد وتدنيس مقدسات. وهكذا فإن النظام القديم، وبالأخص شرطة النظام القديم، لن يريا بعد الآن في السحر والشعوذة جنونا، ومن هنا جاءت الصرامة في التعامل حيالهما. غير أن مثل هذا الخلط من شأنه أن يخدم أطروحة ميشيل فوكو، والتي وفقا لها يكمن الخيط الرئيس للحجز في إصلاح الجنون بجميع أشكاله وصوره؛ حيث أصبح ينظر إليه على أنه صورة سلبية للعقل لا يمكن احتمالها.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو لنا من الخطأ تاريخيا الحديث في القرن السابع عشر عن خطاب جديد بشأن العواطف. سوف نرى أن هذا الخطاب لم «يفسر من منظور الطب النفسي» إلا في نهاية القرن الثامن عشر، ولم يكن له في البداية أي صلة بقضية الاحتجاز. في الواقع، يوجد هنا أمر - من وجهة نظرنا - لا يسير على ما يرام. أيريد فوكو وضع المجانين بين جميع أولئك الحمقى الذين تستهدفهم عمليات الحجز والاعتقال؟ سنرى أن الحجز، بصرف النظر عن كون الكاتب يعزي إلى هذه الحركة أهمية لم تكن يوما لها، لم يكن يهدف إلى معالجة قضية الجنون، وإنما إلى مواجهة مشكلة متأصلة تعود إلى وقت بعيد متمثلة في التسول والتشرد. أيرغب فوكو في أن يظهر شخصية المجنون على نحو مفاجئ؛ وبالأخص المجنون المبطل عنه صفة القداسة؟ لقد رأينا أن المجنون بالمعنى المرضي كان موجودا منذ أوائل العصور القديمة، وأنه لم يجر قط إضفاء طابع القداسة عليه في مجتمعاتنا الغربية .
إن فك رموز خطاب فوكو يبدو أمرا بالغ الصعوبة، حتى وإن كنا نمتنع عن إبراز التناقضات والتفسيرات الخاطئة، على الرغم من كونها مرتبطة جدليا بسياق الخطاب وبالبراهين المستخلصة منه (على سبيل المثال، يطلق فوكو مصطلح «ساخط» على المجنون والمجرم دون تمييز، بينما يستخدم هذا التعبير للدلالة على المجنون الثائر، وذلك بالرجوع إلى الأصل اللاتيني للكلمة
Unknown page