Tarikh Junun
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
وعلى نحو مواز للطريقة التجريبية التي يؤسسها الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي والتصنيف الدولي للأمراض، لم تستطع الطريقة البيولوجية أن تفي بوعودها الرنانة. عام 1983، ظهر «الإنسان العصبي» لعالم الأعصاب جان بيير شانجو، والذي عني بنشر نموذج جديد أصبح مرجعا لدرجة أن وسائل الإعلام أعلنت حينها نهاية الطب النفسي. «إن الإمكانيات التركيبية المرتبطة بعدد وتنوع الاتصالات العصبية في مخ الإنسان تبدو بالطبع كافية لإدراك القدرات البشرية. ولكن ليس هناك تفسير للتفاوت بين النشاط العقلي والنشاط العصبي. من الآن فصاعدا، ما فائدة الحديث عن الذهن؟ فلم يعد هناك سوى جانبين لحدث واحد يمكن وصفه بمصطلحات مقتبسة عن لغة علم النفس (أي الاستبطان)، أو لغة علم الأعصاب.» ونذكر بصورة عابرة أنه عام 1845، أعلن جريزينجر أن «الأمراض العقلية هي أمراض في المخ.» في الواقع، كان أبقراط قد أكد من قبله أن كل شيء - بما في ذلك الجنون - يأتي من المخ. أسنرى، وعلى عكس كل التوقعات، هذه النظرية «المبسطة» تتحقق أخيرا؟ في جميع الأحوال، كانت الطريقة العصبية البيولوجية في أوجها (والدليل على ذلك كم القروض المخصصة للأبحاث)، وبدا أن المخ لم يقل كلمته الأخيرة. «تبدو بعض المناطق في المخ المتعلقة بالتعرف على الانفعالات وكأنها تعمل بطريقة غير طبيعية لدى المصابين بالتوحد والفصام؛ مما أثبت - عن طريق اختبارات معينة - وجود نقص في المعارف الاجتماعية في حالات الفصام والتوحد لدى الأطفال؛ أي عدم وجود القدرة على استيعاب وفهم الحالات العقلية المختلفة عن حالاته وإضفائها على الآخر.»
23
وقلت الحاجة إلى حسم الجدل القديم بين الأصل العضوي (التحدي) والأصل النفسي (المفضل) للمرض العقلي، وأصبح هناك اتجاه لتجاوزها أو الالتفاف حولها في إطار تعريف جديد للعلاقات بين الجسد والذهن.
وحاليا تشهد الطريقة المعرفية - أحدث القادمين - أكبر قدر من التشجيع، فهي علم النفسي التجريبي الذي أصدر الافتراضية بأن التفكير إنما هو عملية معالجة للمعلومة (على غرار علم التحكم الآلي)، الذي يدرس المبادئ التي تدير تفاعل الكيانات الذكية مع بيئتها. وتعد النظرية المعرفية هي أساس تقنية جديدة للعلاج النفسي: العلاج المعرفي السلوكي، الذي ظهر في الولايات المتحدة بالتزامن مع العلاجات السلوكية. وتعمل طريقة العلاج المعرفي بطريقة تكاملية على أفكار المريض التي تظهر نوعا من التشوش المعرفي. وهي تؤكد على أهمية الأشكال التوضيحية غير الواعية للفكر، والطريقة التي يمكن أن تتسبب بها هذه الأشكال المعطلة (آراء أو معتقدات) في الإصابة باضطرابات عقلية. ولا تهدف العلاجات المعرفية السلوكية إلى تعديل جذري لمجمل الشخصية عبر جلسات طويلة ومكلفة للمريض أو للتأمينات. اعتمادا على التقويمات المتتالية التي تعالج كميا بحرص، يكفي التأثير على هدف محدد يبلبل حياة المريض: الهوس المرضي أو الإدمان أو الوسواس القهري أو اضطرابات السلوكيات الغذائية، بل وأيضا تحمل الألم، ولإدارة الضغوط في الرياضة أو التحكم في التعلم، وفي الحالات الاكتئابية لدى المرضى المتقدمين في العمر ... إلخ.
24
كل هذا في ظل اتساع لمجال الطب النفسي، وسنتطرق إليه لاحقا أثناء الحديث عن الصحة العقلية.
حتى طريقة التحليل النفسي ذاتها شهدت تنوعا ليس له مثيل من قبل. ويجب أن نبدأ بذكر مواطن اختلافها عن العلاجات المعرفية السلوكية التي تميل حاليا إلى اكتساح مجال الطب النفسي كله، مصحوبة بدعم الإدارات الصحية. وسنذكر فقط أنه - على عكس العلاجات المعرفية السلوكية (التي لا تشكل نظرية) - يكون العرض من المنظور النفسي الباثولوجي التحليلي - كما يتضح من اسمه - ذا معنى بالنسبة للمريض؛ لأنه يتكون كتعبير عن التفرد والتاريخ الذاتي المرتبط باللاوعي. وهذا هو الفرق بين السبب والأصل. اهتم بعض المحللين النفسيين بدراسة العلاجات المعرفية السلوكية، ولكن يظل غالبيتهم معادين لها، متهمين إياها بعدم أخذ «البعد الإنساني للمريض» في الاعتبار مثلها مثل الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي. وجاءت دراسات حديثة تؤكد حججهم، مبينة أن النتائج الجيدة للعلاجات المعرفية السلوكية لا تستمر طويلا مع الوقت.
25
أصبحت هذه التقارير أكثر خلافية، ولا سيما أن «أوضاع التحليل النفسي والعلوم المعرفية في مجال المعارف لا يزال ينقصها مزيد من التحديد.»
26
Unknown page