Tarikh Junun
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
في عام 1809، صدر تقرير عن دار إيواء لا بروفيدانس (العناية الإلهية) بسومور يكشف - على الرغم من أنه يعطي الإيحاء بالرضا الذاتي للمؤسسة عن أدائها - واقعا لاشعوريا لهذا الوضع المحزن: فها هي حجرات المختلين عقليا، التي قيل عنها إنها «صحية للغاية»، منحوتة في الصخر. «كذلك الحال بالنسبة إلى الغرفة المشتركة التي ليست سوى كهف ضخم يؤوي فقيرات الدار، والبلهاوات، والمصابات بالشلل، والمكفوفات، ومريضات الصرع، وبعض المجنونات المسالمات. تحتوي هذه الغرفة على ثلاثة صفوف من الأسرة موزعة على طول الكهف، بحيث يشتمل الصف الواحد على عشرين سريرا تقريبا. جميع الأسرة نظيفة للغاية ومرتبة بعناية قدر الإمكان بحسب ما تسمح به الظروف. للوهلة الأولى، قد يبدو لنا هذا المنزل غير صحي، ولو حكمنا بناء على الظلام السائد في هذا المكان وعمقه فحسب، لتأكدت لدينا القناعة بصحة هذا الرأي. ولكن، إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى ما يقدم من خدمات رعاية للتغلب على المساوئ الناتجة عن اجتماع هذا العدد الكبير من الأفراد في غرفة واحدة، فستتبدد مخاوفنا.» ولقد وصل الأمر لدرجة أن الأماكن الأكثر إثارة للاشمئزاز بدت مدعاة للرضا: «بجوار الكهف الكبير الذي تحدثت عنه للتو، توجد الكثير من الكهوف الأخرى الأصغر حجما التي تؤوي عددا من المجنونات ومريضات الصرع اللائي يصعب تركهن وسط الأفراد الآخرين، من دون أن يشكل ذلك خطورة على أحد. في الواقع، تنبعث من هذه المساكن الصغيرة رائحة نتنة، بيد أن هذه الرائحة ناتجة عن قذارة ساكناتها اللواتي لا يتخيرن أبدا الأماكن المناسبة لتصريف فضلاتهن، فيتخلصن منها في فراشهن. ولكن حرص الإدارة على عزلهن، والاعتناء بهن وتنظيفهن باستمرار، والسماح لهن بالخروج من وقت لآخر؛ كل هذه التدابير الاحترازية مجتمعة من شأنها الحيلولة دون انبعاث هذه الرائحة الكريهة حتى لا يشمها الآخرون، وانتشار الأمراض المعدية.»
2
هذا التقرير ذو قيمة؛ لأنه لا يستنكر ولا يثور على الأوضاع، بل يخفف بحكم العادة من وطأة بشاعة ظروف الاحتجاز. ومع ذلك، تعالت صيحات الإنذار التي سلطت الضوء على فقر الموارد. وقد كتب أحد أعضاء مجلس البلدية تقريرا عن زيارته لقصر أنجيه (سجن قديم كان تابعا للدولة في عهد النظام القديم) في العدد الصادر من «صحيفة مقاطعتي ماين ولوار ومايين» بتاريخ 6 أكتوبر 1834: «بعد أن استعرضت المسجونين المدانين، طلبت أن أرى المجانين. اقتادوني عبر كومة من الركام والأنقاض إلى مكان، تبلغ مساحته طولا نحو أربعين قدما وعرضا نحو عشرين قدما، تحيط به جدران شاهقة لدرجة تسمح بالكاد بانسياب الهواء، الذي يأتي ملوثا بفعل مروره على كومة من القمامة الناجمة عن التفريغ اليومي للدلاء. نجد ناحية الشمال خمس حجرات، تبلغ مساحة كل واحدة منها عشرة أقدام طولا وستة أقدام عرضا. مستوى الطابق منخفض للغاية ؛ ولذا يتسلل ضوء النهار الخافت بصعوبة بالغة عبر طاقة صغيرة فوق الباب. تؤوي هذه الغرف حاليا أحد عشر فردا. لا تحوي الحجرة إلا القليل من القش الذي يجدد كل خمسة أيام، ودلوا، وهذا كل ما بها من أثاث، سواء في الصيف أو في الشتاء. أما عن هؤلاء التعساء، فقد كان بعضهم عرايا بالكامل، والبعض الآخر تكسوهم خرق، وقد تركوا فريسة للحشرات الطفيلية تنهش فيهم. وكانوا يكدسون كل ثلاثة داخل هذه الحجرات الملوثة؛ حيث كانوا يرقدون وسط القاذورات على بلاطات من الأردواز رطبة دائما؛ نظرا لعدم تغطيتها بكمية كافية من القش. اثنان من هؤلاء المختلين عقليا كانت تنتابهما في بعض الأحيان حالة من الهياج؛ ولذا كان يجري احتجازهما بصورة مستمرة، كل على حدة في حجرة منفصلة، وحرمانهما من ضوء الشمس. أما الآخرون فكانوا يتواصلون بحرية بعضهم مع بعض أثناء النهار، ولكن لم يكن هناك أي حارس لمراقبتهم؛ مما يجعل الضعيف عرضة للوقوع تحت رحمة القوي. في الثامنة صباحا، كان يتم إحضار حساء لهم. وكان يقدم إليهم يوميا رطل ونصف من الخبز. ولقد كنت حاضرا وقت تناولهم طعام العشاء، ووجدته يتكون من نوع من العصيدة السوداء المفرودة على الخبز، التي تسبح فيها بعض قطع البطاطس. ولقد سألت السجان عن طبيعة هذا الطعام، فأجاب قائلا: «إنها يخنة، وهي لذيذة».» وهكذا رسم السجان بإجابته عن السؤال الذي طرحه عليه عضو المجلس البلدي صورة تعبر ليس فقط عن غياب الرحمة والشفقة، وإنما عن العوز التام. «اعترف لي السجان (الذي يعمل بهذا القصر منذ ما يقرب من أربعين عاما)، والذي أصبح متآلفا للغاية مع المآسي الإنسانية، أنه كان يشعر بالنفور والاشمئزاز، وأنه بالرغم من تعاطفه مع هؤلاء المرضى وشعوره بالشفقة نحوهم، يمتنع، قدر الإمكان، عن زيارتهم، ويزيح عن كاهله عبء هذا الجزء من الخدمة. وعلى الرغم من نواياه الطيبة، كان من المستحيل بالنسبة إليه إدخال أي تحسين أو تطوير على هذا المكان. فلم يكن هناك أحد معين خصيصى تحت إمرته لهذه الخدمة. ولم تعط له أي ملابس للمجانين. فلم يستطع أن يمنحهم إلا الأسمال الخاصة ببعض المدانين. ولم يكن يمتلك أي وسيلة للقمع، ولا أي وسيلة وقائية، حيال من يقومون بالتكسير والتهشيم، ولكن من دون أن تكون لديهم أي نية خبيثة: فلا شيء إلا القيود الحديدية، ودائما القيود الحديدية.»
3
ولم يكن المجلس العام التابع لمنطقة ماين ولوار ينتظر هذا التاريخ لإبداء قلقه إزاء وضع المرضى عقليا داخل المقاطعة، منددا بما يلقاه «هذا الفرع من الإدارة العامة» من إهمال تام منذ تدمير دار الرهبان الفرنسيسكان. اعتبارا من عام 1807، إذ أعرب المجلس العام عن انشغاله بمسألة المجانين «المتروكين من جديد في الشوارع وعبر الحقول، والذين يشكلون تهديدا على حياة المواطنين، وشرف السيدات»؛ قد طرح فكرة إنشاء مؤسسة خاصة بالمقاطعة، بل بأكثر من مقاطعة في الواقع، لاستقبال المرضى عقليا المعوزين والقادرين على الدفع على حد سواء، بحيث تغطي المبالغ المالية التي تدفعها الفئة الثانية نفقات الفئة الأولى.
4
لقد رأينا إسكيرول يندد بشدة بحالة مشافي المجانين في فرنسا، ومع ذلك، فقد تم إحراز بعض التقدم في الفترة ما بين 1818، وهو تاريخ نشر تقرير إسكيرول، و1838، الذي هو تاريخ إنجازه لجميع مهامه على أكمل وجه. كما أن التقرير المقدم من جيوم فيريس،
5
الذي عين في عام 1835 مفتشا عاما على مصحات الأمراض العقلية، شهد أيضا - على الرغم من أنه بدا شديد التحفظ - بتحقيق العديد من الإنجازات في هذا المجال. بيد أن أبرز ما يركز عليه فيريس في تقريره، هو تنوع المؤسسات واختلافها من مقاطعة لأخرى. بانتظار صدور القانون الكبير بشأن المرضى عقليا الذي طال ترقبه في فرنسا، وتأخر بفعل التغيرات المستمرة في النظام الحاكم، كان لا بد من معالجة المشكلة الأكثر إلحاحا. ففي كل مكان تقريبا، شرعنا منذ بداية عهد عودة الملكية في إعادة تنظيم، وتوسيع، وبناء المؤسسات. وفي بعض المقاطعات، «كان لا بد من البدء من نقطة الصفر.» كما هي الحال، على سبيل المثال، في بوش دو رون؛ حيث كان المرضى عقليا موزعين في دارين من دور الإيواء بمارسيليا: سان جوزيف وسان لازار، ولقد كانت الثورة تمثل كارثة بالنسبة إلى هاتين المؤسستين؛ إذ أدى ارتفاع نسبة الوفيات إلى تقليص العدد من 114 في عام 1789 إلى 44 في عام 1802.
6
Unknown page