وفي ذلك العصر قام في إسرائيل ويهوذا الأنبياء المشهورون الذين صرفوا همهم إلى رد الشعب عن عبادة الأوثان وحضهم على حفظ ديانة آبائهم وأجدادهم، ومن أشهر هؤلاء الأنبياء إيليا الذي يسميه النصارى ماري إلياس واليشع وأخبارهما مدونة مع أخبار الملوك في التوراة وأشعيا وأرميا وغيرهما، وقد ترك هؤلاء مواعظ وآيات حكمية ونبوات خاصة بالشعب اليهودي وهي موجودة في كتبهم المعروفة بأسمائهم ويتألف منها أسفار النبوات في العهد القديم.
أما تاريخ الإسرائيليين في منفاهم مدة سبيهم فمأخوذ أكثره من أسفار عزرا ونحميا ودانيال الذين نالوا الحظوة التامة في عيون ملوك بابل حتى صاروا من أكابر موظفي تلك المملكة، ويؤخذ مما ورد في تلك الأسفار أن أكثر المسبيين تابعوا الكلدان في عاداتهم وتخلقوا بأخلاقهم إلا فريقا منهم أبى ترك شعائره وآدابه ودينه فحافظ عليها تحت خطر الحريق والقتل.
وتولى قورش ملك فارس سنة 537ق.م، فأصدر أمرا سنة 536 يأذن به لليهود بالعودة إلى بلادهم من أراد ذلك منهم، ومهد لهم سبيل الرجوع وسمح بإعادة بناء أورشليم والهيكل، فعاد نحو خمسين ألفا من المسبيين أكثرهم من سبطي بنيامين ويهوذا بقيادة زربابل ويشوع، وأخذوا معهم كثيرا من آنية الفضة والذهب التي كان نبوخذ نصر قد غنمها، وعين زربابل هذا واليا على اليهود، وصارت اليهودية ولاية من ولايات الفرس، وفي سنة 519ق.م ثبت داريوس هستاسب أمر قورش المذكور فتم بناء الهيكل سنة 515، واحتفل بتدشينه احتفالا باهرا، ومن ذلك الزمان يختفي ذكر الأسباط العشرة الأخرى، فمن عاد منهم إلى فلسطين اختلط بسبطي يهوذا وبنيامين، وفي ذلك الحين سمي الإسرائيليون يهودا، ودعيت بلادهم اليهودية.
4
وفي أيام ارتكزركسيس (لوغيامانس) الفارسي عاد جزء من اليهود المتغربين في بابل إلى بلادهم بقيادة عزرا، وذلك سنة 458ق.م، وظل عزرا هذا واليا على البلاد إلى سنة 445ق.م.
وجاء بعده نحميا فبنى أسوار أورشليم ورمم حصونها وأعاد إليها بعض رونقها القديم، وظل واليا إلى سنة 420ق.م، وفيها ينتهي تاريخ اليهود كما هو مدون في التوراة، أما ما بقي من ذلك التاريخ فمأخوذ عن مصادر أخرى وسنأتي على خلاصته.
ظلت اليهودية خاضعة لحكم الفرس من سنة 420 إلى سنة 332ق.م، يتولى أمورها الكاهن العظيم تحت مراقبة مرزبان سورية، فلما حارب الإسكندر الكبير المكدوني ملوك الفرس وغلبهم على ملكهم، واحتل سوريا وفلسطين صعد إلى أورشليم فاستقبله الشعب يتقدمهم الكاهن العظيم فأكرمهم إكراما زائدا، وأبدى احتراما للهيكل والمعبود لم يكن اليهود يحلمون به، وقد اطلعنا على غير حكاية واحدة لهذه الحادثة، فرأينا أن نثبت منها ما جاء للمؤرخ يوسيفوس الشهير قال:
وبعد أن فتح الإسكندر غزة صعد إلى أورشليم، فخاف يدوس الحبر الأعظم لما بلغه ذلك؛ لأن الإسكندر كان قد كتب إليه يستنجده وهو يحاصر صور فرد إليه الجواب أنه في طاعة داريوس ولا يستطيع أن يخونه ما دامت البلاد له، فأمر الشعب أن يتضرعوا إلى الله؛ لينقذهم منه، فأوحى الله إليه في حلم أن يتشجع ويزين المدينة ويفتح أبوابها، ويأمر سكانها بلبس الثياب البيضاء ويخرج هو والكهنة بلباس الكهنوت فلا ينالهم شر ...
ولما دنا الإسكندر من أورشليم خرج للقائه هو والكهنة وجمهور غفير من السكان حتى بلغوا المكان المسمى الصفا، فلما رآهم الإسكندر عن بعد وهم بالثياب البيضاء والكهنة بلباس الكهنوت ورئيسهم بحلة من الأرجوان والذهب وتاجه على رأسه وعليه صفيحة من الذهب فيها اسم الله دنا منه بنفسه وحيا اسم الجلالة ورئيس الكهنة، واجتمع اليهود حوله يحيونه، وصعد ملوك سورية مع الإسكندر، فلما رأوا منه ذلك حسبوا أنه أصيب بدخل في عقله ودنا منه القائد بارمنيون وسأله قائلا ما حدث حتى تسجد لرئيس كهنة اليهود مع أن الناس كلهم يسجدون لك، فقال: إني لم أسجد له بل للإله الذي جعله رئيسا لكهنته؛ لأنني رأيت هذا الرجل في حلم لابسا هذه الأثواب عينها لما كنت في مكدونية وكنت أفكر كيف أستولي على آسيا فحضني على الإسراع إليها، وقال: إنه يقود جنودي ويملكني ممالك فارس ولم أر أحدا قبل الآن لابسا مثل هذه الثياب، والآن رأيت هذا الرجل لابسا إياها، فأنا واثق بصدق الرؤيا التي رأيتها، وبأن جنودي تسير بالإرشاد الإلهي، وإني سأغلب داريوس وأستأصل مملكته ويتم كل شيء على حسب ما هو راسخ في ذهني، ولما قال ذلك أعطى يمينه لرئيس الكهنة ودخل معه المدينة وصعد إلى الهيكل، وقرب الذبائح لله حسب إرشاد رئيس الكهنة وأروه سفر دانيال، حيث قيل: إن واحدا من اليونان يخرب مملكة الفرس فسر بذلك حاسبا أنه هو الشخص المعني، وصرف الجمع ذلك اليوم ثم دعاهم في اليوم التالي وسألهم عما يطلبون منه، فطلب منه رئيس الكهنة أن يسمح لهم بالجري على سنن آبائهم، وأن يعفيهم من دفع الجزية كل سنة سابعة، فأجابه إلى ما طلب، وطلبوا منه أيضا أن يسمح لليهود الذين في بابل ومادي ليسيروا حسب سننهم، فوعدهم بذلك، ثم عرض عليهم أن يتجندوا في جيشه ويكونوا أحرارا في السير على سننهم، فانتظم كثيرون منهم في خدمته.
5
Unknown page