ومن رأي أفلاطون أن كل صفة بشرية قابلة للتغيير بحسب البيئات والطوارئ. وإن السياسة بنوع خاص لا تنضبط تحت قواعد يجب العمل بها في كل زمان ومكان. ويترتب على رأي أفلاطون هذا أن رجل الدولة يكون أحيانا فوق القواعد والأوضاع.
وأما أرسطو فعنده تفسرة المدنية أنها مجمع منازل وعائلات تتوخى في معيشتها السعادة والاستقلال. وهو يخالف أفلاطون في حصره المدنية بتوزيع الأعمال ومجرد المبادلة، ويقول: إن الاجتماع لم يكن للحياة المجردة، بل للحياة المرفهة، وإن علم السياسة هو العلم الباحث عن الأسباب والشروط الكافلة للوصول إلى هذه الغاية، وهو يأتي بمباحث تاريخية عن كيفية تولد المدن والمدنيات. ومن رأيه أن الاستقلال الزراعي هو شرط في صحة الأخلاق، وأنه كلما استقلت مملكة عن غيرها في احتياجاتها المعاشية استقلت في أمورها السياسية والعكس بالعكس، وكلما كثر أخذ المملكة وعطاؤها مع الخارج ضعف استقلالها السياسي وتعرضت للحروب، وهي حقيقة قد انطبخت حتى احترقت، وقضية قد ابتقرت حتى انفاقت، فالأمة التي ليس لها استقلال اقتصادي هيهات أن يتم لها استقلال سياسي.
ومما يذهب إليه أرسطو أن الرق أمر طبيعي لا ينبغي التعجب منه، وأن الطبيعة في قسمتها البشر إلى طبقتين سادة وأرقاء ليست ظالمة ولا مستبدة. قال أرسطو: وإنه يوجد في آسيا في الأقاليم الحارة أقوام ذوو ذكاء وسرعة خاطر، لكنهم مجردون من العزم، لذلك هم مخلوقون ليكونوا أرقاء! وقال: إن مناخ يونان المعتدل هو المناخ الوحيد الذي يمكنه أن يولد سلائل جامعة بين الذكاء والعزم، فاليونانيون أحرار بحسب الفطرة قبل التربية.
ولقد بالغ أرسطو في ذلك أشد المبالغة ورأى الناس في رأيه هذا مجرد تسويغ وتصويب لفتوحات صاحبة الإسكندر في الشرق.
أما اعتدال أمزجة اليونانيين باعتدال إقليم يونان فلا نزاع فيه، ولهذا كثر فيهم الحكماء، وغلبت عليهم العلوم، وهذا شبيه بما يقوله ابن خلدون عن تأثير اختلاف الأقاليم وهو:
الإقليم الرابع أعدل العمران، والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب للاعتدال، والذي يليهما الثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال، والأول والسابع أبعد بكثير، فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه، بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا، حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها. ولما تقف على خبر بعثة في الأقاليم الباردة الشمالية ولا الجنوبية التي فيها الحر الزائد، وذلك لأن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وخلقهم ا.ه.
هذا وإن أرسطو يرى للأسرة غاية أبعد وأسمى من الغاية الاقتصادية، وهي أنه لا بد لكل عائلة من رأس، وأن هذا الرأس هو الرجل الذي يدبر النفوس القاصرة أي نفوس النساء والأولاد. ومعنى النفوس القاصرة ليس أنها نفوس أرقاء، بل معناه أنها نفوس ضعاف محتاجة إلى المعاونة. ولهذا كانت سلطة رئيس العائلة غير مطلقة على المرأة، بل كان حكمه عليها حكم الوالي على رعيته، وفى العائلة متوافرة جميع الشروط اللازمة لتأليف المدنية.
ثم إن أرسطو لا يعد في الوطنيين الأحرار طبقة الصناع والأكرة، بل يقول إن أعمال هؤلاء خسيسة وليس عندهم من الوقت متسع لممارسة الفضيلة، وللاشتغال بسياسة المجتمع. وهذا القول مردود من جهة شقه الأول، وهو ممارسة الفضيلة التي تكون عند الصناع والزراع كما تكون عند غيرهم. ولكنه مقبول من جهة شقه الثاني وهو الاشتغال بسياسة المجتمع، فإن هذه الطبقات قلما تشتغل بها.
وتعريف أرسطو للديمقراطية هو هذا: إنها توجد حيث يكون الرجالات الأحرار الفقراء هم القابضين على أزمة الأمور، وإنها حيث توجد توأمين الحرية والمساواة. قال: وعكسها حكم الأصلاء والأغنياء. وقال: إن الفروق الكبيرة في الثروة تؤدي إلى الحكم المطلق المنحصر في بعض البيوتات، وإن الغاية المقصودة من بناء المدينة هي تأمين سعادة السكان وتمكينهم من ممارسة الفضائل، والتحلي بمكارم الأخلاق وذلك لا يكون إلا بخضوع الجميع للقوانين. وهذه القوانين لا تنفذ جيدا إلا ببعض شروط اقتصادية لا مناص منها مما يعود بترفيه الطبقات الوسطى التي لا تقدر أن تعيش إلا من كسب أيديها، فهي بطبيعة الحال تحافظ على حسن سير القوانين، ولا نقصد الاجتماعات الشعبية إلا عند الضرورة. أما إذا وجد في المجتمع من يستغني عن العمل ومن يعيش من رأس مال راتب لديه، فإن الديموقراطية تضعف في مجتمع كهذا وتقوم حينئذ الأصوات والانتخابات مقام القوانين.
ولقد تكلم أبو نصر محمد بن محمد بن نصر الفارابي في مبادئ العمران أيضا وأجاد وأفاد ونقل كارادوفو أكثر نظرياته السديدة في المدنية. ولننقل هنا ما ذكره عنه القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي المتوفي بعد زمن الفارابي بقرن واحد قال:
Unknown page