وقبل أن نشرع في ذ لك نقول: إن الاعتقاد بكون آدم وحواء هما أبوا البشر هو منصوص عليه في الكتاب، فأما المدة التي ضربها أصحاب التوراة لوجود الإنسان فليس في القران الكريم شيء يدل عليها، بل هناك هذه الآية الكريمة
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم .
ثم نقول: إن الذين جزموا بقدم عهد الإنسان بناء على ما كشفوه في باطن الأرض، وما نقبوا عنة في الكهوف والغيران، وما عثروا عليه عرضا واتفاقا في قيعان البحيرات، لا يزالون يقرون بأن معلوماتهم مفتقرة إلى الإكمال، وأنه لا يصح الجزم إلا بالنظرية الإجمالية التي معناها كون إنسان وجد، لا من خمسة آلاف سنة، ولا من سبعة آلاف سنة، بل من أضعاف هذا العدد من السنين، وأنهم استدلوا على ذلك بوجود حجارة مصقولة على شكل الفئوس كانوا يجهلون في أول الأمر حقيقتها وكانت العامة تعتقد بأنها حجارة تتكون في السحاب!
ولما قال بعض علماء القرون الوسطى بأنها من صنع أيدي البشر رفضوا كلامهم ومنذ مائتي سنة تواترت الأدلة بكثرة ما وجد من هذه الحجارة في أعماق متفاوتة تحت التراب، وتحت المياه، ومنها ما بسقت من فوقه الأشجار، ومنها ما تكونت من فوقه المعادن، فحسب علماء الأزمنة الحديثة ما يستلزم وجود هذه الطبقات المتراكمة فوق تلك الأدوات التي صنعها البشر الأولون من الزمن الطويل والدهور الدهارير، فحكموا بأنه لا بد لذلك من عشرات ألوف من السنين.
وقد قسموا المدة التي قضاها الإنسان منذ وجد على سطح الكرة إلى أن صار معروفا عند أعقابه إلى جملة أدوار، أقربها إلى الدور الحالي - بزعمهم - هو الدور المسمى بالرباعي، ويقال له الجليدي. وهو الذي فيه كان الثلج دائما في أماكن أصبح الثلج فيها اليوم نادرا. وكانت البلاد السكاندينافية وهولاندا وجزر إنجلترا وألمانيا والروسية مغطاة بالثلوج. وكان في أوروبا في الأصقاع التي ينحسر عنها الثلج حيوانات لا توجد اليوم عثروا على عظامها، واستدلوا منها على التفاوت العظيم الذي وقع في درجات البرودة والحرارة، مما قضى بهلاك قسم من أنواع هذه الحيوانات، والتجاء القسم الآخر إلى أصقاع أخرى من الكرة الأرضية. ومن أشهر هذه الحيوانات الحيوان الذي يقال له «الماموث
Mammouth » و«الكركدن» اللذان بعد أن انحسرت الثلوج الدائمة عن القارة الأوروبية رحلا إلى الشمال. وكذلك الحيوان المسمى «بالرنة
Renne » الذي لا يزال في القطب الشمالي مع أن له بقايا مستحجرة في أواسط أوروبا. وقد علت على هذه البقايا طبقات متكونة بكرور الأيام، ومعادن لا يمكن أن تتكون إلا بعشرات ألوف من السنين. كما أنهم عثروا على عظام بشرية أيضا تراكمت من فوقها تلك الطبقات، وبقيت بشريتها ظاهرة.
ولم يقع الاستدلال على وجود الإنسان في تلك الأعصر بالرمم البشرية فحسب بل وجدت له آثار أخرى من أدوات وآلات وتصاوير يحكم على وجوده بوجودها والأثر يدل على المؤثر، فالإنسان وجد في أواسط أوروبا - مثلا - معاصرا للماموث وللرنة. وقد عثر العلماء في القرن الماضي على عدة رمم بشرية، منها ما وجد في مغاور ووجدت بجانبه عظام حيوانات - كالكركدن مثلا - مما لم يبق له أثر الآن في هذه المناطق. وبعد بحث وتنقيب واختلاف بين العلماء الجيولوجيين، اصطلح الأوروبيون على قسمة الأدوار التي يعرفونها عن الإنسان إلى ثلاثة. وهذه الأدوار الثلاثة هي عبارة عن المدة التي مضت في بداية العصر الجليدي إلى أن أصبحت الحالة الجوية مقاربة لما هي عليه أوروبا اليوم. ويقدرون هذه المدة بألف قرن - أي مئة ألف سنة - فقد ذكروا الدور الثلاثي الذي سبق الدور الرباعي أو الجليدي. وقالوا: إن حيوانات كثيرة لم تطق التغيرات التي وقعت في أثنائه فانقرضت. وهنا اختلفوا في أماكن ظهور الإنسان في الدور الثلاثي وتحمله ما لم تتحمله تلك الحيوانات الكبيرة وفى عدم إمكان ذلك.
فبعضهم ذهب إلى أن الإنسان وجد في الدور الثلاثي بدليل وجود أدوات حجرية لا يمكن صنعها إلا بيد مخلوق هو على شيء من العقل، وذهب المنكرون لوجود الإنسان في الدور الثلاثي إلى أن الأدوات المذكورة هي أحدث عهدا من ذلك الدور - فالمفروض - مع الترجيح التام - أن الإنسان وجد في الدور الرباعي.
وأعظم دليل من الآثار الحفرية على ذلك انه وجد بقرب «هيدلبرغ» في بلاد بادن من ألمانيا على عمق أربعة وعشرين مترا فك أسفل إنساني، ووجد في المحل نفسه بقايا كركدن وفرس من أفراس البحر مما كان يعيش في الدور الثلاثي، وهذا الفك وجد ضخما عظيما عريضا جدا قليل الارتفاع، ولم يوجد له ذقن، ووجد فيه تشابه كثير مع فكوك القردة التي تشبه الإنسان من النوع الذي يقال له «انتروبويد
Unknown page