164

Tarikh Ibn Khaldun

تاريخ ابن خلدون

Genres

ونعود إلى أخبار السلطان عبد الحميد فنقول: إن من أهم الحوادث التي جرت في أيام هذا السلطان هو فتنة الأرمن، وهذه الفتنة أساسها أن الأرمن كانت لهم في الأعصر القديمة دولة، وكان لهم استقلال، وكانت مملكتهم واقعة في شرقي الأناضول بين المملكة البيزنطية والمملكة الفارسية، ولما استولى الأتراك على تلك البلاد في أيام الأتراك السلاجقة، وبعد واقعة ملازكرد التي وقع فيها قيصر القسطنطينية أسيرا رحل منهم جانب إلى غربي الأناضول، وأقاموا في جبال طوروس وفي سهول كيليكية. وكانت لهم هناك إمارات لعبت أدوارا في الحروب الصليبية، وسواء كانوا في شرق الأناضول أو في غربيه، لم تكن لهم أكثرية عدد بالنسبة إلى السكان المسلمين. وإذا وجدت منهم جماعة في مقاطعة صغيرة كانت أكثر من غيرها فلم يكن ذلك ليقيم لهم ملكا مستقلا، وقد كانت الدولة العثمانية أحصت عددهم في جميع بلادها فكانوا لا يزيدون على ثلاثة ملايين مبعثرة ما بين خمسة وعشرين إلى ثلاثين مليونا من الأمم الأخرى. ففي بعض الولايات كانوا خمسة في المئة، وفي بعضها عشرة في المئة.

وأكثر الولايات سكانا من الأرمن كانت ولايات موش، وبتلس، في شرقي الأناضول وكانوا هناك خمسة وثلاثين في المئة، وبرغم هذا كله كانوا يزعمون أن لهم حقا في الاستقلال كما استقل اليونان، والبلغار، والسربيون، والفلاخيون وغيرهم من الأمم المسيحية التي كانت خاضعة لسلطنة آل عثمان. ولكن هذا قياس مع الفارق، فإن الفلاخيين والبغدانيين كانوا عدة ملايين من أمة واحدة، وعلى حدود الروسيا ولم يكن بينهم إلا مئتان أو ثلاث مئة ألف من الترك، وإن السربيين كانوا مليوني نسمة، وليس بينهم سوى بضعة عشر ألف مسلم. وكذلك البلغار كانوا خمسة ملايين وليس بينهم سوى مليون من الأتراك، وكان اليونان من قبل أكثر من مليون في بلادهم وليس بينهم إلا مائتان أو ثلاث مئة ألف من المسلمين. فلذلك تيسر لهذه الأمم أن تقوم وتدعي الاستقلال، وتقاتل الدولة العثمانية قتالا لم يكن يخمد حتى يشتعل، واستمر ذلك مئات من السنين، فانتهى الأمر بانسلاخ هذه الأقوام عن السلطنة العثمانية بمساعدة أوروبا.

فأما الأرمن فلم يكونوا في أوروبا مثل اليونان، ولا البلغار، ولا السرب، ولا الرومانيين، ولم يكونوا مجتمعين في ولاية واحدة حتى تتألف منهم كتلة تستحق الاستقلال، وإنما كانوا مشتتين في جميع ولايات السلطنة، وكانوا في كل مكان هم الأقلية، ولم يكن سائر السكان من أتراك وأكراد يقبلون الخضوع للأرمن. فلهذا كان ادعاؤهم الاستقلال غير وارد ولا من جهة، وكان بينه وبين إمكانه فعلا بون شاسع. وهذا ما قد كان يدركه قدماء الأرمن، فلذلك كانوا وطنوا أنفسهم على الارتباط بالدولة العثمانية التي كانت تعتمد عليهم، وتستخدم كثيرا منهم حتى في المناصب العالية. وفي ظلها نما عددهم، وازدادت ثروتهم، ولما كانوا هم أهل جد ونشاط، وإقدام على الأعمال، كان كثير من مرافق السلطنة في أيديهم، وأينما توجه الإنسان في البلاد العثمانية كان يجد على الأرمن آثار النعم. وكانت الدولة تثق بهم وكان الأتراك يخلطونهم بأنفسهم، ويسمون الأرمن «الملة الصادقة».

واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن بدأ الضعف في السلطنة العثمانية، فصار الأرمن يرفعون رؤوسهم وينتهزون الفرص من خطوب الدولة ليطالبوا بتجديد ملكهم القديم، وإن كانت قد درست معالم ذلك الملك، وكانوا هم تفرقوا شذر مذر وزاد هذا الادعاء عندهم أنهم أخذوا يرسلون أولادهم لتحصيل العلم في أوروبا وأمريكا فجميع هؤلاء الشبان الذين كانوا يتعلمون في الديار الأوروبية والأمريكية كانوا يعودون متشبعين بأفكار الانفصال عن الدولة العثمانية، وكان الأوروبيون بواسطة رسالاتهم الدينية الكثيرة يذهبون إلى الديار التي فيها أرمن من تركيا ويفتحون المدارس والملاجئ، وكان جميع من يتعلم في هذه المدارس الأوروبية يخرج كارها للدولة، عدوا للمسلمين، وذلك بسبب المبادئ التي كان الأوروبيون - ولاسيما الأقسة والمبشرون - يرضعونهم إياها من الصغر. فأهم عوامل الشقاق الذي وقع بين الأرمن وبين سائر الرعية العثمانية، كان هو التعليم في مدراس الأوروبيين، فأصبح غير ممكن تساكن الجنسين بعضهم مع بعض، وظهرت عند الأرمن نزعات شيطانية، ونزعات عدوانية تخالف ما كان عند آبائهم بتمامه، فلم يلبث أن وقع الاصطدام بينهم وبين المسلمين ودارت الدائرة على الدولة في الحرب التركية الروسية.

طلب الأرمن من الدول الأوروبية استقلالا داخليا للبلاد التي في شرقي الأناضول على أمل أن يجددوا هناك مملكة أرمينية القديمة، وبديهي أن الدول في مؤتمر برلين أمكنها أن تفصل الولايات الأوروبية التي كانت للدولة بسبب كثرة المسيحيين فيها، وقلة المسلمين الذين يساكنونهم، ولكنها لم تقدر أن تفصل الأرمن عن حكم الدولة العثمانية نظرا لقلة عددهم بالنسبة إلى من يساكنهم من المسلمين، فقررت اقتراح بعض إصلاحات إدارية في البلاد التي فيها أرمن، ولما كانت هذه الإصلاحات ليست هي مرمى الأرمن الحقيقي سواء أنفذها الأتراك أو لم ينفذوها، لم تكن هذه المسالة لتشفي للأرمن غليلا.

فمن ذلك الوقت شرعوا يعدون معدات الثورة ويتحفزون للقيام على الدولة حتى ينالوا ما يريدونه بالثورة، فأخذوا بتشكيل جمعيات سرية جعلوا مركزها في أوروبا وهي ذات شعب وفروع في جميع البلاد التي فيها أرمن، فكان المركز الأرمني بالوسائل الكثيرة التي له، بجمع الأموال من الأوروبيين ومن الأرمن الموسرين، ويقرر الأعمال ويرسم الخطط والحركات، ويشتري الأسلحة ويعين متطوعين فدائية يفادون بأنفسهم في سبيل مصلحة أمتهم.

وهكذا جعلوا حركة الانتقاض على الدولة تكاد تكون عامة، لاسيما بين النشء الجديد، وكانوا إذا رأوا من أبناء قومهم من لا يريد أن يسايرهم في طريقهم إما اقتناعا بفساد عملهم، أو خوفا من سطوة الدولة، بطشوا به وعدوه خائنا، كانوا يستحلون دمه وقد قتلوا من هذا النمط عددا غير قليل منهم، وكانوا يعلمون أحاثهم أسماء ملوك الأرمن القدماء، ويذكرون أسماء قديسي الأرمن في الكنائس ليثيروا في رؤوس الشبان الحمية الأرمنية، ويحيوا تذكار الملك الأرمني القديم. وكل هذا تحملته الدولة العثمانية مدة طويلة، ولكنها في الآخر رأت أن رعيتها الملمسين لن يستطيعوا على هذه الأحوال صبرا، فأمرت بإقفال بعض مدارس كانت تلقى فيها بعض التعاليم الثورية، فثار الأرمن بسبب إقفال هذه المدارس، وقاموا بحركة عصيان، وكان الأتراك والأكراد قد امتلأت صدورهم وغرا منهم فحصلت حوادث وسالت دماء في ولاية أرضروم، وموش، فجاء الأرمن يشكون إلى الدولة وقامت قيامتهم في الأستانة وطلبوا من بطريركهم عشقيان أفندي أن يراجع السلطان في الاقتصاص من المسلمين الذين حملوا على الأرمن.

ولما وجودوا من عشقيان أفندي فتورا في المراجعة هجموا عليه وهو في كنيسة «قوم قبو» وحاولوا قتله ففر من بين أيديهم وتوارى ريثما جاءت الشرطة فقبضت على الثائرين وألقوا عددا كبيرا من شبان الأرمن في غيابات السجون. وكانت تشكلت في استانبول لجنة أرمنية ثورية اسمها «اللجنة الحمراء» يديرها أرمني من التبعة الروسية اسمه «آغوب بدريكوف» وأخذت هذه الجمعية السرية تفتك بالأرمن الذين كانوا لا يوافقون على الثورة فقبضت السلطة على بدريكوف هذا وحكمت عليه المحاكم بالقتل، ولكن السلطان عفا عنه وسلمه إلى سفارة الرسيا على شرط إخراجه من الأستانة وخرج، ولكن اغتيال الأرمن الصادقين للدولة بقى مستمرا، وكانت هذه الوقائع سنة 1890.

ثم إن جمعيات الأرمن لاسيما التي يقال لا «هيكان» ازداد جرأة وأخذت تبث حركة العصيان في الأناضول فاشتعلت الفتنة في سيواس، وأنقرة، وقونية، وأطنة وقبضت الدولة على المشاغبين، وأخذت بمحاكمتهم، وأكبر الناس - حتى عقلاء الأرمن أنفسهم - هذه الحركات وأصدر البريرك عشقيان أفندي منشورا ينصح فيه أمته بالإخلاد إلى السكون وتجنب هذه الحركات المخالفة للأمانة للدولة، ولمصلحة الأرمن أنفسهم. فما مضى على ذلك أيام قلائل حتى أطلق أحد المنسوبين إلى هذه الجمعيات الرصاص على البطريرك وهو في كنيسة قوم قبو، ولكنه أخطأه، فأخذت الحكومة العثمانية تشدد في معاقبة ثوار الأرمن.

وفي أثناء ذلك نجمت بوادر الثورة في جبل يقال له «جبل ساسون» من سنجق موش، في ولاية بتلس. وذلك بأن أهالي هذا الجبل كانوا امتنعوا عن تأدية الضرائب، فأبرق والي بتلس إلى الباب العالي عن عصيان أهالي هذا الجبل، ووجوب تأديبهم. فأرسلت الدولة المشير زكي باشا بقوة من المشاة والخيل والمدفعية فدمروا ديار العصاة، وجعلوا عاليها سافلها. فما وصلت أخبار إيداب الدولة لعصاة الأرمن إلى صحف أوروبا حتى قامت قيامتها، وأخذت تتكلم عن مذابح الأرمن كما هي عادتها كلما ثار ثائر أمة مسيحية على حكومة إسلامية.

Unknown page