163

Tarikh Ibn Khaldun

تاريخ ابن خلدون

Genres

ومنهم من انحاز إلى العرابيين بحجة أنهم المدافعون عن الوطن، وحشد العرابيون جيشا في التل الكبير وصمموا على المقاومة هناك فزحف إليهم الإنجليز وبددوا شملهم في أقل من ساعتين، ثم سارت العساكر الإنجليزية ودخلت القاهرة، وكل هذا بزعمهم على نية تأييد الخديوي، والرجوع من حيث أتوا، ولبث الجيش الإنجليزي مدة من الزمن في مصر بحجة توطيد سلطة الخديوي المتزعزعة، فكلما طالبت الدولة الإنجليز بالجلاء عن مصر كان جوابهم إن هذا يكون بعد توطيد الأمن، وتمكين الخديوي وكيل السلطان الشرعي. ثم أنهم عقدوا مجالس عسكرية، وحاكموا العرابيين، ونفوا عرابي باشا ومحمود سامي باشا وعددا من الباشوات إلى جزيرة سيلان في الهند، كما أنهم نفوا عددا من الضبط الكبار إلى بيروت، ونفوا أيضا معهم إليها الشيخ محمد عبده، وإبراهيم اللقاني وغيرهما من الوطنيين أصحاب الأقلام، وطال مكث الإنجليز في مصر والباب العالي يعترض عليهم ويطلب جلاءهم بحسب وعدهم، حتى أنهم أحصوا مواعيده الرسمية بالجلاء فبلغت اثنين وستين وعدا نكثوا بها كلها! وكان احتال الإنجليز لوادي النيل سنة 1882 وبعد أخذ ورد طويلين بين إنجلترا والباب العالي وصل الفريقان إلى اتفاق على الجلاء اشترطت فيه إنجلترا حق احتلالها لمصر فيما إذا تجددت فيها حوادث مخلة بالأمن، أو وقائع ذات خطر على حياة الأوروبيين، وكاد السلطان عبد الحميد يوقع على هذا الاتفاق، إلا أن فرنسا ألحت عليه برفضه فامتنع في آخر ساعة من التوقيع عليه.

وكان مراد فرنسا الحقيقيأن تفق هي رأسا مع إنجلترا فتترك منازعتها على مصر بمقاببلة تخلي إنجلترا عن منازعتها إياها على مراكش، وهكذا تم بينهما فيما بعد وأصبحت إنجلترة في مصر لا ينازعها سوى الدولة العثمانية التي كانت مشكلاتها الكثيرة وعداوتها مع الروسيا تقيدها تقييدا شديدا عن الاندفاع في عداوة إنجلترا. وأما فرنسا فبطل اعتراضها على إنجلترا في احتلال مصر بمقابلة سكوت إنكتلرة عن احتلال فرنسا للمغرب.

وبقيت الحال على غير استواء بين إنجلترا والدولة العثمانية مدة سلطنة عبد الحميد كلها، وذلك كله بسبب مصر، وكان السلطان قد أرسل إلى مصر الغازي مختار باشا مندوبا من قبله لملاحظة مصالح الدولة، وكان المصريون يجلون مختار باشا مزيد الإجلال باعتبار تمثيله للسلطان الخليفة، وأيضا بسبب كونه في نفسه قائدا عظيما، وعالما كبيرا، ولكن الإنجليز لم يجعلوا له سبيلا لأي تدخل في أمور مصر، ووضعوا هناك مسيطرا على مصر السر «افلين بارنغ» الذي لقبوه فيما بعد «باللورد كرومر». وكان هذا الرجل شديد الغطرسة، متكبرا فظا، وله عداوة خاصة للإسلام، فتصرف بأمور مصر كما لو كانت إحدى مستعمرات إنجلترا، وفي زمانه ثار السودانيون تحت قيادة محمد أحمد الذي لقب نفسه «بالمهدي» فقالوا له المتمهدي، وانفضوا على المعسكر المصري الإنجليزي الذي كان يقوده «غوردون باشا» فاستأصلوه، وكان عدده عشرة آلاف جندي. واستولى المهدي على السودان وانقطع الحكم الإنجليزي المصري من هناك، ومات المهدي فخله «التعابشي» وكان هذا ظالما عاتيا جبارا، فأسرف في سفك الدماء، وأفنى كثيرا من الخلق فتغيرت عليه قلوب الأهالي وصاروا يريدون التخلص منه.

وفي ذلك الوقت قرر الإنجليز استرجاع السودان، فجهزوا جيشا مصريا عهدوا بقيادته إلى ضباط منهم، وأنفقوا على الحملة من خزانة مصر، وفتحوا السودان ولكن بدلا من أن يردوه إلى مصر كما كان جعلوا الحكم مشتركا بينهم وبين المصريين - بزعمهم - والحقيقة أنهم جعلوا شركة لمصر بالاسم فقط، وبرفع العلم المصري، وقبضوا على كل شيء، وتصرفوا بكل شيء كما يشاؤن. وهم الذين أذنوا لإيطاليا في احتلال مصوع، وعصب، والاستيلاء على بلاد عثمانية واسعة كانت تحت إدارة الحكومة المصرية، ولما احتل الإنجليز مصر كانت الحكومة المصرية تدير من قبل الدولة شمالي بلاد الحجاز، ففي الحال فطن والي الحجاز لمغبة هذا الأمر، وأخرج قضاء الوجه من تحت الإدارة المصرية.

ولكنه بقي في يد مصر القسم الأكبر من شبه جزيرة سينا، فأراد العثمانيون إجراء تحصينات في القلاع التي إلى الغرب من العقبة، فاعترضت إنجلترا على الدولة في ذلك، فأصر السلطان على التصرف ببلاده بحجة أنها بأجمعها بلاد عثمانية، فاستبد الإنجليز في هذه المسألة استبدادا شنيعا، وأنذروا الدولة بالحرب. وكأن مصر أصبحت في نظرهم من جملة الإمبراطورية البريطانية، فازداد السلطان عبد الحميد شنآنا لبريطانيا العظمى، وكان ذلك من جملة أسباب موالاته لألمانيا. وانعقدت بينه وبين الإمبراطور غليوم الثاني مودة أكيدة صارت تزداد بمرور الأيام، وعول السلطان على ألمانيا في تدريب جيشه، واستدعى «فون غولتس» من قواد ألمانيا ليكون على رأس المدرسة العسكرية في الأستانة واستجاد غيره من أهل العلم والصنعة في ألمانيا واستخدمهم في حكومته. وكان يرسل كل سنة عددا كبيرا من الطلبة إلى ألمانيا، وبقي السلطان عبد الحميد صديقا للإمبراطور غليوم إلى نهاية ملكه.

ولما أعلن الدستور العثماني وصار الأمر إلى جمعية الاتحاد والترقي، ظن رجال هذه الجمعية أنهم يتركون صداقة ألمانيا التي كانت تعتمد على السلطان عبد الحميد وتنال بواسطته الامتيازات في تركيا، ومن جملتها سكة حديد بغداد، رأوا أن يرجعوا إلى صداقة إنجلترا، وأخذوا يتزلفون إلى هذه ويذكرونها بالصحبة القديمة يوم كانت إنجلترا تساعد العثمانيين على الروس، ويوم كان السلطان عبد الحميد في ثورة الهند الكبرى يخاطب مسلمي الهند ناصحا لهم بعدم الاشتراك مع الهنادك في محاربة الإنجليز، إلا أن المسألة المصرية منعت كل تقارب بين العثمانيين والإنجليز وما مضت ثلاثة أشهر على حكم الاتحاديين في تركيا حتى رجع الاتحاديون وأدركوا أن لا أمل في عطف الإنجليز وعادوا أصدقاء لألمانيا كما كان السلطان عبد الحميد وبقيت الأحوال بين تركيا وإنجلترا مشربة بروح العداوة إلى الحرب العامة أي كانت قد بدأت العداوة بين إنجلترا وتركيا من سنة 1882، لأجل مصر واستمرت إلى 1914 أي إلى سنة الحرب العامة وهي مدة اثنتى وثلاثين سنة. وذلك كله بسبب احتلال الإنجليز لمصر والسودان وتوابعهما. ثم خاضت الدولة غمرات الحرب العامة إلى جانب ألمانيا نفورا من انجلترة، ولما بدأت الحرب الكبرى وحاولت دول الحلفاء الروسيا وفرنسا وانجلترة إقناع الدولة العثمانية باجتناب الحرب، كان أول شرط اقترحه رجال الدولة هو إخلاء الإنجليز لمصر، وكان الأتراك مستعدين أن يقبلوا التحالف مع الإنجليز إذا أراد هؤلاء إخلاء مصر، فلم يقبل الإنجليز أن يسمعوا كلمة واحدة في هذا الموضوع.

وعندما دخلت الدولة في الحرب العامة أعلنت انجلترة الحماية على مصر، وخلعت الخديوي عباس حلمي المنصوب بفرمان سلطاني، ونصبت عمه الأمير حسين بن إسماعيل سلطانا على مصر، وأرادت تجنيد جيش من المصريين لقتال الأتراك فاعترض على ذلك السلطان حسين نفسه لأنه كان وطنيا صادقا، ورضي بعض زعماء مصر بالدخول في الحرب إلى جانب انجلترة على شريطة أن انجلترة تعترف باستقلال مصر وتخلي وادي النيل فرفضت انجلترة هذا الطلب أيضا وأصرت على إرادتها وساقت من المصريين عشرات الألوف استخدمتهم في جيوشها، وتصرفت برجال مصر وأحوال مصر كما تتصرف بالهند أو بغيرها من المستعمرات الإنجليزية.

وكانت انجلترة لا تفكر أصلا أن تلقي شيئا من القوة الحيوية التي ظهرت من السلطنة العثمانية في أيام الحرب الكبرى، ولكن عندما حمى الوطيس ورأت دول الحلفاء ما رأته من قوة تركيا، وعظمة المقام الذي قامته بجانب ألمانيا، علمت خطل رأيها وكونها استخفت بتركيا استخفافا دلت الحوادث على أنه لم يكن في محله. ففكر قواد الإنجليز في اختراق الدردنيل والاستيلاء على الأستانة، وعبأ الخلفاء جيشا جرارا وأرسلوا أساطيلهم وحاولوا عبور مضيق الدردنيل، فقاتلهم العثمانيون قتالا شديدا وأغرقوا جانبا من بوارجهم، فأتوا بجيوش أخرى وأنزلوها في البر وحاولوا التقدم إلى الأمام، فصادمهم الترك بشدة استبسلوا فيها إلى أقصى ما يتصور العقل. واستمرت حرب الدردنيل هذه ثمانية أشهر والحلفاء يكرون والعثمانيون يصدونهم إلى أن قطع الحلفاء كل أمل من الفوز وركبوا بوارجهم خائبين، وقد فقدوا بين قتيل وجريح ثلاث مئة وخمسة وعشرين ألف جندي حسبما قرأت في وثائق الحرب الكبرى المطبوعة في باريز ، وفيها أن هذا العدد هو خسائر الجنود البرية، ولم يدخل فيه عدة آلاف من خسائر الأساطيل، وقد جاء في هذا الكتاب أن بعض البوارج التي أغرقها العثمانيون بمدافعهم لم ينج من بحريتها إلا عشرون جنديا لا غير، وقد كانت حرب الدردنيل هذه هي ألمع صفحة من تاريخ العثمانيين في الحرب الكبرى، كما كانت حرب بلفنة ألمع صفحة في تاريخ الحرب الروسية التركية. وتعدل خسائر العثمانيين في حرب الدردنيل بمئتي ألف مقاتل بين قتيل وجريح.

ولما رأت انجلترة بعينها أن حسبانها من جهة تركيا وقوة مقاومتها كان أكثره خطأ، عادت ففكرت في فصل العرب عن الترك حتى تشغل العثمانيين بعضهم ببعض.

وقد كان الشريف حسين بن علي، أمير مكة قبيل الحرب الكبرى داخل الإنجليز في عقد محالفة معهم على أن يثور على الدولة وتمده إنجلترا بالمال والسلاح على أن تستقل البلاد العربية وتنفصل عن تركيا، فرفضت انجلترة اقتراح أمير مكة هذا استخفافا بالقوة العربية، واعتمادا على أنها لا تحتاج إلى العرب في القضاء على تركيا إذا نشبت الحرب، وكان معلوما أن الحرب العامة ستقع لا محالة، لذلك اتفق الإنجليز والفرنسيس على اقتسام سورية وفلسطين منذ سنة 1912، أي قبل الحرب العامة بسنتين. وهذا من أوضح الدلائل على كون دول الحلفاء كانت تتأهب لقتال ألمانيا ولاقتسام تركيا بعد تغلبهم على ألمانيا، وأيضا يستدل على تلك النية التي كانت عندهن بأن تركيا في أول الحرب العامة عند ما صار الحلفاء يراودونها على عدم الدخول في الحرب أجابتهم بأنها لا تقدر أن تبقى على الحياد التام خوفا من أن يتفق الجميع عليها ويتصالحوا على ظهرها، فهي إن لم تدخل في الحرب إلى جانب ألمانيا، فلابد لها من الدخول في الحرب إلى جانب الحلفاء تحت محالفة تعقد بينهم وبين تركيا. فرفضت انجلترة هذا الاقتراح، ولم تجد من حاجة إلى عقد محالفة مع تركيا قد تمنعها فيما بعد من الاستيلاء على البلاد العربية. وهذا مثل رفضها للتحالف مع مصر وللسبب نفسه وكذلك مثل رفضها للتحالف مع إيران وللسبب نفسه، أي حتى لا تضطر إلى الاعتراف باستقلال هذه الممالك الإسلامية التي كان الإنجليز وضعوا نصب أعينهم القضاء عليها.

Unknown page