وكانت فارس يومئذ في حال أشبه بالفوضى، وكان الشاه مير محمود قد تغلب عليه أشرف ابن عمه واستولى على الملك ونازعه طاهماسب، وكان هذا أحق بالملك شرعا، فتحارب الاثنان وانتهى الأمر بهزيمة أشرف والتحاقه بسجستان حيث مات، وكان عند طاهماسب قائد عظيم اسمه نادر كولي، كان في الأصل زعيم أشقياء، فزحف صوب تركيا واستدرج الولايات الفارسية التي كانت قد دخلت في الحوزة العثمانية، فلم يشأ السلطان أن يثير على فارس حربا، فغضبت الانكشارية وثاروا وطلبوا رأس الصدر الأعظم ورأس شيخ الإسلام ورأس القبطان باشي، فامتنع السلطان عن إعطائهم رأس شيخ الإسلام، ولكن قتل لهم الآخرين، فلم يزدهم ذلك إلا تمردا وخلعوا السلطان أحمد وبايعوا محمود الأول.
وفي زمن أحمد الثالث دخلت المطبعة في تركيا وأفتت مشيخة الإسلام بجوازها، إلا أنه بقي طبع المصحف الشريف ممنوعا، وطبع في ذلك الوقت كتب كثيرة مثل جيهان نوما وهو جغرافية للشرق مع أطلس، وخلاصات تاريخية وتقويم التواريخ، وهو سلسلة ملوك الشرق وعظمائه إلى سنة 1732، وتحفة الكبار وهي تاريخ البحرية العثمانية إلى سنة 1655، وتاريخ تيمور من قلم نظمي زاده، وتاريخ مصر للسهيلي، وتاريخ الأفغان مع مختصر تاريخ الدولة الصفوية في فارس، وتاريخ بوسنة من سنة 1736 إلى سنة 1739، وهي مدة اتصلت فيها الحروب في ذلك الإقليم، وتاريخ الهند الغربية، وكتاب الفيوضات المغنطيسية يتكلم عن خصائص المغناطيس وإبرته المعروفة، فهذه هي الكتب الأولى التي طبعت بالمطبعة العثمانية بحسب رواية المؤرخ «لاجونكيار» “Lajonquiere” ، وقد قرأت في بعض المظان ما يخالف هذا وهو أن أول كتاب طبع في الأستانة هو صحاح الجوهري، ثم إن الدولة عادت فمنعت المطبعة، وبقي ذلك إلى زمن السلطان عبد الحميد الأول الذي أصدر خطا شريفا في تاريخ 12 مارس سنة 1784 بإعادة المطبعة تحت إدارة محمد رشيد أفندي وأحمد واصف أفندي، فكانت مدة إهمال المطبعة أربعين سنة، ثم إن السلطان محمود الأول اهتم بها مزيد الاهتمام.
وكان السلطان أحمد الثالث شاعرا أديبا وله شعر رقيق لا سيما في الغزل أحفظ من جملته:
عجبا لسلطان يذل له الورى
ويصول سلطان الغرام عليه
وما أكثر الأدباء والشعراء في آل عثمان.
السلطان محمود الأول
تولى السلطان محمود الأول سنة 1730 ولأول سلطنتة ثار الانكشارية وعلى رأسهم المسمى بترونة خليل، فقمعت الحكومة ثورتهم وقتلت منهم سبعة آلاف، وعاد السكون إلى العاصمة، ثم استأنفت الدولة محاربة العجم وأجبرت الشاه طاهماسب على طلب الصلح، فانعقد في 10 يناير سنة 1732 ونزلت العجم عن تبريز وأردهان وهمذان وجميع اللورستان، وأيضا تركت لتركيا الداغستان وناختشيفان وأريفان وتفليس وغيرها، ولكن هذا الصلح لم يطل أمره، فإنه برز نادر كوليخان من قواد العجم وخلع الشاه طاهماسب وصار هو كافلا للمملكة الفارسية ووصيا على القاصر الشاه عباس الثالث، فنقض نادر المعاهدة وغزا البلاد العثمانية وحصر بغداد، فاشتبكت في المعركة الثالثة، ووقع السر عسكر طوبال عثمان باشا قتيلا، وكان هذا قائدا بطلا ووزيرا عادلا فاضلا خسرت تركيا بموته خسارة لا تعوض، وأرسلت الدولة جيشا آخر بقيادة السر عسكر عبد الله باشا الكوبرلي بن مصطفى باشا الكوبرلي، فقتل هذا السر عسكر أيضا، فاضطرت الدولة إلى طلب الصلح، وعقدته مع نادر شاه الذي كان تولى سلطنه العجم، ورجعت مع إيران إلى الحدود التي كانت تحددت بين السلطان مراد الرابع والعجم سنة 1639، وأكثر السبب الذي حدا تركيا على طلب الصلح هو نشوب الحرب بينها وبين الروسيا.
وكانت بولونيا في فوضى مستمرة فانتهزت الروسيا من جهة والنماس من جهة أخرى الفرصة لأجل اقتسامها، وقاتل ستانسلاس ملك بولونيا قتالا شديدا، إلا أن الروس تغلبوا عليه فصارت بولونيا في قبضة الروسيا بينما فرنسا مشغولة بالحرب مع النمسا، وكان عند الدولة العثمانية رجل فرنسي اسمه أحمد باشا أصله من البحرية الفرنسية، وقد جرت معه وقائع خرج من أجلها من وطنه في خدمة النمسا ، وامتاز بالبسالة في الحرب بين النمسا وتركيا، ثم وقع الخلاف بينه وبين البرنس أوجين فألقاه في السجن، فوجد وسيلة للفرار من السجن والتجأ إلى تركيا وصار قائدا وتسمى بأحمد باشا، وقدم للسلطان تقريرا يطلعه فيه على أسرار السياسية الأوروبية وأشار على السلطان بعقد محالفة مع فرنسا وأقنعه بها، فرضي السلطان بذلك حتى يتمكن من قهر النمسا، ولما علم كارلس الثاني إمبراطور النمسا هذه المحالفة مع فرنسا أسرع بمصالحة هذه، وفي أثناء ذلك زحف الروس إلى تركيا بينما هي في حرب مع العجم فاستولوا على آزوف والقريم وغيرهما.
ولما كانت النمسا قد صالحت فرنسا واستراحت من حروبها مع إسبانيا وسردانيا عبأت جيشا كبيرا وغزت به بلاد السرب والفلاخ والبوسنة، وظنت نفسها قد نالت مرامها فانكسر جيشها في بنالوفة، والتزمت أن تخلي البوسنة. وكذلك انكسر جيشها في الصرب تحت قيادة البرنس هيلدبورهوزن فطلب إمبراطور النمسا الصلح وذلك سنة 1737، وتوسطت إنجلترا وهولاندا في إعادة السلام، إلا أن الباب العالي اشترط أن يكون الصلح بواسطة فرنسا، واسترجعت الدولة في تلك النوبة بلادا كثيرة كانت قد استولت عليها النمسا، ولولا غفلة الحاج محمد باشا الصدر الأعظم لكان الجيش النمسوي قضي عليه بتمامه، فأما الحرب مع الروسيا فكانت سجالا، ففي البداية انكسر الروس على نهر الدينيستر وأحرق الأسطول العثماني أسطول الروسيا إلا إنهم عادوا فيما بعد فانتصروا على العثمانيين ودخلوا ملدافيا.
Unknown page