الصقالبة
الأنساب
الخلافة واشتراط القرشية فيها
مذهب النشوء والارتقاء
نوح وولده وقضية الطوفان والسلائل البشرية
التوراة وهل وقع فيها تبديل أم لا؟
تاريخ العرب الأولين
الترك
الصقالبة
الأنساب
Unknown page
الخلافة واشتراط القرشية فيها
مذهب النشوء والارتقاء
نوح وولده وقضية الطوفان والسلائل البشرية
التوراة وهل وقع فيها تبديل أم لا؟
تاريخ العرب الأولين
الترك
تاريخ ابن خلدون
تاريخ ابن خلدون
المسمى بكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم
من ذوي السلطان الأكبر
Unknown page
تأليف
الأمير شكيب أرسلان
مقدمة
ابن خلدون أمة وحده
بقلم شكيب أرسلان
جنيف 26 شعبان المعظم 1355
الأمير شكيب أرسلان
لم نعلم أحدا من العلماء والفلاسفة قبل ابن خلدون أفرد بالتأليف علم طبيعة العمران وما يسمى اليوم بعلم الاجتماع، برغم أن هذا العلم لم يكن من الأسرار الخفية ولا من المباحث التي لا تجول فيها أفكار الحكماء. وقد ثبت أن الفلاسفة قبل ابن خلدون لحظوا هذا العلم وأشاروا إليه في تضاعيف مباحثهم، ولكنهم لم يبلغوا فيه شيئا من الإحاطة التي بلغها ابن خلدون، ولا استقصوا فيه ذلك الاستقصاء الذي جعله في هذا الموضوع نسيج وحده، حتى ألقي إليه فيه بمقاليد الرئاسة، فهو واضع علم الاجتماع بالإجماع، وهو الذي لم يدع منه غفلا غير معلم، ولا وشيا غير منمنم.
قال البارون المستشرق «كارادوفو
Carra de Vaux » صاحب كتاب «مفكري الإسلام» في الجزء الأول من تأليفه هذا: أنجبت أفريقيا الإسلامية اجتماعيا من الطبقة الأولى في شخص ابن خلدون الذي لم يعرف من قبله علم أوتي تصورا عن فلسفة التاريخ أصح ولا أجلى من تصوره، فإن أحوال الأمم الروحية والأسباب الطارئة عليها القاضية بتغييرها، وكيفية تأسيس الدول، وما تدخل فيه من الأطوار وتنوع المدنيات وعوامل نموها أو تقلصها، كل ذلك كان من المباحث التي خاض فيها إلى أقصى ما يمكن الخوض فيه، وذلك في مقدمته المشهورة “Prolegomenes”
Unknown page
ولم نجد في أوروبا - إلا في القرن الثامن عشر للمسيح - أناسا حاولوا أن يستخرجوا أسرار التاريخ استخراجه بعد أن كانت أقفالا مستحجبة تعذر فتحها، فكان ابن خلدون في العقل والإدراك من فضيلة «مونتسكيو
Montesquien » أو الأب «مابلى
Mably » وهو من دون شك الجد الأعلى لعلمائنا الاجتماعيين المحدثين مثل «تارد
Tarde » أو المستشرق «غوبينو
Gobinean » ا.ه.
ثم ذكر صاحب كتاب «مفكري الإسلام» شيئا عن حياة ابن خلدون وقال إن الأب «بورغيس
Bargues » قدح في ابن خلدون وأنكر عليه الثبات على وتيرة واحدة، وزعم أن قاعدته في السياسة كانت التحول من حزب إلى حزب آخر بحسب ما كانت تقضي عليه به مصلحته الشخصية، أو اتقاؤه للضرر، ونسي بورغيس ما كانت عليه أحوال تلك الحقبة المضطربة الذي يجب تمهيد عذر من يلجأ فيها إلى ما لجأ إليه ابن خلدون. على أن بورغيس نفسه يسمي ابن خلدون «بالمؤرخ الفيلسوف» برغم ما زنه به من عدم الثبات.
ثم ذكر كارادوفو كيف ذهب فيلسوفنا المشار إليه سفيرا عن سلطان غرناطة إلى «بطرة» الغاشم سلطان قشتالة في بعض المهمات، وكيف حاول هذا الطاغية إقناعه بالبقاء عنده ولم يحصل من ذلك على طائل، وذكر مجيئه إلى مصر وولايته للقضاء ثم صحبته لسلطان مصر في خروجه إلى الشام لمحاربة تيمور لنك، ثم ما جرى بينه وبين تيمور لنك من الأحاديث وكيف أقنعه بالإذن له في الرجوع إلى مصر - توفي سنة 808 وفق 1406 عن أربع وسبعين سنة. وقال: إنه كان رجلا سريا بهي الطلعة، حسن الصورة والشورة، خبيرا بالسياسة، عارفا بأخلاق الملوك.
ثم قال: إن عمل هذا الكاتب العظيم كان عبارة عن تاريخ عام مجموع من كتب كثيرة ملحق بتاريخ نفيس للبربر ترجمة المسير «دوسلان
de Slane » إلى الفرنسية، وقدم عليه مقدمة تضمنت فلسفته السياسية. وهذه المقدمة هى في حد ذاتها انسيكلوبيديا شاملة، تبحث عن جميع المسائل من جهتها الفلسفية، والتاريخ نفسه معدود فيها من جملة فروع الفلسفة.
Unknown page
قال ابن خلدون:
إذا نظرنا إلى التاريخ من جهة شكله الخارجي وجدنا مهمته تقييد الحوادث التي تتابعت على مر الأعصار، وتعاقب الأدوار، مما كانت الأجيال الماضية شاهدة له، وإنه لأجل سرد هذه الحوادث تنقحت العبارات، وتطرز الإنشاء بحلى البلاغة، وبهذا التاريخ زهت مجالس الأدب، وتداعى إليها الناس من كل حدب، والتاريخ هو الذي يعلمنا كيف تقلبت الأحوال على جميع الكائنات، وهو الذي منه يعرف بناء الممالك، وكيفية عمارة الأمم لهذه الأرض. كل أمة إلى المدة المقدرة لها من الحياة، فأما من جهة الأسرار الباطنة لعلم التاريخ، فأعظم أسراره هو البحث عن الحوادث إلى درجة اليقين بها، والتأمل في الأسباب التي أنشأتها وفى كيفية جريانها وتطورها، فالتاريخ بالجملة إنما هو فرع من فروع الفلسفة، وهو جدير بأن يجعل في عداد العلوم الجليلة التي لها المكانة الأولى.
فأنت ترى أن التاريخ في نظر ابن خلدون هو عبارة عن تمحيص الحوادث والبحث عن أسبابها. وهذان الأمران يستلزمان معرفة أحوال الشعوب والبصر بطبيعة العمران، وكان ابن خلدون يرى العمران في زمانه قد أجحف به النقصان وأكدى كما أرى، فيذهب إلى أن المدنيات قد أشرقت شموسها على العالم من مشارق متعددة ولكنه قد غاب الكثير منها وانطوى بدثور المعالم، فهو يقول: إن العلوم التي وصلت إلينا هي أقل من العلوم التي لم تصل إلينا؛ فأين علوم الفرس، والكلدانيين، والبابليين، والأشوريين، والأقباط القدماء، فإنها كلها قد ذهبت. ولم يبق من العلوم التي وصلت إلينا سوى علوم اليونانيين التي انتهت إلينا بسبب اجتهاد الخليفة المأمون في ترجمتها وإنفاقه الأموال الطائلة عليها.
وقد عقب كارادوفو على كلام ابن خلدون هذا بقوله: إن فيه شيئا من المبالغة لأنه قد وصل إلى المسلمين أشياء، لا تنكر أهميتها من معارف الفرس، والهنود واليهود. ولكنه على كل حال كلام يدل على سعة علم ابن خلدون من جهة العلم بالمدنية البشرية.
ثم إن ابن خلدون يتكلم عن الاجتماع البشري فيقول: إن أساس الاجتماع الإنساني إنما هو ضعف الإنسان منفردا بنفسه، فانه إذا عاش وحده فلا يكون مليئا بالقيام كما يلزم له من أجل قوام معيشته، بل لو عاش وحده لما قدر أن يثبت في وجه حيوان واحد من الوحوش المفترسة. ثم إن الاجتماع يستلزم السلطان الذي هو في الحقيقة عبارة عن وازع يزع اعتداء الناس بعضهم على بعض، فلا بد فيما بينهم من سلطة متينة كافية لردع اعتداء المعتدين، فهذا في الأصل هو منشأ السلطان قال: وهذا غير محصور في الآدميين، بل هو يوجد في الحيوانات أيضا، فقد تحقق عند بعضها - مثل النحل والجراد، وغيرهما - وجود رئاسة عليا ينقاد إليها أفراد ذلك النوع، ويكون لصاحب تلك الرئاسة امتياز في الشكل أو بسطة خاصة في الجسم. والفرق بين الإنسان والحيوان هو أن الحيوان ينقاد إلى تلك الرئاسة بمجرد غريزة مركوزة في فطرته، وأن الإنسان ينقاد إلى هذه الرئاسة بناء على تفكر وروية.
وقد أطال ابن خلدون البحث في تأثير الأقاليم بطباع البشر، وأورد على ذلك الأمثال، واستخلص منها أن الأقاليم المعتدلة أحسن الأقاليم سكانا، بخلاف الإقليم الأول والثاني والسادس والسابع، فإن أهلها يسكنون في بيوت من القصب أو الطين وأكثر طعامهم من الذرة أو الحشائش، وهم في الغالب عراة الأجسام، وإذا اكتسوا فإنما يخصفون على أبدانهم من ورق الأشجار. فأما الأقاليم المتوسطة فأهلها عندهم مزية التعديل في الأمور واتخاذ الأليق من التدابير، والأليق من مظاهر الحياة. وعندهم العلوم والصناعات والأمر والنهي، والنظام والملك، وفيهم ظهر الأنبياء وتأسست الدول والممالك، وسنت القوانين، ووضعت العلوم، وتشيدت الأمصار وغرست المغارس، وحرثت المحارث، وتولدت الصناعات النفيسة، وترفهت المعيشة، وإنما الأمم التي تنسب إلى هذه الأقاليم هي العرب، والرومان، والفرس، والإسرائيليون، واليونان، والهند، والصين.
وقد أمعن ابن خلدون في البحث عن أسباب اختلاف المشارب والأذواق في البشر، فهو يتساءل لماذا الزنوج مثلا تغلب عليهم الخفة والطرب؟ وقد بحث عن ذلك من قبله المسعودي صاحب التاريخ المسمى «مروج الذهب» فقال: إن هذا يوجد عند الأمم التي يسهل عليها القوت، بعكس الأمم التي تضرب في المناطق الباردة التي لا يسهل فيها إيجاد الغذاء. وضرب ابن خلدون مثلا مدينة «فاس» فقال: إنها لكونها محاطة بالبلاد الباردة تجد الواحد من أهلها سائرا وهو مطرق رأسه في الأرض يظهر للناس أنه حزين، وذلك من شدة تفكره في العواقب، وقد يبلغ فيهم الاحتياط للمستقبل أنهم يخزنون الحنطة اللازمة لهم إلى مدة سنين، وهم مع ذلك يذهبون كل يوم إلى الأسواق لابتياع لوازم معيشتهم! ثم قال: إن لأنواع الأطعمة تأثيرات متنوعة في طباع البشر، فمن الأقوام من يعيشون في أرضين دارة بالخيرات، وتتوافر لديهم الآلات، فتكثر عندهم الحبوب والثمار، بينما غيرهم يقل عندهم هذا النوع من القوت فيكتفون لأجل معيشتهم بلحوم المواشي وألبانها، وتقل عندهم الأخلاط. قال: وإن قلة الأخلاط تزيد الناس بسطة في العلم والجسم، فأجساد هؤلاء الشعوب أنعم وأقوى، وأكثر تناسبا، وعقولهم أسمى وأسرع استنتاجا، وأذهانهم أشد لحظا وثقوبا.
فالقناعة عند ابن خلدون وشظف العيش هما من أحسن الفضائل التي يكمل بها الإنسان. وهذا الفيلسوف غالب عليه الافتتان بسذاجة المعيشة، وبرغم أنه كان مترفا متبحرا في العلوم، عارفا بقدر الصناعات، تراه يحمد دائما معيشة البداوة، ويراها أقرب إلى الطبيعة البشرية، وهو يقول: إن البداوة أصل، والحضارة فرع وإن الأمصار إنما عمرت بأهل البادية، وإن هؤلاء هم أحسن أخلاقا من أهل المدن لأنهم يحمون أنفسهم بأنفسهم. والحال أن أهل المدن ينغمسون في النعيم ويتركون لولاة المدن مهمة حماية أنفسهم وأموالهم، فالمدن والحواضر تعيش في ظلال حامياتها وأسوارها، بينما سكان البوادي يأنفون من السكنى وراء الأسوار، وتحت خفارة الجنود، ويرون أنفسهم أكفأ للقيام بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم، وهم دائما على حذر شديد لا يعرفون النوم إلا غرارا، لأنهم أبدا يلقون السمع حتى إذا سمعوا أقل نبأة هبوا مستعدين لمقابلة الخطر الواقع، وهكذا تصير فيهم هذه العادة طبيعة خامسة.
والذي يظهر من كلام ابن خلدون، أنه كان نزاعا إلى المجد، ميالا بطبيعته إلى الاستقلال وشمم الأنف، وهو يقول: إن الشعوب لا ينبغي أن تكون على العموم سلسة القياد، مسرعة إلى تأدية الضرائب للملوك، ويقول أيضا: إن القبائل التي ليس لها حظ من المدنية هي أقوم على فتح الفتوحات من غيرها، ولقد ساق الله تعالى بني إسرائيل إلى الصحراء وأخرهم في بادية التيه أربعين سنة حتى يعتادوا الاستقلال ويتمكنوا من فتح أرض الميعاد. وللدول عند ابن خلدون أعمار كأعمار البشر، فالدولة عنده تنشأ وتشب ثم تكتمل ثم تدخل في سن الشيخوخة - أي تهزم - ثم تأخذ بالتردي - أي أرذل العمر - وهو يعرض للدولة 120 سنة من نشأتها إلى انقراضها، وهنا قد قصر ابن خلدون كثيرا من آماد الدول. ثم يقول: عندما تنشأ الدول ينتقل الناس من البوادي إلى الحواضر، ويأخذون بعادات أهلها الذين يكونون تغلبوا عليهم؛ فلما تغلب العرب على فارس، وكانوا يجهلون مآخذ الحضارة ومنازعها، قيل إنهم وجدوا في مخازن كسرى أشياء لم يعرفوها، ووضعوا الكافور في العجين مكان الملح، ثم تعلموا دقائق المدنية شيئا فشيئا من الفرس، ولكن هذه الخشونة لا يطول في العادة أمرها، بل أولئك الذين كانوا من أبناء الصحراء تراهم ينقلبون من الخشونة إلى الترف، ولا يلبثون أن يتأنقوا في المأكل والمشرب، والملبس والمفرش، والمركب واتخاذ الآنية النفيسة، وامتهاد البسط الوثيرة، ولأجل إيجاد هذه الأسباب كلها لم يكن لهم بد من أنواع الصناعة، وإفنان الفنون، وكلما تعددت أسباب الترف تعددت الصناعات بقدرها.
قال: وإذا أدرك الهرم دولة من الدول بدأت سلطتها المركزية بالضعف، وأخذ حكام الأطراف بالتمرد عليها. والخروج عن طاعتها. وقال: إن تأسيس الدول سابق لتأسيس الحواضر، وذلك لأن بناء المدن يستلزم إيجاد الصناع، والعملة الذين لا مفر لهم من أن يفيئوا إلى ظل نظام ثابت. وهنا يتكلم ابن خلدون بكلام طويل على الصناعة والتجارة ويقول: إن تقدم الصناعة إنما يكون على نسبة استبحار العمران ويقول: إن الصناعات المبنية على الضرورات - كالخياطة والحدادة والنجارة... إلخ - تتيسر في كل مكان. ولكن الصناعات التي تتعلق بالترف لا توجد إلا في المدن التي قد زخر عمرانها، ففيها تجد الصاغة والزجاجين والعطارين والطباخين وما أشبه ذلك. وفى المدن وحدها توجد الحمامات التي هي من لوازم الترف ورفاهة المعيشة.
Unknown page
قال كارادوفو:
إننا لا نقدر أن نتابع ابن خلدون في جميع آرائه وتعليلاته العلمية للقضايا التي تلقف كرة البحث عنها، ولكنه على كل حال كان النظر إلى فلسفة هذه المبادئ ملازما لتحقيقاته، وفى الغالب كان على أثر سديد، وكانت له نظرات صائبة، وكثيرا ما يأتي في مباحثه بالأدلة المقنعة والشواهد على آرائه، وقد يستشهد بالكتب التي يستظهر بها ويسميها ويذكر أسماء العلماء الذين يتوكأ على أقوالهم. فمقدمة ابن خلدون تشتمل على مباحث قيمة في السياسة، والزراعة، والنجارة، والنساجة والخياطة، وفن البناء، والطب، والتوليد، وغيرها، وكذلك تبحث في الموسيقى والوراقة، والعلوم القرآنية، والعلوم العددية، والجبر، والهندسة، والفلك، والكيمياء والمنطق، والنحو، والبيان، إلخ. فهذا التنقيب الذي نقبه ابن خلدون عن تاريخ الاختراعات البشرية وأطوارها في جميع مناحي العمران يجعل عبد الرحمن بن خلدون الكاتب الأفريقي الذي عاش في القرن الرابع عشر ندا لأعظم فلاسفة أوروبا الحديثة. انتهى ملخصا.
ولنذكر الآن على وجه الإجمال من من الحكماء سبق ابن خلدون إلى هذه المباحث الاجتماعية، ولو لم يكن بلغ فيها شأوه فنقول:
إن القسم السياسي من فلسفة أفلاطون يمس جانبا من فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، وكذلك يمسها من جهة ثانية القسم القضائي الحافظ للمجتمع الإنساني الكافل لانسجامه. وهو يرى أن المدنية العادلة هي «عبارة عن مجموع منتظم مؤلف من عناصر مختلفة». وفى كتاب أفلاطون عن الحكومة الجمهورية كلام عن بداية الاجتماع البشري يقول فيه: إن المدنية إنما هي وليدة الحاجة، وهي في الحقيقة استنباط الوسائل اللازمة الكافلة للقيام بها. وإن هذه الوسائل لا تتهيأ إلا بتوزيع الأعمال، فمتى اجتمع عدة أشخاص كل واحد منهم قادر أن يقوم بعمل يحتاج إليه الآخرون فهذه هي المدنية، وكلما اختص الواحد منهم بشيء كان عمله له أكثر تجويدا لما يكون سبق من مرانه له، إذ المدنية ليست مجتمع أشخاص متماثلين متساوين في كل شيء؛ بل هي بالعكس مجمع أشخاص غير متشابهين ولا سوآسيا. والوظائف تزداد صعوبة كلما اتسعت رقعة المدنية وازدادت حوائجها، فبجانب الزارع مثلا يأتي المتخصص بعمل السكك الزراعية، وبجانب أصحاب المحاصيل تأتي الطبقة القائمة بالأخذ والعطاء في البر والبحر. وهذا إتقان للعمل وإكمال له، ولكن المبدأ الأصلي واحد. ثم إن هذه المهن تتميز بعضها عن بعض بسعة المجتمع ويصير أصحابها طبقات متفاوتة؛ فطبقة الصناع تشتغل بسد الحاجات المادية، وطبقة العساكر تشتغل بالدفاع عن المدينة إذا اعتدى عليها جيرانها، وطبقة الحراس أو الحفظة تهيمن على إجراء القوانين، فهذه الطبقات الثلاث أي المشتغلون والجند وحفظة القوانين هم أساس كل مدنية.
ويقول أفلاطون:
إنه لا يجوز استغلال مدنية لفائدة شخص واحد، وإن المقصد من بناء المدينة ليس ترفيه فرد أو طبقة، وإنما هو إسعاد المدينة بأجمعها، فكل فرد من سكانها عليه واجب يقوم به، فإذا قام به فهذا هو العدل. ومن رأي أفلاطون أن احتياجات المجتمع المنظم يجب أن ينظر فيها إلى طبيعة الخلق إذ مهما كان الثقاف ذا تأثير فإن الأصل هو فطرة المخلوق وذلك كحب الكسب عند الصانع، وعلو الهمة عند الجندي، والحكمة والروية عند الحاكم.
ولأفلاطون مذهب آخر وهو: أن أقسام الغرائز في البشر هي تحت تأثير البيئات التي يعيشون بها، فالعلوم الحسابية التي تدرج بعض الناس إلى الفلسفة هي عند بعض الشعوب كالمصريين والفينيقيين وغيرهم زيادة في التحيل لا في العلم (كذا) ولا نرى في هذا الرأي إلا تعسفا.
ويوصي أفلاطون كثيرا باختيار ذوي الغرائز الممتازة كحب الحقيقة، وسهولة الفهم، وتغلب العقل على الهوى، وشرف النفس، والإقدام، وحسن الذاكرة إلخ.
ومن وصاياه تنظيم أعمال الوطنيين بحيث يقلد كل منهم ما هو أهل له فيجوده ويحصر حركته في هذا العمل ولا يتجاوزه إلى غيره. وإذا تأمل القارئ في عقلية أفلاطون الاجتماعية وجدها داخلة في علم النفس، وفى علم الأخلاق، فهو يذكر الأحوال لا على ما تكون عليه في الغالب، بل على ما يجب أن تكون عليه.
فالأساس عند أفلاطون هو أدبي محض، وهو قائم بتطبيق وظائف الاجتماع على القابليات الطبيعية في البشر حتى يأتي العمل أجود ما يمكن، إلا أن أفلاطون يعتقد بأنه لا بد من اختلال النظام شيئا فشيئا، وعند ذلك فلا مفر من التردي، ويدخل أفلاطون حينئذ في شرح كيفية الانحطاط وما ينشأ عن فساد النظام من فساد الأخلاق مما لا يلزم أن نستوفيه هنا، لأننا لم نقصد إلا إجمالا. وإنما نذكر شيئا ذا بال من فلسفته الاجتماعية، وهو ذهابه إلى أفضل حاجز للمدنية عن التردي، وأحسن وسيلة لانتظام جهود المصالح، إنما هو تسليم زمام أمورها إلى الحكماء، وهو على حد ما قال بعضهم: لا تبلغ المدنية السعادة إلا إذا كان الفيلسوف ملكا، أو الملك فيلسوفا.
Unknown page
ومن رأي أفلاطون أن كل صفة بشرية قابلة للتغيير بحسب البيئات والطوارئ. وإن السياسة بنوع خاص لا تنضبط تحت قواعد يجب العمل بها في كل زمان ومكان. ويترتب على رأي أفلاطون هذا أن رجل الدولة يكون أحيانا فوق القواعد والأوضاع.
وأما أرسطو فعنده تفسرة المدنية أنها مجمع منازل وعائلات تتوخى في معيشتها السعادة والاستقلال. وهو يخالف أفلاطون في حصره المدنية بتوزيع الأعمال ومجرد المبادلة، ويقول: إن الاجتماع لم يكن للحياة المجردة، بل للحياة المرفهة، وإن علم السياسة هو العلم الباحث عن الأسباب والشروط الكافلة للوصول إلى هذه الغاية، وهو يأتي بمباحث تاريخية عن كيفية تولد المدن والمدنيات. ومن رأيه أن الاستقلال الزراعي هو شرط في صحة الأخلاق، وأنه كلما استقلت مملكة عن غيرها في احتياجاتها المعاشية استقلت في أمورها السياسية والعكس بالعكس، وكلما كثر أخذ المملكة وعطاؤها مع الخارج ضعف استقلالها السياسي وتعرضت للحروب، وهي حقيقة قد انطبخت حتى احترقت، وقضية قد ابتقرت حتى انفاقت، فالأمة التي ليس لها استقلال اقتصادي هيهات أن يتم لها استقلال سياسي.
ومما يذهب إليه أرسطو أن الرق أمر طبيعي لا ينبغي التعجب منه، وأن الطبيعة في قسمتها البشر إلى طبقتين سادة وأرقاء ليست ظالمة ولا مستبدة. قال أرسطو: وإنه يوجد في آسيا في الأقاليم الحارة أقوام ذوو ذكاء وسرعة خاطر، لكنهم مجردون من العزم، لذلك هم مخلوقون ليكونوا أرقاء! وقال: إن مناخ يونان المعتدل هو المناخ الوحيد الذي يمكنه أن يولد سلائل جامعة بين الذكاء والعزم، فاليونانيون أحرار بحسب الفطرة قبل التربية.
ولقد بالغ أرسطو في ذلك أشد المبالغة ورأى الناس في رأيه هذا مجرد تسويغ وتصويب لفتوحات صاحبة الإسكندر في الشرق.
أما اعتدال أمزجة اليونانيين باعتدال إقليم يونان فلا نزاع فيه، ولهذا كثر فيهم الحكماء، وغلبت عليهم العلوم، وهذا شبيه بما يقوله ابن خلدون عن تأثير اختلاف الأقاليم وهو:
الإقليم الرابع أعدل العمران، والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب للاعتدال، والذي يليهما الثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال، والأول والسابع أبعد بكثير، فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه، بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا، حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها. ولما تقف على خبر بعثة في الأقاليم الباردة الشمالية ولا الجنوبية التي فيها الحر الزائد، وذلك لأن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وخلقهم ا.ه.
هذا وإن أرسطو يرى للأسرة غاية أبعد وأسمى من الغاية الاقتصادية، وهي أنه لا بد لكل عائلة من رأس، وأن هذا الرأس هو الرجل الذي يدبر النفوس القاصرة أي نفوس النساء والأولاد. ومعنى النفوس القاصرة ليس أنها نفوس أرقاء، بل معناه أنها نفوس ضعاف محتاجة إلى المعاونة. ولهذا كانت سلطة رئيس العائلة غير مطلقة على المرأة، بل كان حكمه عليها حكم الوالي على رعيته، وفى العائلة متوافرة جميع الشروط اللازمة لتأليف المدنية.
ثم إن أرسطو لا يعد في الوطنيين الأحرار طبقة الصناع والأكرة، بل يقول إن أعمال هؤلاء خسيسة وليس عندهم من الوقت متسع لممارسة الفضيلة، وللاشتغال بسياسة المجتمع. وهذا القول مردود من جهة شقه الأول، وهو ممارسة الفضيلة التي تكون عند الصناع والزراع كما تكون عند غيرهم. ولكنه مقبول من جهة شقه الثاني وهو الاشتغال بسياسة المجتمع، فإن هذه الطبقات قلما تشتغل بها.
وتعريف أرسطو للديمقراطية هو هذا: إنها توجد حيث يكون الرجالات الأحرار الفقراء هم القابضين على أزمة الأمور، وإنها حيث توجد توأمين الحرية والمساواة. قال: وعكسها حكم الأصلاء والأغنياء. وقال: إن الفروق الكبيرة في الثروة تؤدي إلى الحكم المطلق المنحصر في بعض البيوتات، وإن الغاية المقصودة من بناء المدينة هي تأمين سعادة السكان وتمكينهم من ممارسة الفضائل، والتحلي بمكارم الأخلاق وذلك لا يكون إلا بخضوع الجميع للقوانين. وهذه القوانين لا تنفذ جيدا إلا ببعض شروط اقتصادية لا مناص منها مما يعود بترفيه الطبقات الوسطى التي لا تقدر أن تعيش إلا من كسب أيديها، فهي بطبيعة الحال تحافظ على حسن سير القوانين، ولا نقصد الاجتماعات الشعبية إلا عند الضرورة. أما إذا وجد في المجتمع من يستغني عن العمل ومن يعيش من رأس مال راتب لديه، فإن الديموقراطية تضعف في مجتمع كهذا وتقوم حينئذ الأصوات والانتخابات مقام القوانين.
ولقد تكلم أبو نصر محمد بن محمد بن نصر الفارابي في مبادئ العمران أيضا وأجاد وأفاد ونقل كارادوفو أكثر نظرياته السديدة في المدنية. ولننقل هنا ما ذكره عنه القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي المتوفي بعد زمن الفارابي بقرن واحد قال:
Unknown page
أبو نصر محمد بن محمد بن نصر الفارابي فيلسوف المسلمين بالحقيقة أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن جيلاني المتوفي بمدينة السلام في أيام المقتدر، فبذ جميع أهل الإسلام فيها، وأتى عليهم في التحقق بها، فشرح غامضها، وكشف سرها وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبهة على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل، وأنحاء التعليم وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمس، وأفاد وجود الانتفاع بها، وعرف طرق استعمالها، وكيف تصرف صورة القياس في كل مادة منها، فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية، والنهاية الفاضلة. ثم له بعد هذا كتاب شريف في إحصاء العلوم
1
والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به وتقديم النظر فيه. وله كتاب في أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطاطاليس
2
يشهد له بالبراعة في صناعة الفلسفة، والتحقق بفنون الحكمة، وهو أكبر عون على تعلم طريق النظر، وتعرف وجه الطلب. اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علما علما، وبين كيفية التدرج من بعضها إلى بعض شيئا شيئا (إلى أن يقول): ثم له بعد هذا في العلم الإلهي والعلم المدني كتابان لا نظير لهما، أحدهما المعروف ب«السياسة المدنية» والآخر المعروف ب«السيرة الفاضلة»
3
عرف فيهما بجمل عظيمة من العلم الإلهي على مذهب أرسطالطاليس في مبادئ السنة الروحية، وكيف تؤخذ عنها الجواهر الجسمانية على ما هي عليه من النظام واتصال الحكمة، وعرف فيها بمراتب الإنسان وقواه النفسانية، وفرق بين الوحى والفلسفة، ووصف أصناف المدن الفاضلة وغير الفاضلة واحتياج المدنية إلى السير الملوكية، والنواميس النبوية. انتهى. ولكن ليس من هؤلاء واحد لا أفلاطون ولا أرسطو ولا الفارابي يعد واضعا لعلم فلسفة التاريخ الذي هو حق ولي الدين أبى زيد عبد الرحمن بن خلدون مفخرة المغرب بل مفخرة الإسلام كله.
ولقد كان لمحرر هذه السطور من أول ما بلغت سن الحلم ولوع خاص بمقدمة هذا العبقرى العظيم، إلى أني كنت أطالعها المرة بعد المرة، وفى كل مرة أجد لها طلاوة لا تمثل، وأكشف فيها أسرارا جديدة لم تكن انكشفت لى في الأول، وأشرف منها على آراء طريفة، ومباحث لطيفة، كنت أحاول عبثا العثور عليها في غير هذه المقدمة التي لا تخلق ديباجتها ولا تذهب بهجتها. وكأني استبرأت بطول الزمن الكتب العربية المعروفة فكنت أرجع في النهاية إلى مقدمة ابن خلدون، ولا أجد أمنيتي إلا فيها، ولا أزال أستوري زنادا لا يلمع إلا من خلال ذلك الخاطر، وأستسقي غيثا لا يمطره غير ذلك العارض، ولم يكن إعجابي بما في كلام ابن خلدون من مبادئ سامية، وأقوال سديدة، وأنظار فريدة، يعز وجودها في كتب غيره من أساطين الحكمة، بأقل من إعجابي ببلاغة عبارته، ورصانة أسلوبه، وجلالة تقريره، حتى كأنه يخطب من فوق منبر، ويصول في المواضيع صولة غضنفر، فينزل بيانه من نفوس الأدباء -
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه - المنزلة التي لا تعلوها منازل الأقمار، في أعين السمار، فلو قرأ المتأدب مقدمة ابن خلدون متوخيا فيها مجرد الانطباع على أسلوبها في الإنشاء العربي دون أن ينظر إلى ما فيها من فلسفة عالية، وتحقيقات سنية، وعلوم جمة ملخصة، وحقائق ناصعة من أوضاع الوجود مستخلصة، لكانت مقدمة ابن خلدون تكفيه عمدة في فن الأدب، وتغنيه عن غيرها من نفائس ما كتب العرب ، ولعل عشقي أسلوب هذا الإمام في كتابة التاريخ، وغرامي بطريقته في تعليل النوازل، وتقرير طبائع العمران، قد ترك أثرا في ملكتي بلغ من العمق أنه قلما كان يفارقني في طرق التعبير عن أفكاري والإفضاء بجلاجل نفسي، وخوانس صدري، إلى أن إماما مثل السيد رشيد رضا رحمه الله حكم في المنار منذ خمس عشرة سنة بأن أسلوب كاتب هذه الأسطر كثير الشبه بأسلوب ابن خلدون. أقول هذا وإن كان المتشبه لا ينبغي أن يعطي جميع حكم المشبه به، وكان مثلنا لا يجهل مكانه من ذلك المدى المتطاول. ولقد أولعت بهذه المقدمة شابا وكهلا وشيخا، وبقيت أنظر إليها نظرة المشتاق لا تخمد السنون من جذوة غرامي بمحاسنها، ولكني لم أكن مطالعا من التاريخ الكبير إلا لمحات يسيره، وربما طالعت من كامل ابن الاثير أكثر مما طالعت من تاريخ ابن خلدون بكثير، فما زال يحز في صدري أن أقرأ هذا التاريخ قراءة مدقق وأعقد آخره بأوله مستوثق، وعدواء الأشغال تعدو عن هذه الأمنية، وتحول بيني وبين هذا الغرض الملح، والوجد المبرح، إلى أن جاءني في السنة الماضية من فاس المحروسة حاضرة المغرب أن الكتبي النبيه الساعي في نشر العلم بما أوتي من جودة الفهم «الحاج محمد المهدي الحبابي» أخذ الله بيده، عزم أن يطبع تاريخ ابن خلدون طبعة جديدة رائقة مستوفية شروط التنقيح مطرزة بالحواشي القيمة اللائقة بمثل ذلك التاريخ العظيم، مستجيدا لهذا الغرض من أدباء شباب المغرب فرقدين يقصر الشيوخ القرح عن مداهما البعيد، وتكاد فحول العلماء لا تحشر معهما في صعيد، أعني كلا من المحققين الكاملين، والجهبذين الحافلين، السيدين محمد علال الفاسي الفهري، وعبد العزيز بن إدريس، زين الله بمثلهما مواسم الأدب وأمطر بغيث أقلامها مربع العربية إذا جدب، فتلقيت من هذا الخبر بشرى أثلجت الصدر، وصرت أترقب طلوع هذا الفجر بذاهب البصر، وبين أنا كذلك إذا بصاحب هذه الفكرة هو نفسه يريدني أن أعلق أنا أيضا على هذا التاريخ حواشي بما يعن لي من آراء وأنحاء متصلة بمواضيعه أخالف فيها المؤلف أو أوافقه. وأفارقه في وجهة النظر أو أرافقه، وأبدي من النظريات العصرية في علم الاجتماع ما تتم به فوائد هذا الكتاب وتتجلى حقائقه.
وقد صادف مجيء هذا الاقتراح أنء كنت من «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية» في شغل شاغل عما سواها أكاد أنوء بها وحدها فضلا عن أن أتعداها، فاعتذرت عن خوض هذا البحر العجاج وقلت: من ذا الذي يجري مع ابن خلدون إذا أقر أنمله على مهرق، وقد خاب من يساجل البحر الخضم، ومن يزحم البحر يغرق. فما زال بي إبرام الإخوان وإصرارهم، وإيرادهم في هذه الحاجة وإصدارهم حتى رضيت برغم ما أنا عليه من كثرة الشواغل أن أعلق بعض الحواشي على بعض المظان، مجتزئا من البحث بالمختصر المفيد، ومكتفيا من القلادة بما أحاط بالجيد، ولما كان قد ورد في متن المؤلف ذكر الأمم الكبار، ومن جملتها أمة الترك علقت تحت هذه اللفظة خلاصة صافية في نسب هذه الأمة وأولوياتها ومصايرها، ثم لما كان لا بد في هذا النسب من الانتهاء إلى تاريخ بني عثمان الذين تحملوا أعباء الخلافة الإسلامية ردحا من الدهر، دخلت في هذا البحث وأنا على نية إجماله ما استطعت إلى الإجمال سبيلا، فإذا بي مهما سلكت الطرق القاصدة لا أقدر أن أتخلص من هذا التاريخ إلا في مجلد كبير، وكيف لا يكون ذلك وهناك دولة طويلة عريضة كانت من أعظم دول الأرض، وشجت عروقها، وامتدت شماريخها، من حدود المغرب الأقصى غربا إلى بحر الخزر شرقا، ومن أواسط أفريقيا جنوبا، إلى ألمانيا وبولونيا شمالا، فكانت أيامها ملأى بالحوادث الكبار، شاغلة ما بين دفتي الليل والنهار، فمضيت فيه متوكلا على الله من أول تأسيس هذه الدولة إلى بداية الحرب العالمية متوخيا في الوصف الحد المتوسط، متجانفا عن خطتي المفرط والمفرط، ولا أظن كتابا قد وضع في العربية عن الدولة العثمانية على غرار هذا الكتاب، لاسيما في العصر الحاضر. فأما القسم المتعلق من تاريخ هذه الدولة بالحرب الكبرى فقد أرجأته إلى فرصة أخرى، ربما أكون عرفت ما يجب أن أملكه في هذا الموضوع من المواد، وأسلكه من الجواد، والله أسأل العون والتيسير، إنه تعالى من وراء السداد.
Unknown page
الصقالبة
تعليق على ما جاء بسطر 15 صفحة 1 جزء أول من ابن خلدون
الصقالبة هم الأمة التي يقال لها السلاف، وهو أمة عظيمة من الأمم التي يقال لها هناك «الفند» أو «الفنيد» “wendes ou wenedes”
واستقر آخرون على شواطئ البحر الأسود وضفاف الطونة، ويقال لهؤلاء «يازبج
Jazyges » و«باستارن
Bastarnes » و«روكسولان
Roxolans » وأول من سماهم السلاف «جورناندس» المؤرخ القوطي، ومعنى السلاف الشرفاء، وقد انتهى هذا المعنى بأن يفهم منه الأمم المستبعدة، وانقلب عن معناه الأصلي فجاء من لفظة «السلاف» “Slaves”
لفظة «إسكلاف» “Esclaves”
ومعناها عبد. وأيام زحفة البرابرة الكبرى على الدولة الرومانية كان السلاف ينقسمون إلى سلاف غربيين وهم التشيك الذين سكنوا بوهيميا، والبوليز الذين سكنوا بولونيا، واليتون أهل ليتوانيا، والموراف أهل مورافيا، والسوارب أهل بوميرانيا وبراندبورج، والسلاف الشماليون: وهم الذين منهم الشعب الروسي، والسلاف الجنوبيون: وهم الذين عبروا الطونة وسكنوا على شطوط بحر الأدرياتيك، وهم البشناق، والصرب، والحزوات، والاسكلافون.
وأول ما عرف العرب هذه اللفظة كان بسبب مجاورتهم للدولة البيزنطية وكانت كثيرا ما تمد سلطانها على السلاف الجنوبيين، ولما كان العرب لا يوجد عندهم حرف الفاء الفارسية، وكانوا يقلبونها باء، فلفظوا الاسكلافون أصقلابون ومنها جاءت لفظة صقلبي وصقالبة. ولما كانوا في القرون الوسطى يسترقون منهم فقد صار الصقلبي بمعنى رقيق كما هو في اللغات الإفرنجية. وقد جاء في اللسان العربي أن الصقلاب هو الرجل الأبيض، وقيل هو الرجل الأحمر، وإنه قيل له صقلاب على التشبيه بألوان الصقالبة كما في معجم البلدان، وقال المتنبي في وصف حرب بين سيف الدولة وملك الروم:
Unknown page
يجمع الروم والصقالب والبل
غار فيها وتجمع الآجالا
فمن هنا يعلم أن الصقالبة والبلغار مثل اليونان كانوا يخضعون لملك الروم، وأن العرب القدماء لم يكونوا يقولون «سلاف» بل صقالبة للجميع، سموا الجميع باسم البعض الذين كانوا على شطوط الإدرياتيك، والآن الصقالبة هم الروس، والأوكرانيون والروتينيون، والروس البيض، ويقال لهم صقالبة الشرق. وقسم من البلغار، وجميع الصرب، والحزوات، والبوشناق، والسلوفين، ويقال لهم صقالبة الجنوب والبولونيون، والفنيد، والسلوفاك، والتشيك ويقال لهم صقالبة الغرب، وأكثر الصقالبة تابعون للكنيسة الشرقية، ماعدا البولونيين والتشيك والسلوفين والحزوات فإنهم كاثوليكيون، ومن الصقالبة مسلمون وهم البشناق.
إغريقية هي ما يسميه الأوروبيون «إغريق» والفرنسيس يقولون «غريس» والألمان يقولون «غريش». وهي تطلق على البلاد الممتدة من شبه جزيرة البلقان إلى الجنوب بين بحري إيجه والإدرياتيك، فهي شبه جزيرة صغيرة ناتئة عن شبه جزيرة كبيرة. والقسم الشمالي منها يقال له تساليا والقسم الجنوبي يقال له بيلوبونيز. ومن جملة أقسامها البلاد المسماة إبير، وبيوسية، وايونية، وأتيكيا، على جانب البحر. ولمجاورة أيونية والاتيك للبحر كانتا أول البلاد اليونانية التي تلقت المدنية من الشرق، فإن الشرق هو أصل مدنية اليونان، ومن لفظة يونية جاءت لفظة يونان التي عمت الجمع فيما بعد في عرف العرب.
ويقال لليونان الهيلانيون أيضا، ولا يوجد أعرق في الظلمة من تاريخ أوائل اليونان، إلا أن المؤرخين بحسب ما عثروا عليه من الآثار يؤكدون أن اليونانيين هم من أصل آري، وأول اسم عرف من أسماء الأولين من سكان هذه البلاد هو اسم «البيلاجيين» “Pelasges”
ثم عرفت أسماء «الليلجيين» “Leleges” «والكاريين» “Cariens”
ثم «الآشيين
Acheens » ثم «الدوربيين
Doriens ».
الأنساب
Unknown page
تعليق على ما جاء بسطر 7 صفحة 2 جزء أول من ابن خلدون
إن علم الأنساب هو العلم الذي يبحث في تناسل القبائل والبطون من الشعوب وتسلسل الأبناء من الآباء والجدود، وتفرع الغصون من الأصول في الشجرة البشرية بحيث يعرف الخلف عن أي سلف انحدر، والفرع عن أي أصل صدر، وفى هذا العلم من الفوائد النظرية والعملية، بل من الضرورات الشرعية والاجتماعية والأدبية والمادية، ما لا يحصى، فليس علم الأنساب بطراز مجالس يعلمه الناس لمجرد الاستطراف أو للدلالة على سعة العلم، وإنما هو علم نظري عملي معا. عملي لأنه ضروري لأجل إثبات المواريث التي يتوقف توفيرها لأهلها على ثبوت درجة قرابة الوارث من المورث، وهذا لا يكون إلا بمعرفة النسب.
وكذلك هو ضروري لأجل الدول الراقية المهذبة التي تريد أن تعرف أصول الشعوب التي اشتملت عليها ممالكها، والخصائص التي عرف بها كل من هذه الشعوب بما يكون أعون لها على تهذيبها وحسن إدارتها، فكما أن العالم المتمدن يعنى بتدريس جغرافية البلدان من جهة أسماء البلاد ومواقعها وحاصلاتها وعدد سكانها ومقدار جباياتها، فإنه يجب أن يعنى بمعرفة أنساب أولئك السكان وطبائعهم وعاداتهم وميزة كل جماعة منهم، وغير ذلك من المعارف التي لا يجوز أن تخلو منها هيئة بشرية راقية، ولما كان من الحقائق العلمية الثابتة المقررة عند الأطباء والحكماء، كما هي مقررة عند الأدباء والشعراء، أن الأخلاق والميول والنزعات المختلفة تتوارث كما تتوارث الأمراض والأعراض الصحية، والدماء الجارية في العروق، فقد كان لا بد من معرفة الأنساب حتى يسعى كل فريق في إصلاح نوعه بطريق الترقية والتهذيب ضمن دائرته الدموية بحسب استعدادها الفطري، لأن الاجتهاد في تنمية القرائح الطبيعية والمواهب المدنية لا يمكن أن يثمر ثمره في قبيل إذا جاء معاكسا لاستعداده الفطري وهذه الاستعدادات أحسن دليل عليها هو علم الأنساب.
وليس هذا العلم منحصرا في العرب - كما يتوهم بعضهم ويظنون أن سائر الأمم قليلة الاحتفال به - فإن الأمة الصينية الكبرى هي أشد الأمم قياما على حفظ الأنساب، حتى إنهم ليكتبون أسماء الآباء والجدود في هياكلهم، فيعرف الإنسان أصوله إلى ألف سنة فأكثر. وقد تناهوا في الاعتناء بهذا الأمر إلى أن قدسوا آباءهم وجدودهم، وعبدوهم كما يعبدون آلهتهم. وكذلك الإفرنج كانت لهم عناية تامة بالأنساب في القرون الوسطى والأخيرة، وكانت في دولهم دوائر خاصة لأجل تقييدها وضبطها، ووصل آخرها بأولها، وقد بقي ذلك معمولا به إلى أن ساد الحكم الديموقراطي في أوروبا فضعف عندهم الاعتناء بهذا الأمر بإلغاء الامتيازات التي كان يتمتع بها النبلاء، وكانوا يدققون في الأنساب من أجلها، وبقي الاهتمام بالأنساب من الجهة العلمية لا العملية.
فأما العرب فلا شك في أنهم في مقدمة الأمم التي تحفظ أنسابها، وتتجنب التخليط بينها، فلا تجعل الأصيل هجينا، ولا الهجين أصيلا، ولا تحتقر قضية الكفاءة في الزواج، بل تعض عليها بالنواجذ. ولا يقيم العربي وزنا لشيء بقدر ما يقيم للنسب لا سيما في البوادي التي اقتضت طبيعة استقلال بعضها عن بعض، وتنافسها الدائم فيما بينها؛ أن كل قبيلة فيها تعرف نفسها، وتحصي أفرادها، وتحفظ بطونها وأفخاذها حتى تكون يدا واحدة في وجه من يعاديها من سائر القبائل، فاقتضى ذلك أن يكون العرب علماء بأنسابهم، يحفظون سلاسلهم العائلية بصورة مدهشة لا تجدها عند غيرهم، فتجد البدوي أحيانا يجهل أقرب الأمور إليه، ولكنه إذا سألته عن أبيه وجده ومنتسبه فإنه يسرد لك عشرين اسما ولا يتتعتع.
وأما في الحواضر فليس الأمر بهذه الدرجة من الضبط، وذلك لعدم الاحتياج الذي عليه البوادي من هذه الجهة، فإن الحواضر مشغولة بصناعاتها ومهنها ومتاجرها ومكفولة بالسلطان الذي يغنيها عن تماسك الفصيلة أو القبيلة، وعن اعتناء كل فريق بجمع أفراده ليقف في وجه عدوه. وكلما استبحر العمران في مصر من الأمصار قل الاعتناء بالأنساب، وصار الناس ينسبون إلى حرفهم ومهنهم، أو إلى البلاد التي جاءوا منها. وكلما قرب المجتمع من حال البداوة اشتدت العناية بالأنساب، واستفحلت العصبيات التي هي من طبيعة الاعتناء بالنسب. وقولنا إن البوادي أشد من الحواضر عناية بهذا الأمر لا يعني أن الحواضر العربية لا تقيم للأنساب وزنا، فالعرب غالب عليهم الاحتفال بالنسب حاضرهم وباديهم، وأبناء البيوتات منهم، ولو كانوا في أشد الحواضر استبحار عمارة يحفظون أنسابهم ويقيدونها في السجلات، وكثيرا ما يصدقونها لدى القضاة بشهادات العلماء الأعلام والعدول، ويسجلونها في المحاكم الشرعية. وإذا كانوا من آل البيت النبوي - وهو أشرف الأنساب بالنظر إلى اتصالهم بفاطمة الزهراء التي هي بضعة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وهو أشرف الخلق - حرروا أنسابهم لدى نقباء الأشراف، وكتبوا به الكتب المؤلفة، وهذا أمر بديهي لا نزاع فيه، لأن هذا الشرف هو مما يتنافس به، ومما يستجلب لصاحبه مزايا معنوية، وأحيانا منافع مادية، فلا يريد منتسب إلى هذا البيت الشريف أن يفقد الدليل على نسبته هذه. ولئن كان البيت النبوي هو أشرف الأنساب بالسبب الذي تقدم الكلام عليه فليس سائر بيوتات العرب من ذراري الملوك والأمراء ، والأئمة والعلماء والأولياء بأقل حرصا على حفظ أنسابهم من آل البيت الفاطمي. وجميع قريش مثلا سواء كانوا من الطالبيين أو من غيرهم يفتخرون بنسبهم القرشي، وكذلك ذراري الأنصار من الأوس والخزرج يفتخرون بأنسابهم القحطانية، وكذلك سلائل الملوك من لخم وغسان، وأمثالهم من العرب القحطانية ليسوا بأقل حرصا على حفظ أنسابهم من تلك البطون العدنانية الشريفة. والعرب بالإجمال سائرون في النسب على مقتضى قوله تعالى
كل حزب بما لديهم فرحون
فكل قبيلة راضية بنسبها، تحفظ مآثر قومها، وتعتز بالاعتزاء إلى سلفها، مع أن القبيلة الثانية التي تنافسها تحفظ لها عورات ومعرات تعتبرها بها عند المفاخرة والمنافرة.
ولشدة اعتنائهم بالأنساب تجد انتصار بعضهم لبعض على نسبة درجة القرابة، فكلما كانت القبيلة أقرب كانت أولى بنصرها، لا يتخلف ذلك فيهم إلا لعوامل غير معتادة. ومهما اشتدت العداوة بين أبناء فخذ واحد فإنهم يجتمعون بطنا واحدا على بطن آخر يناوئهم من قبيلتهم، وكذلك تجتمع البطون المنتسبة إلى عمارة لمقاومة عمارة أخرى، وهلم جرا. ولا بد أن ينزع عرق النسب في العربي فيميل به إلى الأقرب مهما كان هذا الأقرب بعيدا في الحقيقة؛ فالقحطاني ينتسب إلى شعب طويل عريض يحصى بالملايين، والعدناني ينتسب إلى شعب لا يقل عنه في العدد والمدد، ولكن إذا اختصما في موقف من المواقف وجدت عرق العصبية نزع في كل عربي، فمال القحطاني إلى قبائل اليمن، ومال العدناني إلى قبائل الحجاز ونجد، أي مضر وربيعة. وقد يؤاخي الفريق منهم من كان يعاديه بغضا بفريق آخر أشد عداوة لأنه أبعد نسبا، وعليه قول شاعرهم:
Unknown page
وذوي ضباب مضمرين عداوة
قرحى القلوب معاودي الأفناد
ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم
وهمو إذا ذكر الصديق أعادي
كيما أعدهمو لأبعد منهم
ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد
ومن أجل هذا التدقيق في قرب النسب وبعده، وترتيب الصداقة والعداوة على درجات هذا القرب وهذا البعد، انقسم العرب إلى ذينك الشعبين الكبيرين: عدنان، وقحطان، وغلب على قحطان اسم اليمن، لأن أكثر منازل العرب القحطانية هي في اليمن، ومن وجد منهم خارجا عن اليمن كالأوس والخزرج في المدينة، وكطي وغيرها في نجد مثلا، فإنما خرجوا بعد أن انهدم سد مأرب، وتفرقت القبائل في البلدان.
وأشهر القحطانيين حمير. ومنهم قضاعة، ومن قضاعة بلى. ومنهم الآن في شمالي الحجاز، وجهينة. ومنهم على سواحل الحجاز يبلغون 100 الف نسمة، وكلب وهم في بادية الشام، ويقال لهم اليوم الشرارات، وعذرة المشهورون بالعشق، ولهم بقايا بمصر وبقايا بالشام، وبهراء ومنهم ما بين بلاد الحبشة وصعيد مصر، ونهد، وجرم، وتنوخ وهؤلاء كانوا في شمالي بلاد الشام.
ومن القحطانية كهلان. ومنهم الأزد، ومن الأزد غسان وكانوا بالشام، وكان منهم نصارى، ولذلك تجد كثيرين من نصارى سورية ينتسبون إلى غسان - أو يحبون أن ينتسبوا إلى غسان - ومنهم الأوس والخزرج في المدينة المنورة، وقد تفرقوا في البلاد ولا يكاد يوجد منهم أحد في المدينة في هذه الأيام. ومن كهلان طيئ وهم من أكبر القبائل، ويقال لهم اليوم شمر، وبحتر الذين منهم البحتري الشاعر، وزبيد بضم أوله ففتح فسكون، وكثير من قبائل الشام هم من زبيد، وسنبس، وجرم ومنهم في بلاد غزة ومصر. وثعلبة. ومنهم كثير في الديار المصرية. وغزية. ومنهم بطون في العراق وفى الشام والحجاز. وبنو لام، وهم بالعراق ومنهم الظفير.
ومن كهلان مذحج، ومن هؤلاء خولان، وجنب، وسعد العشيرة، ومن سعد العشيرة بنو جعفي بضم فسكون والنسبة إليهم جعفي على مثل لفظه، وكان المتنبي الشاعر جعفيا. ومن سعد العشيرة قبيلة يقال لها أيضا زبيد بضم ففتح فسكون، وهم زبيد الحجاز الذين ينتسب إليهم عمرو بن معد يكرب. ومن كهلان النخع. ومنهم الأشتر النخعي عامل الإمام علي رضى الله عنه على مصر. ومنهم عنس، الذين منهم عمار بن ياسر رضى الله عنه. ومنهم الأسود العنسي الكذاب. ومنهم بنو الحارث الذين يسكنون في الجنوب الشرقى من الطائف، ومن كهلان همدان ولا يزال منهم في اليمن جموع غفيرة، فضلا عمن تفرقوا في البلاد. ومنهم الهمداني صاحب كتاب «الكليل» وكتاب «صفة جزيرة العرب» ومن كهلان كندة، وكان لهم ملك ومنهم امرؤ القيس الكندي الشاعر، وأبو إسحاق يعقوب الكندي فيلسوف العرب. وهم متفرقون في البلاد فمنهم أناس في اليمن، وآخرون في الشام. ومنهم قوم يقال لهم السكون وآخرون يقال لهم السكاسك، جاء في صبح الأعشى: أن النسبة إلى السكاسك سكسكي، ردا له إلى أصله، وهذا صحيح. وقبلي صيدا في سواحل سورية مكان يقال له السكسكية.
Unknown page
ومن كهلان مراد الذين منهم قاتل سيدنا علي بن أبى طالب. وأنمار، ومن أنمار تتفرع بطون كثيرة مثل بجيلة، وخثعم، وهم متفرقون في البلاد. ومن كهلان جذام، وقيل إنهم من العدنانية، ولكنهم انتقلوا إلى اليمن. وكثير من أعقاب جذام في الديار المصرية في الصعيد، وفى الشرقية، والدقهلية. ومنهم بنو صخر في الشام، ومن كهلان لخم، وكان منهم ملوك الحيرة من بلاد العراق، وكان منهم بنو عباد ملوك أشبيلية. ومن لخم أمراء لبنان الأرسلانيون، والتنوخيون، وهؤلاء على الأصح ليسوا من التنوخيين سكان شمالي سورية، بل هم ينتسبون إلى جد يقال له تنوخ من سلالة اللخميين ملوك الحيرة. ومن لخم بطون كثيرة في الديار المصرية ومن لخم بنو الدار رهط تميم الداري الصحابي، وذريته في خليل الرحمن بفلسطين ومن كهلان الأشعريون رهط أبي موسى الأشعري الصحابي. وعاملة، ومن عاملة أهالي جبل عاملة بالشام بين صور وصيدا، وهم شيعة الشام، إلا أن رؤساءهم بني على الصغير ينتمون إلى وائل كما علمت منهم.
وأما العدنانية فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وتواريخ العرب تتفق على أن هؤلاء يقال لهم العرب المستعربة، وأن القحطانية هم العرب العاربة، ولكن في مسألة القحطانية يوجد خلاف؛ لأن بعضهم زعم أن العرب العاربة ليسوا قحطان ولكن الذين قبلهم ممن يقال لهم العرب البائدة؛ عاد وثمود وغمليق وطسم إلخ. والرأي الذي عليه الجمهور أن العرب العاربة هم القحطانية، وأن العرب المستعربة هم العدنانية، وهؤلاء العدنانية هم سلالة إسماعيل بن إبراهيم تعلموا العربية من جرهم الذين هم من القحطانية، جاءوا إلى مكة وأقاموا بها واختلطوا بذرية إسماعيل.
والعدنانية هم نزار بن معد بن عدنان. ومنهم إياد الذين ينسب إليهم قس بن ساعدة. ومنهم بنو أنمار بن نزار. ومنهم ربيعة ويعرف بربيعة الفرس، ومن ربيعة أسد وضبيعة وديارهم بالجزيرة الفراتية تعرف بديار ربيعة، وفى نجد كثير من ربيعة الفرس، وأسد أكثرهم أفخاذا. ومن أسد بنو عنزة، وكانت منازلهم خيبر من ضواحي المدينة. ثم رحل قسم كبير منهم إلى بادية الشام، وهم أكثر عرب هذه البادية، فمنهم الرولة، وولد علي، والمعجل، والحسنة، ويقال هؤلاء ضنى مسلم ثم السبعة، والقدعان، ويقال لهم ضنى عبيد. وآل سعود الذين منهم ملك الحجاز ونجد عبد العزيز بن سعود في هذا العصر ليسوا من عنزة، ولكنهم مجتمعون مع عنزة في ربيعة. ومن ربيعة جديلة، وكانت ديارهم بتهامة. ثم خرجوا إلى البحرين ومنهم فريق في الجزيرة الفراتية، ومن جديلة بنو وائل، ولوائل بكر وتغلب، ومن تغلب بن وائل كليب الذي قتله جساس واشتعلت لأجله الحرب المعروفة بالبسوس.
وكان الحمدانيون ملوك حلب قديما من تغلب، وكان من تغلب نصارى كما كان من غسان، ولما ظهر الإسلام أسلم منهم أناس، وبقي الآخرون متمسكين بنصرانيتهم وأبوا أن يدفعوا الجزية كسائر النصارى بحجة أنهم عرب، وأصر سيدنا عمر على أخذها منهم، وكان سيدنا علي فكر في منعهم من تنصير أولادهم وذلك حتى ينشأ أحداثهم في الإسلام. ولهم حكم خاص في الفقه الإسلامى، واختلفت في شأنهم الأقوال، وجاء في فتوح البلدان للبلاذري عن ابن عباس قال: لا تؤكل ذبائح نصارى بني تغلب، ولا تنكح نساؤهم، ليسوا منا ولا من أهل الكتاب وتظاهرت الروايات على أنه لما أراد عمر أخذ الجزية منهم لحقوا بأرض الروم، فقال زرعة بن النعمان لعمر: أنشدك الله في بني تغلب فإنهم قوم من العرب يأنفون من الجزية، وهم قوم شديدة نكايتهم، فأرسل عمر في طلبهم فردهم، وأضعف عليهم الصدقة. وكتب عمير بن سعد إلى عمر يسأله رأيه فيهم لأنهم هموا باللحاق بمملكة الروم، فكتب إليه عمر رضي الله عنه يأمره أن يضعف عليهم الصدقة التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض، وإن أبوا ذلك حاربهم حتى يبيدهم أو يسلموا ، فقبلوا أن يؤخذ منهم ضعف الصدقة، وقالوا: «أما إذا لم تكن جزية كجزية الأعلاج فإنا نرضى ونحفظ ديننا.»
وقال الزهري: «ليس في مواشي أهل الكتاب صدقة إلا نصارى العرب الذين عامة أموالهم المواشي، فإن عليهم ضعف ما على المسلمين. وكان عثمان رضي الله عنه أمر أن لا يقبل من بني تغلب في الجزية إلا الذهب والفضة، فجاءه الثبت أن عمرا أخذ منهم ضعف الصدقة فرجع عن ذلك، واتفقوا على أن سبيل ما يؤخذ من أموال بني تغلب سبيل مال الخراج، لأنه بدل من الجزية. وبالاختصار أبت بهم عروبتهم أن يؤدوا كنصارى الأعاجم، وأبى الخلفاء الراشدون أن يعاملوهم معاملة المسلمين فوجدوا لذلك طريقا وسطا.
ومن بني تغلب الأخطل التغلبي الشاعر النصراني المشهور وهم كثيرون في نجد.
وأما بكر بن وائل فمنهم شيبان. ومنهم بنو حنيفة رهط مسيلمة الكذاب، وأكثر سكان الرياض عاصمة نجد اليوم من بني حنيفة، ومن بكر بنو عجل بن لجيم.
وأما القسم الثاني من العدنانية فهم سلالة مضر بن نزار، ويقال مضر الحمراء ولذلك تجتمع عدنان كلها في ربيعة ومضر.
ولمضر فرع جمع عدة قبائل وهو قيس، ويقال له قيس بن عيلان بن مضر وقيل هو قيس بن مضر لصلبه وعيلان مضاف إليه، قيل فرسه وقيل كلبه. ولكثرة بطون قيس غلب على سائر العدنانية، حتى صار في مقابل اليمن كلها، فصاروا يقولون قيس ويمن، وفى جميع الديار الشامية انقسم العرب إلى قيس ويمن، وكانت حروب القيسية واليمنية في لبنان متصلة وانتهت بواقعة عين دارة منذ 225 سنة. وأما في فلسطين فلا تزال هذه القسمة موجودة. وأما في الأندلس فكانوا يقولون المضرية واليمنية، ومن أشهر قبائل قيس هوازن، وهم بنو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، ويقال لهوازن اليوم عتيبة. وهم من أكبر قبائل العرب منهم أناس في الحجاز وآخرون في نجد. وينقسمون اليوم إلى فرعين؛ الروقة، والبرقة، وبعضهم يرى أن أحد الفريقين وهو البرقة من عامر بن صعصعة. ومن هوازن بنو سعد الذين كان النبي
صلى الله عليه وسلم
Unknown page
رضيعا فيهم. ويقال لهم بنو سعد بن بكر ذكر صاحب صبح الأعشى أن منهم فرقة بنواحي باجة من المغرب. ومن هوازن بنو عامر بن صعصعة.
ومنهم بنو كلاب، وكان لهم في الإسلام دولة باليمامة، ثم انتقلوا إلى الشام وملكوا حلب مدة من الزمن. ومن بني عامر بن صعصعة بنو هلال وهم أشهر قبائل العرب. وكانوا في الحجاز ونجد. وقد انتقلوا إلى المغرب فملئوه. ثم إن قبيلة حرب الكبيرة في الحجاز من بني هلال، وهم بطون ثلاثة؛ بنو مسروح وبنو سالم، وبنو عبيد الله. هكذا في صبح الأعشى. وأما في كتاب «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» فقد جاء في الصفحة 372 ذكر قبائل الحجاز النازلة بين الحرمين، وقد كنت نقلتها عن سجلات الحكومة في المدينة المنورة فهنالك أقول: «أهم هذه القبائل حرب، وهم بنو حرب بن هلال بن عامر بن صعصعة من العرب العدنانية. وحرب خلف أربعة أولاد: سالم، ومسروح، وعبد الله وعمرو. فمسروح أكثرهم ولدا، وقد دخلت بطون بني عبد الله وبنو عمرو في مسروح.» أما صبح الأعشى فيقول نقلا عن الحمداني: إنهم ثلاثة بطون؛ بنو مسروح، وبنو سالم، وبنو عبيد الله. وقال: إن من حرب زبيد الحجاز، وذكر أن منهم بني عمرو. ومنازل مسروح من مكة إلى المدينة المنورة وعددهم يزيد على ستين ألف نسمة. وأما بنو سالم من حرب فمنازلهم من مكة إلى المدينة إلى وادي الصفر إلى الحديدة إلى ينبع البحر، وهم يزيدون على خمسين ألفا. فحرب إذا اجتمعت تزيد على مئة ألف نسمة، وكان شيخ مشايخ حرب خلف بن حذيفة الأحمدي، وكان ناصر بن نصار الظاهر، ومنصور الظاهري، من مشايخ المراوحة من بني سالم من حرب. وبنو مزينة الذين بأطراف المدينة والذين منهم زهير بن أبي سلمى المزني صاحب المعلقة، داخلون الآن في بني سالم من حرب. والحال أن مزينة في الأصل هم بنو عثمان وأوس ابني عمرو بن أد بن طانجة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر على ما في صبح الأعشى. وكان شيخهم حجاب بن بخيت معدودا من مشايخ المراوحة من بني سالم إلى آخر ما ذكرناه من أسماء شيوخ حرب في العصر الأخير.
وأخبرني العلامة النسابة الشيخ عبد الله بن بلهيد قاضي قضاة المملكة السعودية أن ما ذكرته عن قبائل الحجاز هو أصح ما اطلع عليه في هذا الباب. ومن بني عامر بن صعصعة أيضا بنو عقيل، وكانت مساكنهم بالبحرين، وكانوا أعظم القبائل هناك واجتمعوا هم وبنو تغلب على بني سليم بن منصور فأخرجوهم من البحرين، ثم تغلب بنو تغلب على بني عقيل فأخرجوهم إلى العراق، ثم عادوا إلى البحرين وتغلبوا على بني تميم. ومن بني عقيل بنو عبادة، وبنو خفاجة في العراق ومنهم المنتفق. ثم من بطون هوازن بنو جشم؛ كانت مساكنهم بالسروات بين تهامة ونجد، ومن بطون هوازن ثقيف، ويقال للطائف سوق ثقيف، لأنهم سكانها ومحيطون بها من كل جهة. وفى كتابنا «الارتسامات اللطاف» استوفينا الكلام على ثقيف. ومن قبائل قيس باهلة، وبنو مازن، وبنو غطفان، ومن غطفان بنو عبس جماعة عنترة الفارس المشهور. ومنهم أشجع، ذكر صاحب الأعشى أن منهم حيا عظيما بسجاماسة في المغرب. ومن غطفان دبيان. ومنهم النابغة الذبياني، ومن ذبيان فزارة ومنهم بنو صبيح في برقة ومن هؤلاء رواحة وهيب بأرض برقة إلى طرابلس الغرب وبأفريقيا والمغرب. ومنهم جماعة بالديار المصرية.
ومن قبائل قيس بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان وكانوا في عالية نجد بالقرب من خيبر، وفى وادي القرى وتيماء، ولكن أكثرهم رحلوا إلى مصر، ثم إلى برقة، وأكثر عرب برقة منهم. ومن شاء أن يتوسع في معرفة قبائل برقة فعليه بحواشينا على «حاضر العالم الإسلامى» فإنه يجد في الفصل المتعلق بطرابلس الغرب من صفحة 64 من المجلد الثاني إلى صفحة 165 كل ما يلزم من المعلومات عن ذلك القطر، ولا سيما عن القبائل بأسمائها القديمة والجديدة مما يطول بنا استيفاؤها هنا. ونحن إنما ذكرنا هنا مجمل أنساب العرب على سبيل التمثيل.
ومن قبائل قيس بنو عدوان وكانوا بالطائف، ثم غلبهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة، وبأفريقيا منهم أحياء بادية، وفى شرق الأردن اليوم عرب العدوان، وهم رؤساء البدو في تلك الناحية، ولا يعلم هل هم من عدوان هؤلاء، أم هو اتفاق في الاسم.
ومن مضر الياس، وكانت تحته خندف بكسر الخاء وسكون النون وكسر الدال وهي بنت حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة، عرف بنوه بها فقيل لهم خندف وغلب على سائر قيس قال الشاعر، وقد أهانه العدنانية في أسوان وأعزه القحطانية في اليمن:
إذا تم لي في أرض مأرب مأربي
فلست على أسوان يوما بأسوان
إذا جهلت قدري زعانف خندف
فقد عرفت فضلي غطارف همدان
Unknown page
ومن الياس طانجة، ومن طانجة هذه تميم وهي من أكبر القبائل. ومن بطون تميم بنو العنبر، وبنو حنظلة، ومن قبائل طانجة بنو ضبة الذين منهم ضبة الذي هجاه المتنبي وقتل بسبب هجوه أباه. ومن بني تميم قبائل في نجد منهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي ينتسب إليه أهل نجد، فيقال لهم الوهابية. وهم يقولون لأنفسهم السلفية إشارة إلى أنهم على عقيدة السلف الصالح. ومنهم أناس في الدرعية ومنهم كثير من سكان القصيم. ومنهم فريق في جوار حائل مثل أهل قفار والسميرة، وقرى أخرى. ومن قبائل طانجة مزينة الذين منهم زهير بن أبى سلمى ولكنهم دخلوا في حرب كما تقدم الكلام عليه. ومن هؤلاء الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي. ومن إلياس بن مضر بنو قمعة، ثم بنو مدركة، ومن مدركة هذيل ومساكنهم جبال الطائف العليا، وقد ذكرت ذلك في «الارتسامات اللطاف» وهم مجاورون لثقيف. ولمدركة خزيمة وله فرعان الهون وأسد. ومن بطون أسد الكاهلية وهم بنو كاهل بن أسد ومن خزيمة كنانة وهم قبيلة شهيرة ذات فروع منها ملكان، وعبد مناة، وغفار رهط أبي ذر الغفاري. وبكر بن عبد مناة، ومن بكر الدول الذين منهم أبو الأسود الدولي. والليث، وبنو الحارث، وبنو مدلج وبنو ضمرة. وجميعهم متفرقون في بلاد العرب.
ومن كنانة عمرو، وعامر، ومالك. ومن مالك هؤلاء بنو فراس بن غنم الذين اشتهروا بإعجاب سيدنا علي بفروسيتهم: (ولو أن لي بألف منكم سبعة من بني فراس بن غنم) ومن العرب العدنانية قريش، وهم فهر بن مالك.
ومنهم بنو الحارث بن فهر، ومن هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة رضي الله عنه وبنو محارب بن فهر.
ومنهم الضحاك بن قيس أحد الأصحاب. وبنو الجد الذين كانوا في الأندلس، ثم صاروا إلى فاس.
ومنهم الأمراء والرؤساء والعلماء هم من بني فهر. ومن قريش بنو غالب بن فهر.
ومنهم بنو لؤي بن غالب، ومن هؤلاء بنو سعد وبنو خزيمة، وبنو عامر بن لؤي، وبنو كعب بن لؤي. ومن بني كعب بن لؤي هصيص، ومن هؤلاء بنو هم رهط عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ومنهم بنو جمح ومن كعب بن لؤي بن غالب بنو عدي.
ومنهم سيدنا عمر بن الخطاب، وسعيد بن زيد رضي الله عنهما.
ومن قريش مرة بن كعب، ومن بني مرة بن كعب تيم، ومن هؤلاء سيدنا أبو بكر الصديق، وطلحة رضي الله عنهما. ومن مرة بن كعب بنو يقظة، وبنو مخزوم. ومن بني مخزوم سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه.
ومنهم سعيد بن المسيب التابعي المشهور.
Unknown page
ومن قريش كلاب بن مرة.
ومنهم بنو زهرة، ومن بني زهرة الصحابيان سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف من العشرة المقطوع لهم بالجنة رضي الله عنهما ومن قريش قصي بن كلاب بن مرة.
ومنهم بنو عبد الدار الذين بأيديهم مفاتيح الكعبة. ومن بني عبد الدار بنو شيبة وهم الشيبيون الذين بأيديهم مفاتيح بيت الله إلى يومنا هذا. ومن قصي بن كلاب بن مرة بنو عبد العزى. ومن هؤلاء بنو أسد الذين منهم سيدنا الزبير بن العوام أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة رضي الله عنه.
ومنهم خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.
ومن قريش بنو عبد مناف، وهم بنو عبد شمس بن عبد مناف، ومن هؤلاء بنو أمية، وهم بنو أمية الأكبر، وأمية الأصغر ابني عبد شمس، ومن بني أمية الأكبر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان. ومن عبد مناف بن قصي نوفل، وبنو المطلب. ومن بني المطلب الإمام الشافعي رضي الله عنه. وأما هاشم بن عبد مناف فاسمه عمرو، وسمي هاشما لهشمه الثريد أيام المجاعة، وكان سيد قريش في وقته. وله عبد المطلب بن هاشم، وكان لعبد المطلب اثنا عشر ولدا: عبد الله أبو النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأبو طالب والد سيدنا علي، والزبير، وعبد الكعبة، والعباس والد عبد الله بن عباس، وضرار، وحمزة، وحجل وأبو لهب، وقثم، والغيداق، والحارث، والعقب منهم لستة؛ حمزة، والعباس، وأبى لهب، وأبى طالب، والحارث، وعبد الله؛ فأما عبد الله فمن ولده سيد الوجود محمد بن عبد الله عليه السلام، وأما العباس فمن ولده الخلفاء العباسيون، وأما أبو طالب فكان له عدا أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه جعفر، وعقيل، وذرية أمير المؤمنين من فاطمة منتشرة في جميع العالم الإسلامى، ويقال لهم آل البيت، وهم السنام الأعلى في الشرف.
ومن خيبر إلى الحائط، والحويط، إلى الحرة، قبيلة هتيم. وليست من القبائل المعروفة بالأصالة في العرب، ولكنها كثيرة العدد تصادم شمر، وتصادم حرب وتصادم أية قبيلة كبيرة، ويقال إنها نحو من مائتي ألف نسمة.
جاء في انسيكلوبيدية الإسلام أن هتيما مشهورون بالقنص، وأن منهم قيونا كثيرين، وأن بينهم وبين الشرارات مصاهرات.
ومن القبائل التي لا يختلط بها سائر العرب الصليب، ولا يعرف أصلهم. وقد ذهب بعضهم إلى أنهم من بقايا الصليبيين، واستدلوا على ذلك بمشابهة الاسم والحقيقة مجهولة ولا يعادون أحدا ولا يعاديهم أحد، وكلما وقعت واقعة بين العرب وفشت الجراحات جاء الصليب هؤلاء وأخذوا الجرحى من الفريقين، وعالجوهم، فهم يتخذون لأنفسهم مهنة الصليب الأحمر في أوروبا. ولذلك لا يعتدي عليم أحد وأحياؤهم آمنة.
وكل من العرب كما تقدم آنفا مفتخر بنسبه، مستمسك بأصله، فإذا كان عدنانيا لم يرض أن يكون قحطانيا، وإذا كان قحطانيا ساءه أن ينتسب إلى عدنان قال الشاعر :
Unknown page
وما قحطان لي بأب وأم
ولا تصطادني شبه الضلال
وليس إليهم نسبي ولكن
معديا وجدت أبي وخالي
ومن أراد أن يطلع على سلاسل قبائل العرب وشجرات أنسابهم فعليه «بسبائك الذهب في معرفة قبائل العرب» للسيد محمد أمين السويدي البغدادي، فهو كتاب قد جمع فأوعى في هذا الباب. على أن إفراط العرب في التمسك بأنسابهم قد أوجد بينهم من العصبية بعضهم على بعض ما لا يوجد في أمة سواهم، حتى إن «دوزى» الهولندي الممدود من أوسع المستشرقين علما ذكر في كتابه عن مسلمي إسبانيا أن العداوة التي بين العدنانية والقحطانية قد تكون أشد من العداوة التي بين العرب والأعاجم. والحقيقة أن هذه العداوة نفسها هى التي كانت الأصل الأصيل في فقدهم الأندلس، بل في نكوصهم عن قلب أوروبا بعد أن وطئوه بأقدامهم، وكادوا يستولون على تلك القارة. وقد كانوا كلما تم لهم الظفر في واقعة على الأجانب عادوا فاقتتلوا فيما بينهم بين قحطاني ومضري، ففشلوا وذهبت ريحهم، واضطروا أن يعودوا من حيث أتوا. ولم ينحصر ضرر هذه العصبية في الأندلس والمغرب، بل قد أفنت القبائل العربية بعضها بعضا في المشرق أيضا، وصرفتهم عن التبسط في الفتوحات، فما كانوا قد حازوه بشجاعتهم وعلو هممهم فقد فقدوه في منازعاتهم الداخلية بوقوع بأسهم بينهم، لاسيما بين هذين القبيلتين؛ قيس واليمن. وكثيرا ما كانت تقتتل ربيعة ومضر وكلا الفريقين من العدنانية، ونظرا لكون مضر أكثر عددا كانت ربيعة تلجأ إلى اليمن حتى تقف في وجه مضر. وكل عربي تنزع فيه العصبية إلى قومه، فلا يسلم من ذلك أحد، حتى الملوك والخلفاء كانوا يتعصبون للقبائل التي هم منها وهم مع ذلك سادة الجميع.
ومن الأمثال التي تدلك على غلوهم في هذا الباب أن جرير بن عطية الشاعر - وكان من تميم - قال في إحدى مفاخراته للأخطل التغلبي:
إن الذي حرم المكارم تغلبا
جعل النبوة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك جميعهم
فاعلم فليس أبوكم كأبينا
Unknown page
هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت سلقكم إلى قطينا
فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي ضحك وقال: ما زاد ابن الفاعلة على أن جعلني شرطيا عنده! ثم قال وقد نبض به عرق العصبية لمضر: أما والله لو شاء لسقتهم إليه. ولم يكن ليفت في عضد هذه العصبية الغالية سوى العقيدة الإسلامية التي جعلت الإسلام هو العروة الوثقى، وجعلت أخوته فوق كل رابطة. ولذلك قيل: إن العرب لم يكونوا ليتحدوا في يوم من الأيام إلا بالإسلام، ولولا الإسلام لبقوا شعوبا وقبائل يقتتلون في جزيرة العرب إلى يوم القيامة، وبأسهم أبدا بينهم. فلما جاء الإسلام ووحد بينهم في الدين، وقال الله تعالى:
إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا
لم يلبثوا أن خرجوا من جزيرة العرب بقوة هذا الاتحاد؛ ففتحوا نصف العالم في ثمانين سنة، ولم يقف في وجههم شيء! ولكن بعد أن بعد عهدهم بعهد النبوة وخلافة الراشدين ضعفت فيهم العقيدة التي كانت هي مدار العمل عند سلفهم، وعادت فتجددت بينهم العصبيات الموروثة عن الجاهلية، فرجعوا يقتتلون على المضرية واليمنية في الإسلام، كما كانوا يقتتلون قبل الإسلام، ورجع بذلك زرعهم هشيما، وبذرهم عرجونا قديما.
فكما أن الأنساب كانت تثير فيهم الحمية والنخوة، وتبعث روح التنافس الحافز لهم على طلب المجد؛ كانت تثير بينهم أيضا العداوات والفتن التي تصدع وحدتهم وتخمد في النهاية جمرتهم، فأضرت من حيث نفعت. ولقد أجمع المؤرخون، واتفق علماء الاجتماع، أن سبب سقوط سلطنة العرب هو طبيعة هذه الأمة في الانقسام والانفراد، وغرامها في منافسة بعضها بعضا.
ولولا آفة الانقسام هذه لكان التمسك بالأنساب هو من الفضائل الاجتماعية التي يتنافس بها، ويتمكن بها المصلحون لحكوماتهم وأوطانهم من ترقية أقوامهم بالبحث عن سلائلهم، والاعتناء بحفظ أصالتها ومنع اختلاطها بغيرها مما يشوب نقاوتها.
أفلا ترى كيف ثار الألمان في هذه السنين الأخيرة، وأوجدوا قضية النسب «الآري» ومنعوا بجميع الوسائل اختلاط «السامي» مع «الآري» بالمصاهرات حفظا للنسب الذي ينتمون إليه، والذي لا يرون لهم رقيا إلا به وضمن خصائصه وما فعلوا ذلك إلا بناء على نظريات علمية ثابتة، وهم وإن كانوا غلوا في هذا الأمر إلى حد أوجب انتقاد سائر الأمم لهم فلا يمكن أن يقال إن قاعدتهم هذه غير راجعة إلى أصل صحيح.
ونحن لو نظرنا إلى السبب في حفظ النسب لا نجده منحصرا في معرفة التاريخ ولا في الامتيازات المادية التي يحوزها أصحاب النسب في العادة، ولكن هناك غرض آخر أعلى من ذا وذا، وهو توارث الأخلاق التي تهتف بالفضائل، والأفعال المجيدة، تزكي الأنفس، فمن المعلوم أن أصل البيوت الشريفة هو أن يبرع أحد الناس على أقرانه، ويبذ أبناء زمانه بطبيعة ممتازة في نفسه قد تكون أسبابها النفسية مجهولة، وإنما تظهر آثارها في أفعاله فيمتاز بين قومه وتحصل له رئاسة وسؤدد، ويشيع ذكره، ويرتفع شأنه، وتتمنى الحوامل أن تلد مثله، وهذا ما يقال له المجد الطريف وبعد ذلك إذا أعقب نسلا اجتهد نسله أن يقتدوا به بقدر الإمكان، حتى يمتازوا بالأخلاق التي امتاز بها أبوهم، ويحوزوا مثلما حازه من الشرف والسؤدد، وتعب رهطهم في تقوية هذه الروح فيهم طمعا في استبقاء هذه الغرائز التي أورثهم إياها سلفهم، وهي التي تغريهم بالفضائل، وتبعدهم عن الرذائل، وترتفع بهم عن سفاسف الأمور ويقال لهذا المجد التليد.
ولهذا كان من العادة أنه إذا أقدم أحد أبناء البيوتات الكريمة على عمل خسيس كان أول ما يقرعه به الناس، ويهيبون به إلى التوبة منه؛ أن يقولوا له: أفلست أنت ابن فلان؟ أو من آل فلان؟ أيجمل بك أن تفعل ما هو كذا وكذا! فماذا تركت للسوقة والطغام؟ وأشباه هذه الأقوال التي تدل دلالة واضحة على أن الأصالة مفروض فيها أن تقترن بالنبالة، وبعبارة أخرى إن الأصيل في نسبه ينبغي أن يكون فاضلا في عمله، بارعا بأدبه. وما جاء على خلاف هذه القاعدة فيعد شاذا.
Unknown page
فإذا تقرر عندنا هذا تقرر أن حفظ الأنساب هو عبارة عن حفظ الفضائل وإمتاع المجتمع بها. ومتى كثرت الفضائل في المجتمع ترقت الأمة وعرجت في سلم النجاح، وأصبحت أمة عزيزة غالبة، لأن الأخلاق الفاضلة هي الأساس الذي يبنى عليه كيان الأمم.
وقد تقدم لنا أن الأوروبيين شديدو العناية بالأنساب، خلافا لما يتوهم الشرقيون، وأن الكفاءة في الزواج طالما كانوا يراعونها ولا يزالون يراعونها حتى اليوم، وإن كان قد خف ذلك التمسك القديم بعض الشيء، وذلك بأن النبلاء لا يزوجون بناتهم من الطبقات التي ليست في درجتهم. وأشد الأوروبيين منعة في هذا الأمر هم نبلاء الإنجليز، الذين يأتي الأمريكي المثري فيبذل القناطير المقنطرة من الذهب حتى ينال شرف مصاهرتهم، ولا ينالها إلا لأيا، وكل هذا لأجل أن «يستقطر بأنبيق ديناره دمهم الشريف في دن نسبه» كما قال أحمد فارس في «كشف المخبأ عن فنون أوروبا». وما قاله أحمد فارس من ثمانين سنة في هذا الموضوع لا يزال تصداقه جاريا إلى الآن.
وكذلك نجد النبلاء في ألمانيا وفرنسا وغيرهما محافظين على أنسابهم، مفتخرين بها، مستظهرين على صحتها بالكتب والوثائق والشجرات التي يعتقدونها مع أنفس أعلاقهم وذخائرهم، وكثيرا ما اجتمعنا بأناس من هؤلاء يرفعون أنسابهم إلى عهود بعيدة جدا، ويذكرون أن أصول عائلاتهم معروفة من ألف سنة، وألف ومائتي سنة، ولم نجد أشراف العرب أشد اعتناء بأنسابهم من نبلاء الإفرنج، وهم يزيدوننا في شيء واحد، وهي هذه الأشعرة (جمع شعار) التي تمتاز بها كل عائلة منهم وتحفظها في عهود متطاولة. ونحن العرب لا يوجد عندنا هذا الاصطلاح إلا ما ندر وأكثر ما يكون في الأعلام والرايات. فالعباسيون رايتهم السواد، والأمويون رايتهم بيضاء، والفاطميون رمزهم اللون الأخضر، وأمراء مكة رايتهم عنابية وما أشبه ذلك. فنحن نستظهر على حفظ أنسابنا بالتواريخ والوثائق والصكوك القديمة وكثيرا ما نثبتها بالمحاكم الشرعية، فأما أن تتخذ كل عائلة من بيوتات العرب شعارا خاصا تمتاز به كما هو الشأن عند الإفرنج فليس بمعهود، وإنما جرت العادات عند العرب بأن يتخذ عشائرهم أسماء خاصة يتنادون بها في ميادين القتال، فهؤلاء يقال لهم «إخوة بلجاء» وهؤلاء يقال لهم «إخوة شيخة» وأولئك يقال لهم «رعاة العليا» أو «فرسان الصباح» وما أشبه ذلك من الألقاب والكنى. فأما نبلاء الإفرنج فلا تكاد تكون منهم أسرة شهيرة بدون شعار تجد صورته على آنيتها ومواعينها وحلاها وفى كتبها، ويقال إن أصل هذا الاصطلاح عندهم هو من زمان الصليبيين.
وقد غلا نبلاء الإفرنج في التمسك بأنسابهم، ورفعوها أحيانا إلى أبعد ما يكون من الأعصر، حتى دفع ذلك العقل. وغلا أيضا علماء الأنساب في مراعاة قواعدهم ودخل بينهم المتزلفون الوضاعون الذين كانوا يتقربون إلى الأسر النبيلة بزيادة رفع الأنساب - أو بوضعها اختراعا - حتى وقعت الشبهة في الصحيح منها، واتهم النسابون جميعهم بالكذب، وفى أوروبا مثل سائر يقولون «هو أكذب من نسابة».
وكان يوجد عند الملوك في أوروبا وظيفة اسمها وظيفة «نساب الملك» وهو ضابط من ضباط رهبانية روح القدس، ترجع إليه مهمة تثبيت الأنساب، لا سيما أنساب الفرسان الذين يقال لهم «شيفالير
Chevalier » وذلك أن النبلاء كانت لهم حقوق لم تكن للعامة، فكان النبيل يدخل في نظام الفرسان عند الملك مثل نظام مالطة، وليون، وسانت كلود، وغيرها. فكانوا يحتفظون بأنسابهم لتكون لهم وسيلة إلى الدخول في هذه الأنظمة، وكان النساء النبيلات أيضا رهبانيات يدخلن فيها، ويلتزمن لأجل الدخول فيها تثبيت أنسابهن.
وإثبات النسب كان عبارة عن إظهار ورقة المعمودية التي تثبت أن فلانا هو ابن أبيه فلان، وأن هذا هو ابن فلان وهلم جرا. وكانوا يقدمون مع أوراق المعمودية الوصايا، وعقود الزواج، وصكوك الشراء. والبيع والهبة، وما أشبه ذلك من الوثائق، وكانوا إذا حرروا نسب عائلة ضموا جميع فروعها في السجل، وجعلوا بجانب كل فرع جميع ما يتعلق به من وصايا وعقود أنكحة، وصكوك مهمة بتواريخها مع براءات الملوك المتعلقة بذلك الفرع.
وهذه البراءات هى التي يقال لها في الدولة العثمانية «الفرامين» جمع «فرمان» ومعناه الأمر، ويقابل الفرمان في الدولة المغربية «الظهير». وكانوا في أوروبا يذكرون أيضا في سجلات الأنساب تواريخ الأشخاص المشهورين، ومن قتل منهم في الحروب، ويقال إن هذا الاصطلاح بدأ في فرنسا منذ سنة 1600 وإنه من قبل ذلك التاريخ لم تكن للأنساب دائرة خاصة بل كانت الحكومة عندما تريد التحقيق عن نسب من يدلي إليها بطلب ترسل مأمورين إلى البلدة التي ينتسب إليها طالب الوظيفة فيسألون الشيوخ وأهل الخبرة، ويرفعون خلاصة التحقيق إلى الحكومة.
ولما قدمت إلى ألمانيا في أيام الحرب الكبرى، كان ممن تعرفت إليهم من العلماء مؤرخ جليل اسمه الدكتور «ستراد ونتز» وكان مديرا لمصلحة الأنساب في البلاد الجرمانية، وقد تذاكرت معه طويلا في مسألة الأنساب، وذكرت له أنساب العرب وسألته عن أنساب الألمان، فعلمت منه أن أقدم أسرة معروفة في ألمانيا ينتهي قدمها إلى القرن التاسع بعد المسيح، ولا يوجد أسرة معروفة يعرف لها نسب لأبعد من هذا التاريخ. قال: وإن الأسرة المالكة في الساكس هي أقدم بيت في ألمانيا، ويوجد من لهم نسب إلى القرن الثاني عشر للمسيح.
وذكر لي أسرا عريقة من جملتها آل هونلوهيه وكنت عرفت منهم برنسا ضابطا وشاهدته في الأستانة، وتكلمنا على نسب آل هوهنزولون قياصرة ألمانيا، وأن أصلهم من جهة بحيرة كونستاتزا في بلاد بافاريا، ومنذ نحو من ست مئة سنة قام جدهم بخدمات جليلة للوطن فأعطاه الإمبراطور سيجموند لقب شرف وجعله أميرا على براند نبورغ، وهذا هو مبدأ سيادتهم. ومن هناك لم يزالوا يعظمون ويغلظ أمرهم ويتسع ملكهم حتى أوائل القرن الثامن - أي منذ مائتين وعشر سنوات - إذ ترقوا إلى درجة الملك، وصاروا ملوك بروسية. وفى سنة 1870 بعد الغلبة على فرنسا توج الملك غليوم الأول إمبراطورا على ألمانيا كلها كما هو معلوم. ومما ذكره لي هذا الأستاذ المؤرخ أنه يوجد في جبال سويسرا أسرة رومانية، أي من الرومانيين القدماء محفوظة النسب، يقال لها «بلانتا» وكان ذلك متواترا عندهم والناس تنكره ولا يجدون له سندا حتى كشفوا بطريق الاتفاق كتابة لاتينية على حجر كان قد طمسه التراب فإذا به يؤيد تواتر نسب هذه الأسرة، فهي الآن أقدم عائلة معروفة في أوروبا. انتهى.
Unknown page
وعلم الأنساب مهم جدا للتاريخ، مشتبك به اشتباكا تاما، لأنه به يعرف تاريخ مشاهير الرجال الذين قاموا بأدوار عظيمة في العالم، فيتبين من هذا العلم أصلهم، كما يتبين من التاريخ فصلهم. وكذلك تعرف من الأنساب علاقات المصاهرة، وما يحصل بسببها من التوارث، وما ينشأ عن هذا التوارث من دعاوى وخصومات قد تجر إلى الحروب. ولم تنحصر الأنساب في الفترة الآدمية، بل للطبقة العالية من الحيوانات الداجنة أنساب معروفة، ولحفظ أنسابها فائدة عظيمة في تنشئة هذه الحيوانات وتنميتها، فإن تأثير العرق غير مشكوك فيه، وانتقال النجابة من بطن إلى بطن هذا معدود من القواعد العلمية، وإن كان قد تعرض أحيانا عوارض تمنع انتظام سير هذا التوارث.
ومن الغريب أن الإنسان قد يهمل نفسه أحيانا، ولا يحافظ على صحة بدنه ولا على متانة عقله، ولا يكترث لقضية تسلسل النجابة في عرقه، ولا لصيانة المزايا التي انتقلت إليه بالإرث الطبيعي من آبائه، وبينما هو يهمل نفسه هذا الإهمال، تجده يعتني بحفظ نسل حيواناته حتى لا يكون الفرع مقصرا عن الأصل. ولهذا كانت أنساب الحيوانات معتنى بها في كل مكان، وكان ذلك بها جديرا، وإن كثيرا من الكتب قد كتب لحفظ أنساب العجماوات. قال لاروس في معجمه الكبير: «إن العرب سبقوا جميع الأمم في حفظ أنساب حيواناتها، وإذا كان الجواد العربي قد بقي محفوظا بجميع مزاياه الباهرة، فما كان ذلك إلا بطهارة أصله وصفاء عرقه منذ قرون لا تحصى، وهذا بفضل العرب الذين وجهوا لصفاء عرق الجواد أشد الاهتمام، وإن جميع حيوانات العرب الفارهة لها أنساب يعتنى العرب بحفظها بمزيد الدقة.» قال: وليس عند العرب دفتر نفوس عمومي للخيول، ولكن كل فرس كريم معه حجة يتبين منها نسبه، فلا تختلط عندهم الخيل الأصيلة بغيرها. أما الإنجليز فقد نظموا ذلك وجعلوا للخيل دفاتر نفوس رسمية، منها ما يسمونه “Stud-Book”
يذكرون به أصل الحصان وسلسلة نسبه، ومنها المسمى “Cing Calender”
يذكرون فيها أوصاف الحصان وشياته. وما عملوه لأجل الخيل وحفظ أرسانها عملوه أيضا لأجل البقر، ولأجل الغنم. ولكن الفرق بين البقر والغنم أن النسب في البقر يكون للثور بمفرده، وأما في الغنم فلا يكون للشاه بل للقطيع كله. ويرى العلماء في تربية الحيوانات أنه لأجل إصلاح جنسها يكون ضروريا الوقوف على أنسابها.» انتهى.
والأنساب معروفة للهررة أيضا، فهي كالخيل الأصيلة، كلما كان الجواد عتيق الأصل كان أحسن جريا، وكذلك كلما كان الهر أصيلا كان أحسن صيدا للفئران. وبالإجمال إصلاح الأجناس بالتزاوج، وبالتربية، وبالتغذية، سواء كان في الآدميين أو كان في الحيوانات الداجنة، يتوقف على حفظ الأنساب، والعناية بعتقها. ولا يزال الحديث الشريف: «اطلبوا كرام المناكح فإنها مدارج الشرف.» من أصدق القواعد العلمية، والحقائق العالمية.
الخلافة واشتراط القرشية فيها
تعليق على ما جاء بسطر 10 صفحة 3 جزء أول من ابن خلدون
لست هنا في صدد وجود الخلافة في الإسلام، وهو البحث الذي وفاه علماء هذه الملة حقه، ولم يتركوا في قوسه منزعا، وقد قال في هذا المقام ابن خلدون والماوردي وغيرهما كل ما يجب أن يقال، وإنما أقول: إنه اتفق المسلمون - إلا الخوارج والمعتزلة - على وجوب نصب الإمام لحراسة الدين والدنيا، فكان هذا المنصب جامعا بين السلطة الروحية - لكن بدون العصمة التي يقول بها الكاثوليكيون في البابا - وبين السلطة الدنيوية وهي ما يسميه النصارى بالسلطة الزمنية - لكن بدون الامتيازات التي تسجلها القوانين الأوروبية للملوك - ولا تبال بما يتشدق به بعض الطاعنين في الإسلام من أنه جمع بين السلطتين، فكان في ذلك عائق للمجتمع عن الترقي، فهو قول عريق في التحامل، مخالف لسنة الله في خلقة، إذ إن الدين متصل بالدنيا في كل مجتمع بشري، والدنيا ممتزجة بالدين بدون انفكاك، ولا يتصور وجود أحدهما بدون الآخر.
وقد وفينا هذا الموضوع حقه في «حاضر العالم الإسلامى» بما لا حاجة إلى إعادته هنا، وأثبتنا ما في جملة «فصل الدين عن السياسة» من السفسطة التي لا تستند على شيء من الواقع، لأن جميع الحكومات الأوروبية التي جعلها الشرقيون هي المثل العليا في العالم، ولم يبق لهم عمل إلا أن يحطبوا في حبالها، وينسجوا على منوالها، لم تقدر أن تفصل الدين عن السياسة فصلا حقيقيا، وغاية ما هناك أنها فصلتهما فصلا إداريا لا غير، بحيث إن للأمور الدينية مراجع مخصوصة، وللأمور الدنيوية مراجع مخصوصة. وهذا ما هو أيضا في الحكومات الإسلامية. وقد كان في الدولة العثمانية كما يعلم كل احد، فالصدر الأعظم كان ينظر في الأمور السياسية والإدارية خاصة، وشيخ الإسلام كان ينظر في الأمور الشرعية والدينية خاصة، وكل من المرجعين كان يعود إلى السلطان.
وإذا نظرنا إلى أوضاع الدول الأوروبية نجد أن ملك إنجلترا مثلا هو في المركز نفسه، فكما أنه ملك الأمة الإنجليزية ومرجعها في الحكومة، فهو رئيس الكنيسة الإنكليكانية، وبالتالي فمرجع الإنجليز في العقيدة. ومثل ذلك قيصر ألمانيا الذي كان رئيسا للكنيسة اللوثيرية، فكانت له السلطة الروحية العليا لا تفترق في شيء عن سلطة الخليفة في الإسلام، وهي مجموعة فيه إلى السلطة الدنيوية التي تجعل في يده زمام الأمة الألمانية في الأمور الدنيوية. ولما آل أمر الألمان إلى الجمهورية - وهى مؤقتة - قام مقام القيصر في الأمرين رئيس الجمهورية الألمانية، وقد زعم بعضهم أن من الدول من فصل الدين عن السياسة بالمرة كفرنسا مثلا، والحقيقة أن فرنسا اتفقت مع الطبقة الإكليريكية على وضع نظام خاص يكفل راحة الفريقين، ولكن الحكومة لا تزال هي مرجع رجال الدين عند حدوث المشكلات لما تقدم من أن الدين والدنيا في المجتمع لا يستغني كل منهما عن الآخر. وليس في عصرنا هذا حكومات لادينية بالمعنى المفهوم من هذه اللفظة سوى ثلاث حكومات؛ إحداهما الروسية البلشفية والثانية الجمهورية المكسيكية، والثالثة الجمهورية التركية الكمالية. وما دامت الأمة الفرنسية تعلن عن نفسها أنها أمة مسيحية - يتجلى ذلك في جميع حركاتها وسكناتها - فيكون مخالفا للمحسوس الزعم بأن حكومتها في واد والكنيسة في واد! إذن فالإسلام لم يأت في هذا المعنى بوضع مبتدع، بل هي سنة الله في أرضه. وما دامت الأمم لا تستغني عن الأديان فملوكها وحكوماتها لا تستغني عن الجمع بين الدين والسياسة.
Unknown page