وحالما عرف أهل قرطجنة بفرار هنيبال أخذوا يحسبون الحساب الكبير لنتيجته، وأن الرومانيين سوف يجعلونهم مسئولين عنه، فيؤدي الأمر إلى تجديد حرب بين البلادين، ولكي يتقوا هذا الخطر بادروا في الحال إلى إرسال وفد إلى رومية؛ لكي يطلع الحكومة فيها على فرار هنيبال ويبدي أسف قرطجنة الشديد واستياء أهلها من هذا الحادث الذي لم يخطر لهم ببال، وهم يتوقعون من وراء ذلك تلطيف غضب أعدائهم مما جرى.
ويلوح للقارئ عند تأمله هذه الحادثة أن أهل قرطجنة قد تصرفوا بلؤم وخساسة، وأنكروا جميل قائدهم بهذه الصورة الشائنة فخذلوه وانحازوا إلى الأعداء؛ ليناصروهم عليه وهو الذي أغضب أولئك الأعداء وألهب صدورهم غيظا منه في خدمة قومه ووطنه، وأن قلبهم له ظهر المجن في ساعة ضيقه وشدته ليس من الشهامة والشرف في شيء، وفي الواقع أن تصرف القرطجنيين كان يعد لؤما فظيعا للغاية، ولا يتفق مع مبادئ الوطنية الصادقة، لو كان الأشخاص الذي لقي منهم هذه المعاملة السيئة هم ذاتهم في الحالتين.
ولكنهم لم يكونوا كذلك، فالأشخاص وأهل النفوذ من القرطجنيين الذين يقاومون هنيبال ومساعيه في هذا الحين كانوا يقاومونه على الدوام من أول عهده بالقيادة، إلا أنهم في وقت انتصاراته وعندما كان الجد خادما له كانوا يخلدون إلى السكينة ويقل عديدهم، ويكون أصدقاء هنيبال ومريدوه مسيطرين على كل أعمال المدينة، ولهم القول الفصل في كل أمر.
أما الآن وقد شعر الناس بمرارة ثمرات مساعيه وطموحه ونتائج اعتدائه الذي لا موجب له على أملاك الرومانيين وحقوقهم؛ فإنهم أسقطوا أصدقاءه من وظائفهم وأحلوا أعداءه محلهم، فتولى مقاوموه زمام الأمور وبذلوا كل ما في وسعهم لإبقاء هنيبال ذليلا مهانا وشريدا طريدا ما دام قد سقط، وعملهم هذا سواء كان من الوجه السياسي خطأ أو صوابا، فهو مناسب في ذاته ولا يجوز حسبانه من الأعمال التي تجعلهم جديرين بتهمة نكران الجميل أو الخيانة.
وقد يحمل المرء على الظن أن كل آمال هنيبال وما يصبو إليه من العودة إلى مكافحة عدوه الروماني العظيم قد خابت، والآن أصبح يائسا من ذلك منقطع الرجاء، وأنه قد عول على ترك الخلاف والإعراض عن كل ما يجدد الحروب واستسلم للأقدار، مكتفيا باتخاذ مقر يلتجئ إليه ويقضي فيه بقية أيامه بسلام، قانعا بإنقاذ نفسه من شفار السيوف بعد تلك الأخطار التي تعرض لها، وأفلت منها وحماية شخصه من انتقام أعدائه.
ولكن من الصعب قمع تلك النفس الكبيرة وإخضاع تلك الشخصية التي لا تحتمل الضيم، ولا تصبر على الأذى، وإخماد جمرة ذلك النشاط العجيب والهمة التي لا تثبطها الأهوال، فهو كان غير ميال إلى السكون والرضا بما قسم له، وهكذا فإنه حالما وجد نفسه في دار الملك أنتيوخوس بدأ بإعداد خطط جديدة ليشهر الحرب على رومية، وعرض على الملك السوري إنشاء قوة بحرية، وتقليده زمام قيادتها.
وقال للملك أنتيوخوس: إنه إذا أعطاه مائة سفينة وعشرة آلاف أو اثني عشر ألف رجل، فإنه يقود تلك الحملة بنفسه، ولا يشك مطلقا في اقتداره على استعادة المكانة التي خسرها وعلى إذلال عدوه القوي القديم مرة أخرى، وقال إنه يذهب بذلك الجيش والأسطول إلى قرطجنة أولا؛ لكي يحصل على مناصرة بني قومه في مسعاه الجديد، ثم يزحف على إيطاليا حيث يسترجع فيها دون أقل ريب ما كان له من التفوق في الماضي.
وكانت غاية هنيبال هذه من الذهاب إلى قرطجنة بجيشه السوري أولا مقصودا بها البطش بأعدائه هناك، وإعادة مريديه إلى تسلم أزمة الحكومة، ولكي يمهد السبيل لذلك مقدما ويكون على يقين من الفوز بما صمم عليه، وجه إلى قرطجنة رسولا في السر، بينما كان يفاوض أنتيوخوس في أمر الحملة على رومية؛ لكي يطلع أنصاره على الخطة الجديدة التي يفكر فيها، وعلى عظيم رجائه بحصوله على ما يريده من هذا القبيل.
وأدرك هنيبال أن خصومه في قرطجنة سوف يتوقعون مثل هذه الحركة الجديدة منه ويعدون له الأرصاد؛ ولهذا لم يكتب رسائل ولا سطر شيئا مما أراد إبلاغه على الورق لعلمه أن ذلك يفضح سره، ويعلن تدابيره للملأ فيفسد أمره عليه وتروح مساعيه ضياعا، وعلى هذا أوضح للرسول كل شيء وأطلعه على مراميه وخطته بالتفصيل الوافي، وأفهمه بكل دقة كيف يبلغ ذلك إلى الأنصار.
ولا يخفى أن حكومة قرطجنة كانت تراقب ساهرة لتقف على حركات هنيبال، وقد بثت الجواسيس في كل مكان؛ لكي يستطلعوا طلع أخباره وما يعول عليه، وكان أن أولئك أعلموا الحكومة بوصول ذلك الشخص الغريب فسارعت لفورها إلى اتخاذ الوسائل الفعالة للقبض عليه، وكان هو أوفر منها حيطة وأكثر حذرا فدرى من تجواله في المدينة بما تعده له من المهالك، وصمم النية على إطلاق ساقيه للريح.
Unknown page