والحادثة الأخرى كانت أقل أهمية من هذه، فإن سربا من النحل طار إلى المعسكر، وتعلق في شجرة قائمة فوق مضرب سيبيو، فعد الجند هذا علامة لنكبة تصيبهم قريبا ولهذا خارت قواهم وتولاهم الهلع، ومن أجل هذا كانوا ينتظرون المعركة بخوف واحتساب، بينما كان جنود هنيبال يتوقعونها بشوق وابتهاج وهم شديدو الرغبة في ملاقاة العدو.
أخيرا دنا وقت المعركة واحتدمت نارها بغتة وعلى غير انتظار أحد الجانبين؛ ذلك أن فرقة من جنود كل جيش كانت تزحف متقدمة نحو معسكر الجيش الآخر قريبا من نهر تيسينوس للاستكشاف، والتقيا بالصدفة فبدأت المعركة من تلك الدقيقة، فزحف هنيبال بكل قوته كالسيل الجارف وأرسل فرقة من جيشه في ذات الوقت؛ لكي تهاجم عدوه من الوراء.
عندئذ أخذ الرومانيون في التراجع إلى الوراء بدون انتظام، وأدى بهم التشويش إلى اشتباك الفرسان والرجالة معا فداست خيل الفرسان المشاة وجمحت الخيل لخوفها من الرجال وضوضائهم، وفي خلال ذلك الارتباك أصيب القائد الروماني بجرح، ومن المعلوم أن سيبيو كان قنصلا وهو من رجال البلاد الجديرين بالحرمة والإكرام والرعاية ومقامه أشبه بمقام نصف ملك، فلما علم الضباط والجنود بأن القنصل قد جرح ارتعدوا واضطربوا، وشرعوا في التقهقر إلى الوراء لا يلوون على شيء.
وكان لسيبيو ابن لا يزال في ريعان الشباب اسمه سيبيو أيضا، وكان يحارب بجانب والده عندما جرح، فأسرع إلى حماية والده واحتمله إلى وسط فرقة من الفرسان التي كانت تقيه ضربات العدو، وهي في الوقت نفسه تتراجع شيئا فشيئا، والعدو يلاحقها بضرب يقد الدروع إلى أن وصلت بقائدها الجريح إلى المعسكر، حيث ارتاح الجيش الليل بطوله، وهناك شرع الرومانيون في تحصين موقفهم، أما هنيبال فلم ير من الحكمة اللحاق بهم ومهاجمتهم هناك.
وصبر هنيبال إلى الصباح، أما سيبيو فلما رأى أنه قد جرح وأن جيشه قد خام وتضعضع لم يشأ الصبر إلى الصباح، بل سار وجيشه عند منتصف الليل متراجعا إلى الوراء تحت ستار الظلام، وأبقى نيران المعسكر مضطرمة وبذل كل عناية؛ لكيلا يدري القرطجنيون بتراجعه ويلاحقوه، فسار الجيش الروماني خفية وبغاية الهدوء إلى أن بلغ النهر، وعبروه على نفس الجسر الذي ابتنوه هناك .
ولما أصبحوا على الجانب الآخر منه قطعوا قيود الجسر في الحال واحتملته المياه إلى نهر «بو»، ومن هناك إلى بحر أدريا حيث طاردته الأرياح إلى الشاطئ في آخر الأمر، واستيقن الرومانيون من أنه لم يعد لهنيبال وسيلة تساعده على عبور النهر واللحاق بهم.
الفصل السابع
جبال أبنين
عندما أحس هنيبال في صباح اليوم التالي أن سيبيو وجيشه قد تركوا مواقفهم جد على الفور في اللحاق بهم؛ لكي يوقفهم قبل أن يصلوا إلى النهر إلا أنه وصل متأخرا؛ لأن معظم الجيش الروماني كان قد عبر إلى الضفة الأخرى، ولم يبق منه سوى فصيلة عددها بضع مئات من الرجال كانت قد بقيت على جانب هنيبال من النهر لحراسة الجسر إلى أن يعبر كل الجيش؛ لكي يساعد في قطع أوصال الجسر.
فأتمت تلك الجنود مهمتها هذه قبل وصول هنيبال، ولكنها لم تتوفر على الوقت للنجاة إلى الجانب الآخر من النهر، فلما وصل هنيبال وقعوا أسرى في يديه، وبهذه المعركة وبتقهقر سيبيو إلى ما وراء نهر «بو» تغيرت أحوال الرومانيين والقرطجنيين فيما يرمون إليه؛ لأن كل الشعوب القاطنة في شمال إيطاليا التي كانت إما خاضعة للرومانيين أو موالية لهم قد مالت إلى هنيبال، فأرسلوا بعوثا إلى معسكره يعرضون عليه ولاءهم ومناصرتهم.
Unknown page