وحماة فجهز 2500 مركبة، وكان يحب الحيلة أكثر من الحرب، فأرسل إلى رعمسيس ملك مصر رجلين أعرابيين يقولان له إن موتنار قد هرب إلى حلب، وإن رؤساء العشائر قد خذلته، فاغتر رعمسيس بذلك وسار بجيوشه حتى بلغ طرة العاصي، فخرج له موتنار بكمين عظيم فشتت جيش المصريين. لكن رعمسيس أظهر بسالة مدهشة فاخترق جيش الحثيين ثماني عشرة مرة حتى جمع عسكره إليه، فاستمر القتل وحمي الوطيس، فدارت الدائرة على الحثيين فقتل منهم ألوف، وغرق في نهر العاصي خلق كثير وفي جملتهم ملك حلب، فاضطر ملك الحثيين أن يطلب الصلح متذللا، فأجابه ملك المصريين إليه ثم عاد إلى مصر ظافرا غانما.
ثم نشبت الحرب أيضا بين سكان القطرين فدامت 15 سنة، قتل في أثنائها ملك الحثيين وخلفه أخوه «كيتامار»، فعقد مع المصريين صلحا على أن تكون كلتا الدولتين عونا للأخرى على العدو وأن لا تغزو إحداهما الأخرى، وتزوج رعمسيس بابنة كيتامار تأكيدا للمودة، ودام السلم إلى زمن رعمسيس الثالث، فأثار عليه ملك الحثيين حربا جمع فيه عسكرا جرارا وقصد مصر، فانكسرت عساكره وأخذ هو أسيرا وبقي في الأسر مدة، وما زالت نيران الثورة تشب بين القطرين وتخمد حتى أطفئت من جهة القطر المصري، وأوقدت من جهة سكان بابل ونينوى وهاتيك الجهات.
في سنة 1130 قبل الميلاد كان المالك لجهات بابل «تجلت فلاصر»، فأحب أن يملك بلاد الحثيين فغزاها بعدد وعدد، وبعد عوده لبلاده حفر على تمثال في بابل هذه العبارة:
أنا تجلت فلاصر المحارب الشريف ذللت بلاد «سوبير» الفسيحة، وقد استحوذ أربعة آلاف رجل من فصائل الحثيين العصاة على مدينة سوبرتا فروعتهم مخافة سلاحي، فأذعنوا وذلت رقابهم لنيري فغنمت أموالهم، وأخذت مائة وعشرين من مركباتهم ووهبتها لرجال بلادي، وجيشت جنودي المظفرة وزحفت إلى بلاد آرام، وسرت حتى مدينة «كركميش» في بلاد الحثيين، فعبرت الفرات، ووضعت بهم ملحمة كبرى، وغنمت من عبيدهم وأموالهم ما لا يدركه عدد، وافتتحت بعض مدنهم ونهبتها وحرقتها، وسرت إلى جبل اللكام فنكلت بأهله ونهبت أموالهم فدانوا لي صاغرين.
انتهى.
ثم عاد إلى بلاده فتبعه خلق من جبل اللكام مؤثرين الموت على الحياة فعاد إليهم وشتت شملهم وخرب بعض بلادهم. وفي سنة 883 قبل الميلاد كان الملك على بلاد الآشوريين البابلين «أشورنسيربال»، فسار إلى البلاد السورية أيضا غازيا، وقد وجدت كتابة غزوته هذه على الصخر، وهذه هي: «وسرت بجيشي على جانبي العاصي أياما إلى أن بلغت لبنان.» فقد مر على حماة وحاربها لأنه ذكر في عبارة أخرى أنه أخضع أكثر ملوك سوريا وبلادها.
ثم كان بعده ابنه «سلمناصر»، وهذا هجم أيضا بعساكره على البلاد السورية حتى وادي العاصي، وكان أهله قد استعدوا لحربه فشتت شملهم، وقتل منهم 1600 رجل، وأسر 4000 أسير واستاقهم إلى نينوى، فتبعه سكان وادي العاصي بجيوش عديدة وقوة عظيمة، فأعاد الكرة عليهم وقتل منهم خلقا كثيرا. ولم يزل سائرا بجيوشه حتى بلغ حماة فخرج لحربه ملكها «أيدكولينا»، وانضمت إليه ملوك سوريا - وفي جملتهم ملك دمشق وأخاب ملك الإسرائيليين وتسعة ملوك أخر - فدارت رحى الحرب على السوريين وقتل منهم 14 ألفا، ثم تبع ملك نينوى أهل دمشق فقتل منهم 20 ألفا، وأراد قتل ملكهم فهرب إلى البحر ونزل فيه على السفن فنجا بنفسه.
ثم ملك بعد سلمناصر «نيرر» حفيده فجدد شن الغارة على السوريين، غير أن مدته لم تكن كمدة سابقيه ذات حروب هائلة. وفي سنة 745 قبل الميلاد تولى مملكة الآشوريين تجلت فلاصر الثاني، فجمع قواته وسار إلى سورية فضعضع أهلها، وجاء إلى حماة فاستسلمت له ولم يقاومه ملكها المسمى «أنبال»، فساق منها ألوفا إلى بلاده أسرى كما ساق ألوفا من غيرها، ثم عاد مرة ثانية فأذل الرقاب وهلك العباد وخرب البلاد، وقد أحصي ملوك سوريا الذين خضعوا له فكانوا 25 ملكا.
ثم ملك الآشوريين رجل يقال له سرعون، فكان بينه وبين الحثيين سكان وادي العاصي شحناء أدت إلى أن جاء إلى بلادهم فقتل منهم عالما لا تحصى، واستاق البقية أسرى فأسكنهم في بلاد نينوى مركز الآشوريين، وأسكن في وادي العاصي من قومه غيرهم وذلك سنة 717 قبل الميلاد، وبهذه المرة انقرضت مملكة الحثيين من وادي العاصي، كما انتشر بعدهم الآراميون سكان دمشق الأقدمون المنسوبون لسام؛ فلهذا يطلق التاريخ على السوريين عموما اسم الساميين؛ لأن سكان وادي العاصي وإن كانوا قديما من ذرية حام هم وسكان أرواد وصور وتلك الأماكن غير أنهم انقرضوا، ومن بقي منهم اندمج في الأكثرين وهم الدمشقيون وغيرهم ممن يسمون بالآراميين نسبة لآرام ابن سام.
صناعة الحثيين:
Unknown page