وقد أنجبت البندقية عددا غير قليل من الرسامين غير هؤلاء من «لوتو» الذي كاد يستوحي الفن البيزنطي القديم من حيث الروح والإيمان. أما من حيث الصنعة فإنه إيطالي.
الفصل العاشر
نهضة الفن في ألمانيا
دورير. هولبين
اتفقت النهضة الفنية في ألمانيا والنهضة الدينية، ولكنهما لم تشتركا ولم تتعاونا، بل سارت كل منهما في طريق ونهجت إحداهما نهجا يخالف النهج الذي اتخذته الأخرى. وبعبارة أوضح نقول: إن الكنيسة الكاثوليكية ساعدت النهضة الفنية كما لا بد أن القارئ قد لاحظ ذلك بين رجال الفن في فلورنسا والبندقية، فإن معظم أعمالهم الفنية أتموها بمساعدة الكنيسة البابوية التي تجيز تزيين جدرانها بالصور والتماثيل، بل كانت تتسامح أيضا في نقل الصور الوثنية القديمة ولا تعد هذا كفرا.
ولكن لما ظهرت البروتستانتية في ألمانيا على يد لوثر سنة 1517 كان من دعوتها تطهير الكنائس من التماثيل والصور. وقد كان وما يزال لصورة العذراء والإيمان بشفاعتها شأن كبير في الكنيسة الكاثوليكية. والعذراء من الموضوعات التي توحي إلى رجل الفن. وتجعله يصور الأنوثة والأمومة في شخص أم المسيح. ولكن الدعوة البروتستانتية قاومت الإيمان بالعذراء، وأنزلتها من مكانتها التي لها في الكنيسة الكاثوليكية. ولذلك لا نجد أن الفن يزكو في البيئة البروتستنتية كما زكا في البيئة الكاثوليكية. ويمكن مع ذلك أن نقول: إن الفن انتفع كما استضر بهذا التطبيق؛ لأنه وجه نظر رجاله إلى موضوعات أخرى لا تمت إلى الدين.
وقد رأينا نهضتين: إحداهما في إيطاليا في مدينتي فلورنسا والبندقية، والأخرى في أقاليم الفلمنك حيث عرف الرسم بالزيت. والنهضة الألمانية تعتمد على النهضة الفلمنكية أكثر مما تعتمد على النهضة الإيطالية.
وهذه النهضة الألمانية تكاد تنحصر في رجلين. هما: دورير، وهولبين.
أما «دورير» فقد ولد سنة 1471 ومات سنة 1528. وهو من أصل هنغاري، ولد أبوه في هنغاريا ولكنه رحل إلى نورمبرج وأقام بها منذ سنة 1471. ونشأ الصبي شغوفا بالرسم، فألحقه أبوه بأحد الرسامين وهو غير راض عن هذه الحرفة. ولكن عبقريته تفجرت بعد مدة قليلة، وذاعت شهرته، ورحل إلى البندقية، وهناك التقى بجوني بليني. ومما يحكى عنه وهو هناك، أن بليني أعجب بالطريقة التي يرسم بها الشعر حتى ظن أن دورير قد اخترع ريشة خاصة لرسم الشعر. فلما عرف كل منهما الآخر، طلب بليني من دورير أن يهدي إليه ريشة من تلك الريش التي يرسم بها الشعر. فأخرج له دورير كل ما عنده من الريش فإذا بها عادية. فتعجب بليني، ولم يكد يصدق ما قاله دورير حتى رسم أمامه بإحدى هذه الريش بعض هذا الشعر الذي يعجب به.
وكان في البندقية في ذلك الوقت جالية ألمانية استدعته لكي يزخرف لها بعض الأبنية الدينية الخاصة بها. وبلغ من إعجاب البندقيين له أن عرضوا عليه ما يسمى «حرية المدينة» أي أن يكون بندقيا. وقد عرضت عليه الفرس ذلك أيضا عندما زارها.
Unknown page