الإهداء
تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية
جابر بن حيان
أسلوب الفكر العلمي
معتقد أبي العلاء المعري
القصد والغاية
أحمد شوقي
مهيار الديلمي
بشار بن برد
الإهداء
تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية
جابر بن حيان
أسلوب الفكر العلمي
معتقد أبي العلاء المعري
القصد والغاية
أحمد شوقي
مهيار الديلمي
بشار بن برد
تاريخ الفكر العربي
تاريخ الفكر العربي
تأليف
إسماعيل مظهر
الإهداء
إلى أستاذي وصديقي الدكتور يعقوب صروف
إحياء لذكرى الصداقة واعترافا بما له عندي من الدين الأدبي الذي إن عجزت عن أن أؤديه إليه حيا، فلا أقل من أن أحيي اليوم ذكراه وهو في عالم الأرواح.
تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية
1
للعقل الإنساني منازع قد تسوق إلى نواح من التأمل بعيدة كل البعد عن المنزع الحقيقي الذي كان سببا في تحريك الفكر نحو النظر في المعقولات، فإذا نظرت في الخلافات التي وقعت بين النصارى لدى أول عهدهم بالوجود، لما استطعت أن تدرك بادئ ذي بدء، إلى أي حد سوف يذهب خلافهم، وتنتهي مناظراتهم.
كان الخلاف على طبيعة المسيح مبدأ مناقشات تناولتها الشيع الكنسية في القرون الأولى، وكان لاختلاف المذاهب في تلك المسألة أكبر الأثر في النظر في المعقولات وفي التأمل الفلسفي.
اشتهرت أنطاكية بأنها من أولى مدن المسيحية التي قام زعماء الدين فيها بأول حركة من تلك الحركات الفكرية، التي كانت ذات أثر كبير في شيوع الفلسفة، وفروع الفلسفة اليونانية خاصة، ذلك بعد مناظرات دينية طويلة لا محل لذكرها، وقام بالحركة في أنطاكية معلمان يقال لأحدهما: «دبودوروس» والآخر «تيودوروس المصيصي»، وكانا شديدي الاعتقاد في كمال الناسوتية في المسيح - عليه السلام.
وكان أكبر المؤيدين لهذا المذهب راهب من رهبان أنطاكية يقال له: «نسطوريوس»، انتقل إلى القسطنطينية أسقفا لها سنة 428م، وتبع تأييد «نسطوريوس» لهذه الفكرة مناقشات حادة، حتى انتهى الأمر بعقد مجلس ديني في مدينة «إفسوس» سنة 431م، فانتصر حزب الإسكندرية، وهو الحزب القائل بما يضاد المذهب النسطوري، واعتبر نسطوريوس وأتباعه هراطقة.
كان النساطرة على اعتقاد كامل في أن نظراءهم بعيدون عن حكم العقل والضرورات الطبيعية؛ لذلك سعوا بعد مضي عامين على حكم مجلس «إفسوس» إلى جمع شملهم، وعلى الرغم من مطاردتهم والاستبداد بهم، نزلوا مصر واتخذوها مقرا لبث تعاليمهم.
قبيل ذلك العهد أغلقت مدرسة «نصيبين»
1
Nisibis
أو بالأحرى انتقلت إلى «الرها»
Edessa . وفي سنة 363م سلمت مدينة «نصيبين» إلى الفرس تنفيذا للمعاهدة التي عقدت إثر الحرب التي أشعل نارها الإمبراطور «يوليانوس»، وكان أعضاء مدرستها منتشرين في الممالك المسيحية إذ ذاك، فعادوا إلى التجمع في «الرها»، وفتحوا مدرسة سنة 373م، وبذلك أصبحت تلك المدينة، ولو أنها في أرض تابعة للإمبراطورية البيزنطية مركزا للكنيسة التي ينطق زعماؤها باللسان السرياني.
أصبحت مدرسة «الرها» بعد ذلك موطنا لأفراد من زعماء النساطرة الذين لم يقبلوا حكم مجلس «إفسوس»، غير أن الإمبراطور «زينون» أغلق تلك المدرسة سنة 439م بحجة أن صبغتها نسطورية متطرفة، فلم يجد أهلها من موئل سوى الهجرة إلى البلاد الفارسية، فهاجروا تحت رئاسة كبيرهم «بارسوما» سنة 457م.
نجح «بارسوما» في أن يقنع «فيروز»
ملك الفرس بأن النساطرة يوالون أبناء فارس، ويمضون خاضعين لقوانينهم، وظلوا على عهدهم هذا عاكفين في كل الحروب التي وقعت من بعد ذلك. ثم أسس النساطرة مدرسة أخرى في «نصيبين»، فأصبحت بؤرة تشع منها التعاليم النسطورية، تلك التعاليم التي كونت وجها من أوجه المسيحية مصبوغا بالصبغة الشرقية البحتة.
ومن ثم انتشر النساطرة في جوف آسيا وبلاد العرب، ينشرون تعاليم المسيحية، ولم يكونوا عاملين على نشر المسيحية فقط، بل أرادوا أن ينشروا معها تعاليمهم الخاصة في طبيعة المسيح، فأخذوا يستعينون على بث أفكارهم بأقوال ومذاهب منتزعة من الفلسفة اليونانية، فأصبح كل مبشر نسطوري بحكم الضرورة معلما في الفلسفة اليونانية، كما أنه مبشر بالدين المسيحي.
ترجم النساطرة كتب زعمائهم، وعلى الأخص كتب «تيودوروس المصيصي» إلى السريانية؛ ليستعينوا بها على بث أفكارهم، ولكنهم لم يقتصروا على ذلك، بل ترجموا كثيرا من كتب أرسطوطاليس والذين علقوا عليها؛ لأنهم وجدوا فيها أكبر نصير يشد عضدهم في فهم المسائل اللاهوتية العويصة، التي كانوا يبشرون بها بين أمم لم تشم من ريح المدنية إلا قدرا يجعل نشر مثل تلك التعاليم متعذرا، ما لم يستعن عليها بمبادئ من الفلسفة ومباحث في التأمل.
غير أن كثيرا من تلك التراجم قد صب في قالب لم يراع فيه نقل الفلسفة اليونانية لذاتها، بل اتخذت التراجم ذريعة لبث مذهب ديني، هو مذهب النساطرة، والطعن في قياصرة الروم، والكنيسة الرومانية، فقلت الثقة بالنقل من هذه الوجهة وحدها، حيث كانت الضرورة تقضي بأن يختلط قليل من الفلسفة بكثير من تعاليم المذهب النسطوري أو بالعكس؛ للاستعانة بذلك على بث المذهب الديني، وهو الغرض الرئيسي.
تلك كانت النواة التي أشعت بالفلسفة اليونانية، وعلى الأخص بفلسفة أرسطوطاليس والأفلاطونية الجديدة في جو آسيا خارج حدود الإمبراطورية البيزنطية، وسوف نرى في سياق هذا البحث كيف أن جماعة من مترجمي النساطرة كانوا أول من نقل تلك الفلسفة من السريانية إلى اللغة العربية، وبذلك انتشرت في العالم العربي كله.
غير أنك تجد رغم هذا أن في الحركة النسطورية أوجها من النقص شأن كل شيء يصدر عن الإنسان، فإن انبتات صلاتها بالعالم اليوناني خارج الإمبراطورية البيزنطية، جعل حركتها التعليمية مصبوغة بصبغة الانحصار في بقعة محدودة من آسيا.
أما «نسطوريوس» فإنه إن كان قد اتهم أمام الكنيسة، وصدر حكم مجمع «إفسوس» عليه، فإنه ترك الكنيسة أمام مشكلة من مشاكلها العظمى، التي ظلت تعمل في رءوس الناس زمانا، حتى انتهت المناقشات الشيعية بمجمع آخر عقد في سنة 448م بمدينة «خلقيدونية»
Chalcedon ، وكانت نتيجته أن أخرجت فئة أخرى من الكنيسة الرئيسية هم فئة المعتقدين بالطبيعة الواحدة في المسيح
Monophysites .
والظن الغالب على كثير من المؤرخين أن الكنيسة المصرية قد تبعت القائلين بالطبيعة الواحدة، ففي القرن السادس قام يعقوب السروجي وأنشأ شيعة اليعاقبة، وهو الذي كون الكنيسة اليعقوبية المصرية، وجمع شمل أعضائها وأقام أسسها، وأكبر دليل على ذلك أن اسم «أقباط» مشتق من يعاقبة، فإن اسم هؤلاء في العالم اللاتيني «جاكوبيت»، وأقباط أقرب الأشياء تحريفا إليه.
اضطهدت إمبراطورية بيزنطية الشيعة اليعقوبية، ولكن أعضاءها لم يخرجوا عن حدود الإمبراطورية، بل ظلوا داخلها كقسم مستقل بصورة خاصة من أصحاب الطبيعة الواحدة
Monophysites
وأرسلوا طائفة منهم خارج الإمبراطورية تبث تعاليمهم، على أن هؤلاء قد اتبعوا نفس الطريقة التي اتبعها النساطرة في ترك لغة نظرائهم في الدين، وعمدوا إلى استعمال اللغة القبطية واللغة السريانية، والحق أن عصر اللغة السريانية الذهبي لا يبدأ إلا برجوع اليعاقبة عن استعمال اللغة اللاتينية إلى اللغة السريانية.
والظاهر لكل من درس علم اللغات أن هنالك فاصلا حقيقيا بين اللغة السريانية كما استعملها اليعاقبة في الغرب والنساطرة في الشرق؛ فإن اليعاقبة قد انتحلوا لهجات حديثة، يغلب أن يكون السبب فيها راجعا إلى طبيعة استيطانهم وتوزعهم الجغرافي.
إذا اعتبرنا النتائج التي حدثت من خروج النساطرة واليعاقبة، استطعنا أن نفهم لماذا ترجمت أعمال الفلاسفة اليونان إلى اللغة السريانية، بينا نجد أن الحركة النسطورية قد أصبحت بالتدريج الوسط الذي تركزت فيه ثمار التثقيف اليوناني، وانتشرت في آسيا خارج حدود الإمبراطورية البيزنطية خلال بضعة القرون التي تقدمت انتشار الإسلام.
ولا خفاء في أن تعاليم أرسطوطاليس وأتباعه المشائين، وكذلك تعاليم فلاسفة المدرسة الأفلاطونية الجديدة، كانت ذات أثر بارز في التأثير على كل من تعمد الخوض في معارك الطوائف الدينية في ذلك الزمان، وكذلك منطق أرسطوطاليس، فإنه كان كبير الفائدة وعليه بنيت طريقة الجدل التي اتخذها زعماء الدين ذريعة لإثبات مزاعمهم.
وبعد أن انفصل النساطرة واليعاقبة عن لغتهم الأصلية، نقلوا كثيرا من الكتب المسيحية إلى اللغة السريانية، فأصبح في هذه اللغة مجموعة كبيرة من المؤلفات الفلسفية والعلمية والدينية، على أن السبب في أنه لم ينقل إلى اللغة القبطية من المؤلفات بقدر ما نقل إلى اللغة السريانية، أن اليعاقبة في مصر لم تدعهم الحالات إلى مواجهة مسائل معضلة في الدين، كما كان النساطرة في آسيا.
كان العصر الواقع بين بدء المجادلات الدينية في الكنيسة المسيحية، وظهور الرغبة عند المسلمين في درس الفلسفة، عصر ترجمة وإنتاج ذهني، علق خلاله على كثير من مسائل الفلسفة، واستعرضت فيه طائفة كبيرة من أفكار اليونان ومذاهبهم، ولم يعن الناقلون في ذلك العصر بالفلسفة وحدها، بل عمدوا إلى الطلب وعلم الكيمياء والفلك، فترجموا في تلك العلوم كثيرا؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن بين الطب وبين الكيمياء والفلك آصرة قريبة ونسبا أدنى، فكانوا يقولون بأن لعلم الفلك من الوجهة الطبيعية علاقة بنشوء الأمراض، وحالات الحياة والموت والصحة والمرض.
كانت المباحث الطبية أكثر ذيوعا في مدرسة الإسكندرية منها في أية مدرسة أخرى، أما الفلسفة بمعناها الحقيقي، فكانت علاقتها باللاهوت مباشرة، حتى اضطر دارسو العلوم إلى أن يفصلوا بين مباحثهم وبين الفلسفة بقدر ما كان ذلك في المستطاع، على ما كان عليه الفكر في تلك العصور من عدم القدرة والعجز عن التفريق بين كفايات العقل البشري.
كان «يوحنا فيلوبونس»
John Philoponus
أو يوحنا النحوي
2 - كما يدعوه العرب خطأ - من متأخري الذين علقوا على أرسطوطاليس، كما كان من أوائل الذين درسوا الطب في مدرسة الإسكندرية، والسنة التي توفي فيها غير معروفة، ولكن المحقق من أمره، أنه كان يدرس في مدرسة الإسكندرية في الوقت الذي أغلق فيه الإمبراطور «يوستنيانوس» مدارس أثينا سنة 529 ميلادية.
ومن مشهوري فلاسفة الإسكندرية «بولس الأجانيطي»
Aeginae ، وكان يدرس في الوقت الذي وقع فيه الفتح العربي، وظلت كتبه زمانا طويلا تدرس في مدرسة الإسكندرية كمتون ذات قيمة كبيرة في علم الطب، وكان أعلام المدرسة قد رسموا برنامجا، لعله الأول من نوعه في تاريخ الدرس والتحصيل لتدريس الطب، يدرسه كل من أراد أن يزاول تلك الصناعة عمليا.
ولذلك انتخبوا ست عشرة مقالة من مقالات «جالينوس»، وترجموها ليؤلفوا منها برنامج الطب في المدرسة، ثم اختصروا بعضها واتخذت المختصرات كرءوس موضوعات تلقى على نسقها المحاضرات التعليمية شرحا وتفصيلا. وغالب الظن أنهم ما نزعوا إلى اختصار مقالات «جالينوس»، واتخاذها رءوس موضوعات فقط، إلا لما أنسوا في أنفسهم وفي أساتذتهم من قوة الابتكار والتعمق في الدرس، لأبعد مما كان يحدده لهم «جالينوس» في مقالاته، وفي ذلك الزمان أصبحت مدرسة الإسكندرية منبعا للكثير من الأبحاث المبتكرة المحققة النفع، لا في مادة الطب وحدها، بل في علم الكيمياء، وكثير من العلوم الطبيعية. وما أشبه مدرسة الإسكندرية قبيل الفتح العربي بخلية تدوي بمختلف البحوث العلمية.
بيد أن هذه الحركة الطيبة لم تخل من نتائجها الرجعية، على ما كان فيها من نزعة إلى العلم والفلسفة والتنوير الذهني، فإن التقاليد - وأجدر بها أن تؤثر في ذلك العصر أضعاف تأثيرها في عصرنا هذا - قد أفسدت بعض وجوه العلم والفلسفة، فنزعت فئات إلى ناحية «الجمود الفلسفي»
ابتغاء الضغط على العقول والرجوع بها إلى العالم المجهول من الفلسفة، على اعتقاد أن إدراكه من طريق الطلسمات وفن التنجيم مستطاع على الأقل.
هذا هو السبب المباشر في كثرة ما تقع عليه عند العرب من ضروب المفاسد والشعوذة، وفي كل ذلك يقول كبار المؤرخين: إن الذنب في ذلك ليس ذنب الإسلام ولا المسلمين، ولا ذنب العقل السامي، ولكنها وراثة ورثها العرب عن الإسكندرية بعد الفتح العربي، كما ورثتها جامعة «بادوى»
الأوروبية في القرون الوسطى عن العرب.
كان أول احتكاك للعرب بالآراء اليونانية في مدينة الإسكندرية؛ لذلك كانت وراثتهم منها أقرب من وراثتهم عن سوريا، ولهذا انتشر عندهم التنجيم، ودلف العرب بقدمهم في مفاوزه الوعرة، وظلوا عليه عاكفين حتى آخر عصور مدنيتهم؛ ذلك لأن نجم الإسكندرية في العلم قد أطفأ أنوار السريانية، وأخص ما يأخذ بلب الناس في مثل تلك الحالات خداع الشهرة وبعد الصيت؛ لهذا أكب العرب تحت تأثير تلك العوامل على نواتج العقل في الإسكندرية، دون ما تضمنت السريانية من مباحث العلم والفلسفة.
في وسط هذه الصورة الذهنية نبتت مؤلفات «بولس الأجانيطي» الذي مر بنا ذكره، وقد ظلت مؤلفاته طوال العصر العربي والعصر اللاتيني في القرون الوسطى مادة التعاليم الطبية.
كذلك كانت مدرسة الإسكندرية منبتا لعلم الكيمياء، ففيها تكونت النواة الأولى التي استمد العرب منها، سواء أفي هذا العلم، أم فيما تفرع منه من الفنون الأخر، التي كثيرا ما امتزجت بالخيالات والأوهام، وفي ذلك يقول المؤرخ الكبير مسيو «برتيلو»
Berthelot
في كتابه «الكيمياء في القرون الوسطى»، الذي طبع بباريس سنة 1893: «إن المادة العربية في الكيمياء تنقسم إلى قسمين: الأول مترجم أو مأخوذ عن كتاب اليونان الذين كتبوا في مدرسة الإسكندرية، والثاني يمثل مدرسة عربية ثانية مستقلة المباحث عن الأولى.»
وبينما كانت مدرسة الإسكندرية غارقة في المباحث الطبية، كانت كنائس آسيا وأديرتها ومدارسها، ممعنة في المباحث المنطقية والفلسفية التأملية.
وكان من الطبيعي أن يأخذ اليعاقبة عن تعليقات «يوحنا فيلوبونس» في تدريس علم المنطق؛ لعلاقتهم بمصر أولا، ولأن فيلوبونس من شيوخهم ثانيا.
غير أنهم لم يفعلوا لك، بل رجعوا والنساطرة إلى مختصر «فرفوريوس الصوري» في المنطق المسمى «إيساغوجي»، وأخذوه كمدخل لعلم المنطق، ولا يزال هذا الكتاب يقرأ في الأزهر حتى اليوم كمدخل لذلك العلم.
أما في الميتافيزيقا «ما وراء الطبيعة» والبسيكولوجيا «علم النفس»، وتطبيقهما على علم اللاهوت، أو في الاستعانة بهما على فهم المسائل اللاهوتية، فقد كان ميل اليعاقبة إلى الأفلاطونية الجديدة والباطنية أقوى من ميل النساطرة، كما كانت حياتهم وتعاليمهم أكثر استكانة في الأديرة، في حين أنك تجد أن النساطرة قد نزعوا إلى الطريقة القديمة في تأسيس المدارس، ولو أن ذلك لم يحل دون اتخاذهم أديرة، كانت بدورها منبتا للعلم والفلسفة. وإذ أنت على ذلك إذا بك تجد أن نظام المدارس قد انقلب في آخر الأمر إلى نظام الرهبنة.
كانت مدرسة «نصيبين» أقدم مدارس النساطرة وأعظمها جميعا، غير أن «مارأ بها»
MarAbha
وهو زرادشتي تنصر، وسيم أسقفا نسطوريا، أسس مدرسة في «سلوقية» على نظام مدرسة «نصيبين».
وبعد ذلك بقليل أسس «كسرى أنوشروان» ملك الفرس المشهور مدرسة زرادشتية في «جنديسابور» من أعمال «خوزستان»، وحكم «أنوشروان» بين 531-578 من الميلاد، وكان قد تأثر بتعاليم اليونان، حينما كان يحارب سورية البيزنطية، فأضاف جمعا من الفلاسفة اليونان، والفلاسفة العارفين بالفلسفة اليونانية، عندما أغلق الإمبراطور «يوستنيانوس» الهياكل والمدارس في أثينا.
وكان الذين وفدوا على «كسرى» من الفلاسفة سبعة، فأكرم وفادتهم وأضافهم، وأمرهم بتأليف كتب الفلسفة أو نقلها إلى الفارسية؛ فنقلوا المنطق والطب، وألفوا فيهما كتبا، فطالعها هو ورغب الناس فيها (راجع الفهرست ص242)، على أن في رواية صاحب الفهرست شكا كبيرا، إذ كيف ينقل الفلاسفة اليونان الوثنيون الذين لا احتكاك لهم بالفارسية، وعلى الأخص الفهلوية، كتب المنطق والطب إلى لغة فارس، في حين أن الراجح ألا يكون لهم إلمام إلا بلغتهم اليونانية القديمة، يبقى ذلك الشك ما لم يثبت أن الفلاسفة اليونان كان لهم سابقة في دراسة الفارسية في عصر متقدم على عصر أنوشروان.
ويقول بعض المؤلفين: إن أنوشروان عقد المجالس للبحث والمناظرة، كما فعل المأمون من بعده بقرنين ونيف، حتى «خيل للإغريق الذين جالسوه أنه من تلامذة أفلاطون»، أما عقد أنوشروان لمجالس العلم فذلك محتمل؛ لأن أخباره مع وفود العرب وعقد المجالس لهم معروفة مشهور أمرها بين الأدباء، أما بقية الرواية فأمر مشكوك فيه؛ لأن عهد أنوشروان بفلسفة اليونان كان قصيرا إلى حد لا يعقل أن يبرز فيه أنوشروان في الفلسفة إلى هذا المدى القصي، ومما يجعل الرواية أدخل في الشك أن أفلاطون علم في القرن الرابع قبل الميلاد، ولم يعقد أنوشروان مجالس الفلسفة والعلم إلا في القرن السادس بعد الميلاد؛ فكيف يخيل إلى الفلاسفة اليونان الذين حضروا مجلسه أنه تلميذ من تلامذة أفلاطون، في حين أن تلاميذ أفلاطون كان قد أكلهم البلى من قبل ذلك بألف عام؟
والذي ذكر هذه الرواية العلامة «غيبون» مؤرخ سقوط الدولة الرومانية (راجع كتابه تداعي الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، طبعة سنة 1813، جزء ثان ص298-307). على أن «غيبون» لا بد من أن يكون قد استسقى هذه الرواية من كتاب عربي قديم.
3
ومما يدلك على اهتمام «أنوشروان» بأولئك السبعة الذين وفدوا عليه من فلاسفة اليونان، أنه وضع في المعاهدة التي عقدها والإمبراطورية البيزنطية نصا خاصا بهم، ضمن لهم به حريتهم المدنية والدينية، وعدم الاستبداد بهم فيما لو أرادوا العودة إلى وطنهم.
كان هؤلاء الفلاسفة من الآخذين بتعاليم «الأفلاطونية الجديدة»
Neo-Platonism
على أن أثرهم في الحياة الفارسية غير معروف بالضبط، فإلى أي حد تذهب هذه التعاليم في التأثير على صور التصوف التي ظهرت في فارس فيما بعد؟ ذلك ما أخذت المباحث الجديدة تجلو عنه الأستار . فقد كتب العلامة «نيكولسون» في كتاب «أشعار منتخبة من الديوان» طبع كمبردج 1898 شيئا يكشف عن تلك الآصرة التي تربط بين «الأفلاطونية الجديدة»، والباطنية كما أخذ بها في فارس.
وعقب عليه الأستاذ «ديلاسي أوليري» فدبج في مؤلفه الذي طبع سنة 1920 عن الفكر العربي فصلا في الصوفية، هو الفصل السابع من ذلك الكتاب (ص181-207) أوضح فيه أواصر العلاقة بين الباطنية المبثوثة في تضاعيف «الأفلاطونية الجديدة»، وبين الباطنية الفارسية في العصر الوثني، وما كان من أثرها فيما بعد على صور التصوف التي اختصت بها فارس وأبناء العرب بعد الإسلام.
وكان أساس التعليم في مدرسة «جنديسابور» غير مقصور على المؤلفات اليونانية والسريانية، بل أضيف إلى ذلك تعاليم من فلسفة الهند وآدابها وعلومها، ترجمت إلى اللغة الفهلوية، وهي اللغة الفارسية القديمة، وهنالك نمت علوم الطب حين تخلصت من جو الضغط والاستبداد الذي حوطتها به التعاليم اللاهوتية. ومن غريب الأمر أن يكون من أشهر الذين علموا الطب في ثوبه الجنديسابوري الحديث فئة من أشهر النساطرة المسيحيين.
ومن الذين اشتهروا من العرب قبل الإسلام في مدرسة «جنديسابور» الحارث بن كلدة الذي عرف من بعد كطبيب، وابنه «النضر» الذي ذكره الرئيس ابن سينا كأحد أعداء سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - وكان مع الذين هزموا يوم «بدر»، فأسر وقتله علي بن أبي طالب صبرا، على رواية أبي إسحاق الحصري القيرواني (راجع زهر الآداب ص27 مجلد أول). فعرضت للنبي
صلى الله عليه وسلم
أخته قتيلة بنت الحارث فأنشدته:
يا راكبا إن الأثيل مطية
من صبح غادية وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية
ما إن تزال بها النجائب تعنق
مني إليك وعبرة مسفوحة
جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته
إن كان يسمع ميت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشقق
قسرا يقاد إلى المنية متعبا
رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد ها أنت صنو كريمة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من قتلت قرابة
وأحقهم إن كان عتق يعتق
أو كنت قابل فدية فليفتدى
بأعز ما يغلى به من ينفق
وقتل علي بن أبي طالب للنضر صبرا - أي حبسا - غير صحيحة على ما يظهر من شعر أخته قتيلة، فإنها تقول:
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
أي تنهل منه وتنال، وما يدل عليه الشعر إن صحت نسبته إلى قتيلة، أنه أسر أولا، وربما حبس كظاهر قولها:
قسرا يقاد إلى المنية متعبا
وأنه قتل من بعد ذلك طعنا بالسيوف، أما ما يغمز به بعض الأدباء في نسبة الشعر إلى قتيلة فتنم عن بطلانه ديباجة الشعر ورنة الحزن العميق، وفرط الأسى والشجن، وهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار،
4
فنسبه يلتقي ونسب سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - في الجد الثالث. •••
ممن ذكر «الرازي» من أعلام مدرسة جنديسابور من أبناء الهند «شركة»
Sharak
و«قلهومن»
Qolhoman
ومنهم هندي يقال له: «شاناك»
Ganak
كتب رسالة في السموم ترجمها من بعد أحد التراجمة ليحيى بن خالد البرمكي إلى الفارسية، ومن بعد ترجمت إلى العربية للخليفة المأمون بن هارون الرشيد.
وترجمت في عصر هارون الرشيد بواسطة طبيبه الخاص بضعة كتب عن السنسكريتية إلى العربية في علم الطب، حتى إنه من المتعذر أن تعرف أصل التعاليم الشائعة في الطب العربي إن كانت مستمدة من الإغريق أم من الهند، أم هي مبتكرة، إلا بعد طول المزاولة والصبر على تفهم حقيقتها وطبيعتها ومقارنتها بمنازع الآراء المستمدة من كل من تلك النواحي.
وفضلا عن المدرستين المسيحية والزرادشتية، فقد وجدت مدرسة وثنية في «حران»، ولا يعلم كيف نشأت، وكيف تطورت! ولا من وضعها، وأقام أسسها! وكانت حران مركزا للتأثير الإغريقي منذ عصر الإسكندر المقدوني الأكبر، وظلت موئلا لتعاليم الديانة اليونانية القديمة، بعد أن انقلب العالم اليوناني الوثني إلى عالم نصراني، والظاهر أن «حران» قد ورثت كثيرا من تعاليم الديانة البابلية القديمة التي كانت قد انتعشت في القرون الأولى من انتشار المسيحية، إلا أن صور تلك الديانة القديمة قد ذهبت بها تطورات الديانة اليونانية الوثنية كما فهمتها «الأفلاطونية الجديدة»، وكما وضعها زعماء تلك الفلسفة في مدينة الإسكندرية، ولا مشاحة في أن حالات الفكر في «حران» تمثل آخر أدوار الوثنية اليونانية والأفلاطونية الجديدة، كما وضعهما «فرفوريوس الصوري» حيث ظلتا عائشتين ممدتين بكل أسباب الحياة، عيشة بعيدة عن معترك العالم الخارج عن حيزهما.
وعلى الرغم من المدارس التي علمت على النسق اليوناني، وأذاعت مواد الثقافة اليونانية، فقد اقترنت التعاليم بكثير من المؤثرات الأخر التي لا يمكن لمؤرخ في تاريخ الفكر أن يغفل أمرها، فإن الجنود الفارسية عندما رجعت من غزو سورية نقلت معها كثيرا من آثار الفكر اليوناني، وطائفة من مظاهر الرفاهية اليونانية.
وكذلك طبعت نفوس أبناء فارس بعد تلك الغزوة بطابع من الإعجاب بالفن اليوناني وهندسة البناء اليونانية، وكان المهندسون والبناءون اليونان الذين أسروا في الحرب أثمن ما رجع به الجيش الغازي من المغانم، حتى إن بلاد فارس بدأت بعد تلك الغزوة تدخل نسق البناء اليوناني فيما تشيد من المباني.
إذن فتاريخ القرون التي تقدمت انتشار الإسلام يدل على ذيوع قسط عظيم من التأثير اليوناني في كثير من فروع الفن والعلم والفلسفة والهندسة والبناء، وفي زخارف الحياة ذاتها، ومن قبل ذلك منذ عصر الإسكندر المقدوني، كان غربي آسيا لا يتنفس إلا في جو مفعم بآثار الفكر الإغريقي.
2
مر بنا من قبل ذكر «بارسوما» الذي قاد الهجرة النسطورية إلى بلاد فارس، وافتتح مدرسة «نصيبين»، كان لذلك الرجل معلم يقال له: «إيباس»، هو القوة المحركة والعقل المفكر في مدرسة «الرها» في أواخر أيامها، ويظهر من المقارنة التاريخية أنه أول من ترجم «إيساغوجي» مختصر «فرفوريوس» في المنطق إلى السريانية.
ويعتبر هذا الكتاب مدخلا لمنطق أرسطوطاليس كما قدمنا، ويدل ذلك على أن المنطق كان يعتبر العلم الرئيسي الذي عني بتدريسه النساطرة، والظن الغالب أنه لم يكن ليقل اعتباره في نظر اليعاقبة عند ذلك.
وفي ذلك الوقت ظهر «بروبوس»
فعلق على كتاب «الإيساغوجي»، كما علق على بعض كتب أرسطوطاليس، ومنها «إرمانوطيقا»
Hermeneutica
أي العبارة، أو كما يقولون «باري أرمنياس» و«سوفسطيقا»
Sophistica «وأناليطيقا الأولى»
Analytica priora
أي القياس، فكانت هذه التعليقات بمثابة متون يرجع إليها طلاب المنطق في بلاد السريان.
ومن الوصف الذي خصت به التراجم السريانية عن أرسطوطاليس تعرف أن العرب لم يقتصروا على النقل عنهم إلى العربية، بل اتبعوا نفس الطريقة، وذات الأسلوب الذي تبعه المترجمون إلى السريانية، لا في تراجمهم فقط، بل في مؤلفاتهم أيضا.
كان من عادة المعلقين على أرسطوطاليس قبل العصر العربي أن يأخذوا مقطعا قصيرا من متنه المترجم إلى السريانية، وقد لا يزيد عن بضع كلمات، يعلقون عليه بإطناب، وقد يذهب التعليق إلى عدة صفحات طويلة، وقد يقتصر على إشارات مقتضبة، حسب ما يقتضي الحال من حاجة إلى الإطناب أو الإيجاز، كما لو كان معلم في المدرسة يقرأ فقرة، ويلحق بأخرى بعد أن يفرغ من شرح الأولى.
ولو نظرت في كتاب «المواقف» لعضد الدين، أو نظرت في تفسير القرآن، لوجدت أن «عضد الدين» قد اتبع هذه الطريقة نفسها في كتابة مؤلفه الفلسفي، كما اتبعها المفسرون في تفسير كتاب الله.
أما التعليق على «الإيساغوجي» فقد طبع بعناية الأستاذ «بومستراك»
Baumstrack
في كتاب
Aristotles bei den syrern
في ليبنرج سنة 1900، كما طبع الأستاذ الكبير «هوناكر»
Hoonacker «الأناليطيقا الأولى» في المجلة الآسيوية
Jornal Asiatique
في عددي يوليو وأغسطس سنة 1900.
وكان «سرجيس الراس عيني» المتوفى سنة 536 ميلادية أعظم مؤلفي اليعاقبة، وكان مترجما، كما كان مؤلفا في الفلسفة والطب والهيئة والفلك، وكان اشتغاله بالطب عمله الرئيسي، بيد أنه ترجم إلى السريانية الجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس، وأمضى زمنا في الإسكندرية حيث أتقن اللغة اليونانية، ودرس الكيمياء والطب في مدرستها الطبية لدى أول عهدها بتدريس ذلك العلم، أما نشأته فكانت برأس العين بالعراق، ولا تزال بعض ترجماته عن جالينوس محفوظة حتى اليوم في المتحف البريطاني ضمن المجموعة 14661 والمجموعة 17156.
ونشر العلامة المستشرق «ساخاو»
Sachau
نتفا مما هو محفوظ في المجموعة الثانية في كتاب سماه
Inedita Syriaca
في فينا سنة 1870، ونشر «ساخاو» فضلا عن ذلك ترجمة «الإيساغوجي»، وفي المتحف البريطاني نسخة خطية من ذلك الكتاب، كما نشر «المائدة» لفرفوريوس وقاطيفورياس؛ أي المقولات لأرسطوطاليس ، ومقالة في الروح، وهي ليست مقالة أرسطوطاليس المعروفة تحت عنوان «ده أنيما»
De Anima
وكتب مقالة في المنطق في سبعة مجلدات، ومنها جزء في المقولات محفوظ في المتحف البريطاني ضمن المجموعة 14660، ومقالة أخرى ضمن ذلك الكتاب في تعليل الكون حسب مذهب أرسطوطاليس، وعدد من المقالات القصيرة تتناول مختلف الموضوعات، أما في علم الفلك فقد ترك مقالة في تأثير القمر بناها على مؤلفات جالينوس، ونشرها العلامة «ساخاو».
وقد انتشرت مؤلفات «سرجيس» بين النساطرة واليعاقبة على السواء، وكان الكل يحسبونه مرجعا من المراجع العليا في الطب والفلسفة، وثقة من ثقاتهما، ويقال: إنه أسس مدرسة سريانية في الطب أصبحت فيها بعد النبع المنبثق بما استسقى منه العرب، على أن الراجح أنه لم يؤسسها، بل كان له أثر كبير في تأسيسها وقيامها.
وفي القرن ذاته - أي القرن السادس الميلادي - عاش «أخوديما»
Ahudemmeh
الذي أصبح أسقفا في «تغريط»
Tagrit
سنة 559م، فأدخل تعليقات «يوحنا فيلوبونس» على أن تكون الكتاب المدرسي بين اليعاقبة الذين يتكلمون السريانية: ويقول بعض المؤلفين: إنه ألف مقالات في تعريفات المنطق، وفي حرية الإرادة، وفي الروح، وفي الإنسان باعتباره عالما صغيرا،
Microcosm ، ومقالات أخرى في تركيب الإنسان على أنه مكون من جسد وروح، وهذه المقالة محفوظة في المتحف البريطاني ضمن المجموعة 14620.
وإن صح أن «أخوديما» قد كتب في الإنسان باعتباره عالما صغيرا، حق لنا أن نكرر المثل القائل: «لا جديد تحت الشمس»؛ فإن الإنسان أو العالم الصغير
Microcosm
قد سد التفكير فيه فراغا كبيرا في عقل «هردر»
Herder
الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر، كذلك انتشرت فكرات فلسفية، بل مذاهب حصرت همها في بحث الإنسان وعلاقته بهذا الكون الفسيح وطبيعيا وأدبيا، بل تعدت إلى النظر الغيبي.
كان مذهب «سبنسر» في النشوء، ومذهب «هردر» في «الميكزوكوزم»؛ أي العالم الصغير يرميان إلى إثبات وحدة الفكر، وإحداث ذلك التصور العميق الذي يسوق إلى الاعتقاد بأن الأشياء تحتفظ ببقائها، وأن الحوادث الكونية تقع خضوعا لعلاقة كائنة بينهما يمكن إدراكها، وأن وجهتي النظر الديني والعلمي في هذه الحياة يمكن التوفيق بينهما.
في القرن التاسع عشر حصرت طائفة من الكتاب همها في وصف العالم وصفا دقيقا، حتى إن مؤلفاتهم قد كونت في عقل «هردر» حالة تساءل معها - في وسط تلك الصورة التي صورت بها الطبيعة، وفي جوف التغيرات التي تنتاب هذا الكون الأكبر: أين يوجد الكون الأصغر؟
إن صور هذه الدنيا العظيمة إذ تتغلغل في أعماق سحيقة من الإدراك العام، إنما تلزمنا الرجوع إلى أنفسنا؛ لكي نعاود التساؤل كما تساءل «هردر»: «أية قيمة لحياة الإنسان والإنسانية، بما فيها من الخصائص الخالدة، وبما في تاريخها من أوجه التغاير في وسط هذه الطبيعة من مجموعها؟»
أما إذا أردنا أن نعرف إن كانت هذه الفكرة بذاتها هي التي قامت في رأس «أخوديما» في القرن السادس الميلادي، ثم عادت إلى التكون في عقل «هردر» في القرن التاسع عشر، والفاصل بينهما ثلاثة عشر قرنا من الزمان، فيغلب أن تكون محفوظات المتاحف الأوربية كفيلة بذلك. •••
من بين مؤلفي النساطرة الذين عاشوا خلال القرن السادس الميلادي «بولس الفارسي»
، وقد كتب مقالة في المنطق أهداها إلى الملك كسرى أنوشروان، وقد نشرها مسيو «لاند»
Land
في كتابه المسمى
Analecta Syriaca .
كان هذا فجر الفتح العربي، ففي سنة 638 من الميلاد فتح العرب سوريا، وتبعها فتح ما بين النهرين والعراق في سنة واحدة، وبعد أربع سنوات فتحوا بلاد فارس، وسنة 661م استقر الملك لبني أمية في دمشق، ولكن هذا الفتح لم يؤثر في حياة الجماعات المسيحية، حيث كانت طوائفهم تعيش تحت الحكم العربي ممتعة بكل ضروب الحرية السياسية والدينية، ولم يتعرض حكامهم العرب لشئونهم الذاتية، وكل ما كان يطلب منهم للحكومة إنما هو الخضوع لقوانينها الزمنية ودفع الجزية.
وحوالي سنة 650م كتب «حنانيشو»
Henanieshu
مقالة في المنطق، وعلق على «يوحنا فيلوبونس»، ولم يكن لليعاقبة مدارس ظاهرة الأثر كما كان للنساطرة، ولكنهم استعاضوا عن ذلك بدير لهم في «قنسرين» على ضفة الفرات اليسرى، كان مقرا لدرس منتجات العقل اليوناني، وكان أعظم من ظهر فيهم هنالك «سويرس سيبوقط»
Severus Sebokt - الذي عاش قبيل الغزو العربي، وألف تعليقا على «إرمانوطيقا»
Hermeneutica - لأرسطوطاليس لم يبق منه إلا أجزاء صغيرة، ومقالة أخرى في القياس تعليقا على «أناليطيقا» الأولى
Analyica Priora
وشرح بعض المعضلات التي صادفها في «الريطوريقا»
Rhetorica
أي الخطابة لأرسطو، أما في علم الفلك فقد كتب مقالة في «صور منطقة البروج»، وأخرى في «الأسطرلاب»، أما الأولى ففي المتحف البريطاني محفوظة ضمن المجموعة 14538، وطبعها العلامة المستشرق «ساخاو»، وأما الثانية ففي برلين ضمن مخلفات «ساخاو»، وطبعها العلامة «ناو»
Nau
في الجريدة الآسيوية سنة 1899.
وكان «أتناسيوس بالد»
Athanasins BaLad
أسقفا يعقوبيا سنة 684م، والمعروف عنه أنه ترجم الإيساغوجي إلى السريانية، ولا تزال هذه الترجمة محفوظة إلى اليوم في قصر الفاتيكان، وهو من تلاميذ سويرس سيبوقط.
كذلك كان يعقوب الرهاوي
Jacob of Edessa
تلميذا لسيبوقط، وصار أسقفا في الرها
Edessa
سنة 684، وترك منصبه هذا سنة 688؛ لأنه عجز عن إدخال الاصطلاحات في الأديرة التابعة لأبرشيته، واعتزل في دير «مار يعقوب» في «قيسون» بين حلب والرها، ثم تركه إلى دير آخر في أبرشية أنطاكية حيث أمضى إحدى عشرة سنة يعلم المزامير، ويقرأ الكتاب المقدس باللغة اليونانية حتى أحيى مواتها، بعد أن كادت تموت بالإغفال، غير أنه لم يعش هنالك هادئا؛ فإن أعداءه اضطهدوه بحجة أنه يعلم الكتاب المقدس باللغة اليونانية، فسافر ثم عاد إلى الرها قبيل موته بأربعة أشهر فقط، وكتب في ذلك الحين مقالا طبيا في المصطلحات المستعملة في الفلسفة، ولا يزال محفوظا في المتحف البريطاني في المجموعة 12154.
ومن تلاميذ «أتناسيوس» المذكور آنفا «جورجيس»
James Bishop of The Arabs
الذي سيم أسقفا للعرب سنة 686م، وقد ترجم كل كتاب أرسطوطاليس في المنطق «الأورغانون»
Logical Organon
ولا يزال محفوظا من ترجمته حتى اليوم في المتحف البريطاني في المجموعة 14659 كتاب قاطيغورياس وإرمانوطيقا، وأناليطيقا الأولى، وكل من هذه الكتب مقدم بتصدير وعليه تعليقات. •••
إن هؤلاء الأعلام الذين عرض ذكرهم حتى الآن في سياق هذا المقال، هم الذين يكونون تاريخ الفكر في العصور القديمة منذ انفصل النساطرة واليعاقبة حتى الفتح العربي، وإن هذا لكاف لإظهار أن المتكلمين بالسريانية قد ظلوا طوال تلك الأعصر على ما كتب أرسطوطاليس في المنطق، وما بعد الطبيعة عاكفين، ولم يفتهم أن يعنوا بالطب، ودرس كثير من فروع العلوم الأخر.
غير أنك إن بحثت في أعمال هؤلاء جميعا لما وقعت على شيء من قوة الابتكار الحقيقي، أو على تعمق في الدرس العلمي، أو التأمل الفلسفي الصحيح؛ لأن جماع ما في تلك الحركة لم يكن إلا نقل المتون الموجودة بين أيديهم، مع إصدار تراجم جديدة فيها، أو تعليقات عليها، أو مقالات تفسيرية تحشى بها، على أن هذه الأشياء بدورها قد سدت فراغا كبيرا في تاريخ الفكر الإنساني.
على أن الفتح العربي لم يحدث من أثر يصد تلك البحوث العلمية عن الانبعاث في طريقها، فبنو أمية لم يفكروا يوما في التعرض لشئون المدارس الفلسفية، وكان الطلاب السريان ممتعين بأقصى حد من الحرية تحت حكم العرب.
أما ما يرويه بعض المتعصبين من المؤرخين في مطاردة العرب لرؤساء الدين المسيحي فكله فاسد من أساسه، فقد كان بعض رؤساء المسيحية يلجئون إلى الخليفة العربي المسلم، ويضجون له بالشكوى من إخوانهم في الدين، وكان ذلك السبب الأكبر في التعرض لشئون النصارى. وهو ما يسميه بعض المؤرخين تعقبا للنصرانية ومطاردة لها، واستمر أساقفة المسيحية على بحثهم العلمي والفلسفي حتى سنة 740 حين سيم «مار أبها»
MarAbha
رئيسا لأساقفة النساطرة، فألف تعليقا على منطق أرسطوطاليس.
وكانت سنة 740م - أي سنة 133 للهجرة - بدء عهد جديد في تاريخ العربية، إذ أخذ أبناؤها يبدون حظا غير قليل من الاشتراك في تلقي الفلسفة والعلم، وبدأت التراجم والتعليقات تظهر في اللغة العربية، على أن الدراسة باللغة السريانية لم تفقد أهميتها فجأة، بل ظلت موئلا للعلم ومهدا للفلسفة حتى زمان «أبي الفرج بن العبري» في القرن الثالث عشر الميلادي 1286، الذي ينتهي به تاريخ الآداب السريانية، سوف نعود إلى الكلام فيه.
وكونت أول مدرسة صحيحة للترجمة في العالم العربي من حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين، وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي، مع غيرهم من المترجمين، تلك المدرسة التي أسسها في بغداد الخليفة المأمون لتنقل المتون اليونانية في الفلسفة والعلوم إلى العربية، وذلك ما سوف نعود إليه بعد.
غير أننا لا ننسى هنا أن حنين بن إسحاق كان مسيحيا نسطوريا، واشتغل زمانا بالترجمة من اليونانية إلى السريانية، والمقول: إنه ترجم من السريانية، إلا أنه راجع فقط على الرواية الصحيحة الإيساغوجي لفرفوريوس، وإرمانوطيقا لأرسطوطاليس، وجزءا من الأناليطيقا، ومقالة لأرسطوطاليس في الروح المسماة «ده أنيما»
de Anima
وجزءا من الميتافيزيقا - ما بعد الطبيعة - وتلخيصات نيقولاس الدمشقي، وتعليقات الإسكندر الأفروديسي، والجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس
Galen
وديوسقورس
Dioscous
وبولس الأجانيطي، وأبقراط.
كذلك ترجم ابنه إسحاق مقالة أرسطوطاليس
de Anima
في الروح، ومن الغريب أن تصبح ترجمة إسحاق لهذه المقالة وتعليق الإسكندر الأفروديسي عليها مرجعا من أهم المراجع لدرس الفلسفة في عصرنا هذا؛ ذلك لأن الفكر قد اتجه إلى درس علم النفس - البسيكولوجيا - في الأعصر الحديثة، كما أنه أخذ يبتعد عن درس المنطق حالا بعد حال.
وفي ذلك العصر ألف الطبيب «يوحنا بن ماسويه» 857م مؤلفات كثيرة في الطب باللغتين السريانية والعربية، وكان كما كان حنين بن إسحاق أحد الذين انتخبهم العباسيون واحلوهم محلا رفيعا من الاحترام والإجلال، وحوطوهم بالعناية في بغداد عاصمة ملكهم، لينقلوا فلسفة اليونان إلى العربية، وعاصر هؤلاء فئة من الكتاب السريانيين كتبوا تعليقات على منطق أرسطوطاليس، وهو كما يقول العرب «أبو زكريا يوحنا بن ماسويه»، وكان أبوه صيدليا في جنديسابور، وثقفه في بغداد جبرائيل بن بختيشوع. واشتهر في زمان المأمون والواثق إلى زمان المتوكل (راجع أخبار الحكماء ص248 طبع مصر).
وفي القرن الثاني عشر المسيحي علق «ديونسيوس بارصاليبي»
Dionisius bar Salibi
على كتاب الإيساغوجي وقاطيغورياس وإرمانوطيقا وأناليطيقا، وفي أوائل القرن الثالث عشر كتب «يعقوب بارشاقاقو»
Jocob bar Shakako
مجموعة من المحاورات، تكلم في الجزء الثاني منها على مسائل كثيرة في الفلسفة والمنطق والفوسيقى
5
والرياضيات وما بعد الطبيعة.
وينتهي العصر السرياني في نقل الفلسفة بالباحث «غريغوري بار إبراوس»
Gregory Bar Hebraeus
الذي تقدم ذكره، وهو الملقب «بأبي الفرج بن العيري»
Abu L’Farag
في القرن الثالث عشر الميلادي، وقد لخص في كتابه «إنسان العين»، وهو مجموعة ملخصات في المنطق، كتاب إيساغوجي لفرفوريوس، ولخص عن أرسطوطاليس كتاب المقولات - قاطيغورياس - وإرمانوطيقا؛ أي العبارة، وأناليطيقا؛ أي القياس، وطوبيقا
Topica
أي الجدل، وسوفسطيقا
Sophistica
أي السفسطة، وكتب كتابا آخر لخص فيه مقدمات للمنطق والفوسيقى، وما بعد الطبيعة واللاهوت، وسمى هذا الكتاب على ما نظن «عيون الحكمة»، وله كتاب ثالث أذكر أن اسمه «زبدة العلوم» أو ما يقارب ذلك، هو عبارة عن موسوعة جمع فيها فلسفة أرسطوطاليس، واختصر ذلك الكتاب من بعد تحت عنوان آخر، وترجم عن السريانية مؤلف «ديوسقورس» في البسائط، وألف مقالة في الطب أجاب بها على «مسائل» حنين بن إسحاق، وله كتاب آخر في الجغرافية لا أذكر اسمه العربي.
ويعرف أبو الفرج في العالم اللاتيني باسم «أبولفرجيوس»
6
أما الاسم «بارابراوس» فراجع إلى أصله العبري، ولد في مدينة من مدائن أرمينية سنة 1226، وكان أبوه «هارون» طبيبا، وبعد أن تلقي على أبيه زمانا استعمق في دراسة الطب حتى نال منه حظا موفورا، وكانت معرفته بالعربية والسريانية واليونانية، وتنطسه في الفلسفة واللاهوت، سببا في أن يذيع صيته ويرتفع ذكره، وفي سنة 1244م انتقل إلى أنطاكية
Antioch ، وبعد ذلك بقليل ذهب إلى طرابلس، وصار أسقفا في «غوبا» وله من العمر عشرون سنة، ومن ثم انتقل إلى أبرشية حلب، وانتخب سنة 1266 رئيسا لأساقفة اليعاقبة، وظل أسقفا حتى توفي بمراغة أذربيجان سنة 1286.
وأبو الفرج إن كان قد كتب في كثير من فروع العلوم المعروفة في عهده، إلا أن شهرته تنحصر في العالم اللاتيني على الأخص في تأليفه كتابا وضعه في تاريخ العالم منذ الخليقة إلى زمانه، وكتبه في السريانية أولا، وبعد زمان كتب له مختصرا في اللغة العربية، وقيمة الكتاب الحقيقية على ما يقول كثير من المستشرقين تنحصر في كلامه عن الأمم الشرقية وأصلها كالعرب والتتار والمغول وغزوات جنكيز خان، أما ما بقي بعد ذلك فمملوء بالأغلاط؛ لأنه لم يكن واقفا على عدة من اللغات القديمة، التي كان لا بد له منها للاستعانة بها على ضبط أسانيده.
وقد ترجم المختصر العربي إلى اللاتينية بعناية الدكتور «بوكوك»
Dr.
وطبع في إكسفورد سنة 1663. وظهر جزء من المتن العربي مع ترجمته اللاتينية بعناية الأستاذين برونس وكيرش
Brons and Kirsche
مطبوعا في ليبزج سنة 1788.
وقد اعتبر «أبو الفرج» من الثقات في السريانية وعلومها وترجماتها ، وظل له الخطر الأكبر في نظر طلاب العلم زمانا طويلا، في حين أنه لم يتعد - كما يؤخذ من تاريخه الذي حققه المستشرقون - حد الجمع عمن سبقه من الكتاب والفلاسفة في موسوعة تضمنت أبحاثهم.
كانت الجامعات السريانية التي دانت بالمسيحية بيئة طيبة انتعشت فيها الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني، ومن ثم انتقل كلاهما إلى العرب، على أنه لم تنم بين السريان روح الابتكار والاستقلال في الرأي العلمي، حتى إن الكتب التي ترجمت إلى السريانية، كانت قد خرجت من يد اليونان أنفسهم من قبل أن تنتقل إلى السريان، وكان المعتقد الثابت عندهم أن أساس العلوم الإنسانية هو منطق أرسطوطاليس. أما ما بقي مما درس أو كتب المعلم الأول فيجب على معتقدهم أن يفسر على قواعد «الأفلاطونية الجديدة» ومن علق عليها. أما في الطب والكيمياء فإن برنامج مدرسة الإسكندرية فيهما كان معتبرا أرقى ما يصل إليه التثقيف في هذين العلمين، على أن هذا الأمر لو اقتصر على ما نقل عن جالينوس وأبقراط، وعلى تعاليم «بولس الأجانيطي» في طب التوليد لكان خيرا للناس، لولا أن امتزج بتلك العلوم قسط من الباطنية
Mysticism
كان ذائعا في مدرسة الإسكندرية، وكان قوامه علم التنجيم «الإسترلوغيا»، فتمازج العلم بالأساطير، وشاعت فكرة أن بعض العقاقير الطبية لا تفيد فائدتها المرجوة، إلا عند مرور نجم من النجوم السيارة، وما يجري ذلك المجرى من الفكرات الخيالية التي صبغت الطب في الإسكندرية، ومن بعد عند العرب، بصبغة من السحر والشعوذة عاقت خطاه دون الانبعاث في سبيل التقدم والرقي أزمانا متعاقبة.
ولا سبيل إلى القول بأن علم العرب في الطب والكيمياء كان عبارة عن تدجيل صرف، كما يقول بعض الذين لم يتجشموا مئونة البحث والتحقيق، ففي العربية مؤلفات قيمة خدمت هذين العلمين أجل الخدمات وأكبرها شأنا؛ ولو أن الجمود الفلسفي الذي شاع في مصر كان في الغالب السبب في صد تيار للتقدم فيهما وعاق خطى الباحثين دون الابتكار طويلا. •••
من هنا نعتقد أن اللاهوت والفلسفة والعلم في الإسلام لم يغرس إلا في أرض شبعت من قبل بالثقافة اليونانية على اختلاف ضروبها وتباين ألوانها، أما السبيل التي خطت فيها الثقافة اليونانية إلى العرب فذات خمس مفاوز :
أولا:
النساطرة، الذين كانوا أول من علم المسلمين، وأول الذين خدموا الطب في العصور الأولى.
ثانيا:
اليعاقبة الذين كانوا أول من أدخل الباطنية والأفلاطونية الجديدة في الجو العربي.
ثالثا:
الزرادشتيون في فارس وعلى الأخص مدرسة جنديسابور، ولو أن هذه المدرسة قد امتزجت بعنصر قوي من عناصر النسطورية.
رابعا:
وثنيو «حران» ولو أن أثرهم في الإسلام لم يأت إلا مؤخرا.
خامسا:
العبرانيون، على أنهم لم يكونوا على صلة بالفلسفة الأرسطوطالية، وظلت مدارسهم في صور
Sora «وبامباديثا»
عاكفة على درس شرائعهم التقليدية.
لم يبدأ العبرانيون في درس الفلسفة إلا في العصور المتأخرة، وقد استمدوا من فلاسفة العرب، غير أنهم ورثوا عن النساطرة نزعة إلى علم الطب، حتى إن الأطباء اليهود قد ظهروا في أوائل عمارية بغداد، غير أنهم لم يبزوا النساطرة في ذلك، فمن بين الأطباء الذين يذكرهم العلامة «لكلار»
M. Leclerq
في كتابه تاريخ الطب عند العرب
Histroire de la Medicine Arabe
في القرن العاشر الميلادي 29 طبيبا مسيحيا، وثلاثة من اليهود، وأربعة من وثنيي حران، في حين أن النسبة اختلفت في القرن الحادي عشر، فكانوا ثلاثة مسيحيين وسبعة من اليهود، ومن ثم تكاثر الأطباء العرب من بعد ذلك كثرة لا تحفظ فيها النسبة بينهم وبين غيرهم.
3
لم تمض على سقوط دولة بني أمية في الشام ثمانون عاما، إلا وكان بين يدي العرب مترجمات عن أكثر ما كتب «أرسطوطاليس» وتعليقات الذين اشتهروا من زعماء «الأفلاطونية الجديدة»، وبعض كتب أفلاطون، والجزء الأكبر من كتب «جالينوس» وأجزاء أخر نقلت عن كتب بعض الأطباء والذين علقوا عليها، وطائفة غيرها من كتب حكماء اليونان وكتاب الهند وفارس.
لم يأت بعد هذه الحركة العلمية من مثيل لها في التاريخ، إلا حركة النهضة العلمية في إيطاليا بعد سقوط القسطنطينية في يد محمد الفاتح، مؤسس دولة بني عثمان في ربوع أوروبا.
وينقسم تاريخ الترجمة عند العرب إلى قسمين عظيمين: يبتدئ أولهما بقيام دولة العباسيين إلى قيام المأمون بن هارون الرشيد؛ أي من سنة 132ه/749م إلى سنة 198ه/813م، وقد ترجم في هذا العهد كثير من الكتب نقلها كتاب ومترجمون نالوا الحظوة الكبرى عند خلفاء بني العباس، وكان كل منهم يشتغل مستقلا بنفسه، وأكثرهم من المسيحيين والإسرائيليين، وبعض الذين اعتنقوا الإسلام من أهل الوثنية والديانات الأخرى، ويبدأ ثانيهما بقيام المأمون والذين عقبوه على كرسي الخلافة من العباسيين، وأخص ما يمتاز به هذا العصر تأسيس تلك الأكاديمية الكبيرة - بيت الحكمة - التي أقامها المأمون في بغداد، فجمعت بين جدرانها فئة صالحة من المشتغلين بالعلم والفلسفة والترجمة، وكان همهم أن يصيغوا الكتب التي ينقلونها، أو التي نقلت، في قالب يستطيع به طلاب العلم من العرب الوقوف على أسرار العلم والحكمة.
كان أول عهد للترجمة في العالم العربي مقرونا باسم «عبد الله بن المقفع»، وهو من أبناء فارس، زرادشتي الديانة، اعتنق الإسلام على يد محمد بن علي أبو السفاح.
وكان من المقربين في بطانته، على أن نهاية ابن المقفع كانت محزنة، فإنه مات مقتولا بأمر الخليفة المنصور إلى سفيان حاكم البصرة، وكان بينه وبين ابن المقفع ترة، فقسا في قتله، وكان ذلك سنة 142ه/759م أو 143ه/760م، ويقال: إن إسلام ابن المقفع كان ظاهريا، وإنه ظل أمينا للزرادشتية، فكان يعتبر زنديقا. والزنادقة اصطلاح يعني به «المانويون» أتباع «ماني بن فاتك»
7
وهم قوم من الوثنيين يقدسون الليل.
ولقد عثرت على قصيدة فيها ذكر للمانونيين وتقديسهم لظلمة الحلك، وضعها حافظ بك إبراهيم ترجمة لقصيدة شكسبير في رواية «مكبث»، وكان قد ترجم الرواية كلها، ولكن الترجمة فقدت، وإليك مطلع القصيدة:
كأني أرى في الليل نصلا مجردا
يطير بكلتا صفحتيه شرار
أراه فتدنيني إليه شراستي
فينأى وفي نفسي إليه أوار
وقال بعد أن تملكت من «مكبث» نزوة القتل ونهمة الدماء:
فيا حلم قاطعني ويا رشد لا تثب
ويا شر ما لي من يديك فرار
ويا ليل أنزلني بجوفك منزلا
يضل به سرب القطا ويحار
وإن كنت ليل المانوية فليكن
على سر أهل الشر منك ستار
على الفتك يا ضنكان صحت عزيمتي
وإن لم يكن بيني وبينك ثار
سأقتل ضيفي وابن عمي ومالكي
على أن عقبى القاتلين خسار
قال هذا في مناجاة «مكبث » لنفسه قبل أن يقدم على الفتك بضنكان، والقصيدة مطولة نشرتها جريدة الأهرام منذ بضع سنين.
غير أن كتاب المسلمين استعملوا لفظ «زنديق» مطلقا من غير تحديد على فئات من الخارجين عن الإسلام، فكان يعنى به أتباع «زرادشت» آونة، أو النصارى آونة أخرى، وكثيرا ما كان يعني به المجوس، عبدة العناصر.
ومما يستدل به الكتاب على زرادشتية ابن المقفع، واتخاذه الإسلام ستارا رواية رواها بعض الكتاب، إذ ذكر أن ابن المقفع مر يوما ببيت من بيوت النار فتمثل بقول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
وقيل: إنه كثيرا ما كان يقول:
الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار
على أن ابن المقفع قد نقل بالفعل شيئا من مبادئ المانوية عن تعاليم «ماني بن فاتك»، وكتب «ابن ديسان» إلى العربية، (بذلك يقول المسعودي جزء 8 ص293. طبع ليبزج م).
وفي زمان الخليفة المنصور نقلت كتب عديدة إلى العربية عن اليونانية والفارسية والسريانية، على أن الكتب التي نقلت عن الفارسية والسريانية لم تكن في أصلها إلا تراجم عن اليونانية.
وأشهر ما ترجم ابن المقفع كتاب «كليلة ودمنة»، أو كما كان يدعى في الفهلوية والسنسكريتية القديمة «أساطير الفيلسوف بيدبا»، ترجم ابن المقفع هذا الكتاب، وكان قد نقل لكسرى أنوشروان إلى اللغة الفهلوية عن السنسكريتية، لغة الهند القديمة، نقله الحكيم «برزويه» بعد أن سافر إلى بلاد الهند في طلبه، واستنسخه من الخزانة الملوكية مع طائفة أخرى من كتب الهند.
ولقد فقد الأصل الفهلوي، غير أن المبشر «بوز» النسطوري كان قد ترجم الكتاب إلى السريانية سنة 570م، وطبعت هذه الترجمة بعناية المستشرقين «بيكل»
Bickell
و«بنفي»
Benfey
سنة 1876، وكذلك فقد الأصل السنسكريتي القديم، ولم يبق منه إلا آثار نشر بعضها في كتاب «بانشاتنترا»
، وهو يحتوى على الأساطير الخامسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والسابعة عشرة، وبعض منها في كتاب «ماها بهارتا»
Mahabharta
وهو يحتوى على الأساطير الحادية عشرة، والثانية عشرة، والثالثة عشرة.
ويجمع المستشرقون أو هم يكادون يجمعون، على أن ترجمة «بوز» النسطوري لكتاب «بيدبا» المنقولة إلى السريانية عن الفارسية، المأخوذة بدورها عن الأصل السنسكريتي، هي الترجمة الخالية من آثار الوضع والحذف والإضافة، أما النسخة العربية التي نقلها ابن المقفع فظاهر فيها من آثار الانتحال ما يظهر في كل التراجم السريانية، التي ظهرت في أواخر العصر السرياني، وفي كل التراجم التي أخذت عن النسخة العربية إلى الفارسية الحديثة، وإلى اللاتينية والعبرية والإسبانية والإنجليزية والفرنساوية والألمانية واليونانية، على أنه لولا الترجمة العربية؛ لما نال هذا الكتاب ذلك الصيت البعيد. وأسلوب ابن المقفع في كليلة ودمنة يعد مثال الأساليب العربية المنتقاة.
وعاش ابن المقفع أكثر عمره في زمان الخليفة المنصور العباسي، ويقول المسعودي (جزء 8 ص291-292 طبع ليبزج): إن ذلك الزمان كان خصيبا في الترجمة والإنتاج الأدبي، فنقل فيه عدة مقالات عن أرسطوطاليس، وكتاب المجسطي لبطليموس في الفلك، وكتاب إقليدس في الهندسة، ومواد أخرى عن اليونانية. •••
في سنة 156 للهجرة
8
وفد هندي إلى بغداد يحمل مقالة في الرياضيات، وأخرى في علم الفلك، أما الثانية فكانت مقالة «سدهانتا»
Siddhanta
التي عرفها العرب من بعد باسم كتاب «السند هند»، وترجمها «إبراهيم الفزاري»، فكان نقلها بداءة عصر جديد في دراسة هذا العلم عند العرب. وقال الأستاذ نلليتو:
وما اقتصر الخليفة المنصور على مجرد أحكام النجوم وما يتعلق بها ضروريا، بل منذ تأسيس بغداد بسنين قليلة بادر إلى إحياء علم الهيئة المحض مستسقيا من موارد الهند، والذي دعاه إلى ذلك أن رجلا هنديا جاء بغداد في جملة وفد السند علي المنصور، وهو ماهر في معرفة حركات الكواكب وحسابها وسائر أعمال الفلك على مذهب علماء أمته، وخصوصا على مذهب كتاب باللغة السنسكريتية اسمه «إبراهمسبهطسدهانتا»
Brahamasphutasiddhanta
ألفه سنة 628م/6 أو 7ه الفلكي والرياضي الشهيد «برهمكبتا»
Brahmagupeta
للملك «فيا كهرمكه»،
9
وكلف المنصور ذلك الهندي بإملاء
10
مختصر الكتاب، ثم أمر بترجمته إلى اللغة العربية وباستخراج كتاب منه اتخذه العرب أصلا في حساب حركات الكواكب، وما يتعلق به من الأعمال، فتولى ذلك الفزاري
11
وعمل منه زيجا اشتهر بين علماء العرب حتى إنهم لم يعملوا إلا به إلى أيام المأمون، حيث ابتدأ انتشار مذهب بطليموس في الحساب والجداول الفلكية.
أما لفظ سدهانت
Siddhanta
فمعناه بالسنسكريتية معرفة وعلم ومذهب علمي، وأطلق ذلك اللفظ اصطلاحا على كل كتاب في علم الهيئة وحساب حركات الكواكب، فمعنى «إبراهمسبهطسدهانتا» كتاب الهيئة المصحح المنسوب إلى «برهم»، وحذف العرب ثلثي اللفظ مقتصرين على الثلث الأخير، وهو «سد هانت»، ثم حرفوه قليلا لميلهم إلى المزاوجة والإتباع في الكلام، وضبطوه على وزن أسماء البلاد التي نقل منها الكتاب فقالوا: «السند هند»، وسماه بعض المتأخرين «السند هند الكبير»، تمييزا بينه وبين «السند هند» تأليف محمد بن موسى الخوارزمي في عهد المأمون.
وأخطأ مؤلفو العرب في قولهم: إن تفسير «سند هند» هو «الدهر الداهر»
12
أو «دهر الدهور»،
13
وسبب ظنهم هذا ما سأشرحه عن قليل من استعمال أدوار سنين لحساب حركات الكواكب في كتاب السند هند، ولم يصب البيروني إصابة تامة في (كتاب تحقيق ما للهند من مقولة ص73) «والذي يعرفه أصحابنا
14
سند هندا هو سدهاند؛ أي المستقيم الذي لا يعوج ولا يتغير، ويقع هذا الاسم على كل ما علت رتبته عندهم
15
من علم حساب النجوم، وإن كان قاصرا على زيجاتنا.
أما ما قاله المسعودي في أول الباب السابع من كتاب مروج الذهب (ج أول ص149 إلى ص150 من طبعة باريس) فأكثره خرافات وأغلاط؛ لأنه خلط «برهمن» «وهو أحد آلهة الهند» «ببرهمكبت» صاحب كتاب السند هند، ثم عكس الترتيب التاريخي الحقيقي للكتب التي ذكرها؛
16
لأن أقدمها في الحقيقة كتاب المجسطي، والثاني لآرجبهر، والثالث السند هند، والرابع الأركند.
17
وطريقة الكتب الهندية في تعليم حساب حركات الأجرام السماوية طريقة غريبة مبنية على ما يسمى بالسنسكريتية «كلب»،
18
وهي جملة ألوف ألوف أدوار تامة للنيرين والكواكب الخمسة المتحيرة، فإن الهند زعموا أن كل الكواكب غير الثابتة خلقت مجتمعة مع أوجاتها وجو زهراتها في أول برج الحمل، أعني في منطقة الاعتدال الربيعي، ثم أخذت تتحرك حركات مختلفة السرعة، وبعد ألوف ألوف أدوار تامة ستجتمع كلها ثانية في أوجاتها وجو زهراتها في أول الحمل،
19
وجملة السنين الشمسية النجومية
20
الفائتة بين الاجتماعيين الكليين تسمى «كلب»، وعدد سني «كلب» النجومية على حساب كتاب «برهمكبت» أربعة آلاف ألف ألف وثلثمائة وعشرون ألف ألف 4320000000، فيتمم مثلا فيها عطارد سبعة عشر ألف ألف ألف وتسعمائة وستة وثلاثين ألف ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين ألفا وتسعمائة وأربعة وثمانين 17936998984 دورا تامة، ويتمم أوجه ثلاثمائة واثنين وثلاثين دورا تامة.
فسمت العرب جملة سني «كلب» سني السند هند
21
وجملة الأيام أيام السند هند وأيام العالم،
22
وتسهيلا للحساب ربما اتخذ الهند جزءا من ألف جزء من «كلب» أصلا لحساباتهم، وسموا ذلك الجزء «مهايك»
23
أو «يك»،
24
فصار عبارة عن مدة أربعة آلاف ألف وثلاثمائة واثنين وثلاثين ألف سنة. إلا أن الأدوار فيه غير تامة بسبب الكسر الناشئ عن القسمة. وبما أن أحد حكماء الهند الذين ذهبوا إلى هذه الطريقة وعليها بنوا الحساب هو آريبهط
25
المسمى عند العرب بالآرجبهر
26
اشتهرت جملة سني «يك» عند العرب باسم «الآرجبهر» أو أيام الآرجبهر،
27
وبعض العرب القدماء زعموا أن الآرجبهر اسم الجزء من ألف جزء من سني السند هند،
28
بل إنه اسم كتاب مستخرج من كتاب السند هند
29
مع أن الأول أقدم من الثاني.
أما المقالة الرياضية التي وفد بها ذلك الهندي مع كتاب «السند هند»، فكان لها أثر كبير في درس الرياضيات، ولو لم يكن لها من أثر إلا إدخال الأرقام الهندية واتخاذها أساسا للعدد في العربية، لكفى بذلك أثرا خالدا، فقد تطور على أثرها علم العدد عند العرب، وسار بتلك الخطى الحثيثة التي كان يعوقها دائما استعمال العرب لغير الهندية من الأرقام المعقدة المهوشة.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: «ماذا كان أثر ذلك على العقل العربي؟ وماذا ترك من الآثار؟»
يخطر على البال عند هذا السؤال علم الجبر، على أن لعلم الجبر تاريخا يتقدم وجود العرب، لهذا نتكلم باختصار لنعرف تاريخ نشأته، وكيف انتقل إلى العرب؟ وماذا كان أثرهم فيه؟
نتساءل: في أي عصر وفي أية بقعة من بقاع الأرض وجد علم الجبر؟ ومن هم أول الذين كتبوا فيه؟ وكيف نشأ؟ وبأية وسيلة من الوسائل؟ وفي أي عهد من التاريخ ذاع ذلك العلم؟
كان الاعتقاد السائد في القرن السابع عشر أن رياضيي اليونان لا بد من أن يكونوا قد استكشفوا تحليلا دقيقا لطبيعة علم الجبر على الصورة التي عرف بها في الأعصر الحديثة، وبه استطاعوا أن يحللوا تلك المعضلات التي لا يسعنا إلا الإعجاب بثبات قدم كتابهم في معالجتها، وأنهم أخفوا طرق التحليل وأظهروا النتائج فقط.
على أن هذه الفكرة قد تبددت الآن؟ فقد دلت المستكشفات الحديثة على أن رياضيي القدماء كان عندهم طريقة للتحليل، ولكنها اقتصرت على الهندسة، وأنهم لم يعرفوا من الجبر على صورته الحديثة شيئا، غير أنه إن لم يثبت لدينا أن متقدمي الإغريق كانوا على علم بالتحليل الجبري، فإننا نجد في عصورهم الأخيرة آثارا تدل على أن مبادئ التحليل الجبري كانت معروفة لديهم.
في أواسط القرن الرابع الميلادي، وهو عصر بلغت فيه الرياضيات أحط دركاتها، قنع المشتغلون بذلك العلم بأن يعلقوا على ما كتب الذين تقدموهم، على أنه بالرغم من ذلك بدأ علم الجبر يتبوأ المكان اللائق به بين العلوم والمعارف الإنسانية.
في ذلك الحين كتب الرياضي «ذيوفانتس» الإغريقي
Diophantes
كتابا في علم العدد، كان يتكون من ثلاث عشرة مقالة، لم يصل إلينا منها سوى المقالات الست الأولى، ومقالة ناقصة، يظن أنها المقالة الثالثة عشرة من الكتاب الأصلي، غير أن هذا الكتاب لا يكون مقالة تامة في علم الجبر، ولكنه يضع أساسا ثابتا يمكن أن يقوم عليه ذلك العلم، فإن المؤلف بعد أن كتب قليلا في المعادلات البسيطة والمعادلات الرباعية، عاد إلى الكلام في مسائل رياضية أخرى، ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بعلم الجبر.
قد يصح أن يقال: إن «ذيوفانتس» هو واضع علم الجبر في اللغة اليونانية وبين الإغريق، غير أن الدلائل تدل على أن المبادئ الأولية التي بثها في كتابه كانت معروفة من قبل، وأنه اتخذها قاعدة بنى عليها كثيرا فيما كتب، وأنه ابتكر فيها مبتكرات ذات بال، ومن الثابت أن هذا العلم ظل واقفا عند الحد الذي تركه فيه «ذيوفانتس» حتى نقلت مقالاته إلى إيطاليا في بدء النهضة العلمية.
وعلقت السيدة «هيباشيا»
Hypatia
30
ابنة ثيون
Theon
على كتاب «ذيوفانتس»، غير أن هذا التعليق فقد الآن، كما فقدت مقالتها على كتاب «أبولونيوس»
Appolonius
في القطوع المخروطية، وهي سيدة من ذوات النبوغ، ذهبت ضحية الجهل والتعصب الديني في أوائل القرن الخامس الميلادي.
31
ويدعى هذا الكاتب عند العرب «ذيوفنطس»: وجاء في أخبار الحكماء ص126 أنه «ذيوفنطس» اليوناني الإسكندراني فاضل مشهور في وقته، وتصنيفه وهو صناعة الجبر كتاب مشهور مذكور خرج إلى العربية، وعليه عمل أهل هذه الصناعة، فكأن ذيوفانتس كان من نوابغ مدرسة الإسكندرية في أوائل القرن الخامس الميلادي.
وكان أول ما كشف كتاب «ذيوفانتس»، الذي ألمعنا إليه مكتوبا باللغة اليونانية في أواسط القرن السادس عشر الميلادي في مكتبة قصر الفاتيكان، والراجح أن يكون قد نقل إليها عند ما سقطت القسطنطينية في يد محمد الفاتح.
وترجمة الكاتب «كزيلاندر»
Xylander
سنة 1575 إلى اللاتينية وأذاعه في العالم اللاتيني، وتبع ذلك ترجمة أخرى أتم من الأولى وضعها «باشيه ده ميزريا»
Bachet de Mezeriac
سنة 1621، وهو من أقدم الأعضاء الذين أسسوا الأكاديمية الفرنسوية، وكان «ميزريا» رياضيا كبيرا، فأعانه ذلك على فهم المسائل التي عرضت له في الكتاب فكان في النقل أثبت، غير أن متن ذيوفانتس كان من النقص والبلى بحيث لم يستطع أن يفهم المترجم قصده في بعض المواضع تاما، فكان يحدس المعنى أو يتمم النقص ظنا، وبعد ذلك بقليل أضاف الرياضي الفرنسي مسيو «فرما»
M. Verma
إضافات كثيرة على تعليقات «ميزريا» تناول فيها سير من كتب من اليونان في علم العدد، والنسخة التي طبعها «فرما»
Verma
تعتبر أتم طبعات الكتاب إتقانا، على أن الترجمة اللاتينية لم تكن أول ترجمة ظهرت لذلك الكتاب، فإن العرب كانوا أول من ترجمه.
إن كتاب «ذيوفانتس» إن كان ذا شأن كبير في تاريخ علم الرياضيات، فإن أوروبا الحديثة لم تتلق ذلك العلم بداءة ذي بدء عنه، بل عن طريق العرب، فإن العرب كانوا بعد اليونان أول من عرف للعلوم قيمتها الحقيقية، في ذلك الزمان الذي كانت فيه أوروبا غارقة في ظلمات الجهالة، فحملوا أمانة العلم، وأدوها للذين من بعدهم كاملة غير منقوصة، بل مزودة بثمار العقل العربي.
ولقد ثبت من تقاليد التاريخية أنهم صرفوا أكبر عناية في جمع ما كتب رياضيو اليونان، وترجموا كتبهم، وكتبوا عليها تعليقات وشروحا ذات أثر كبير في تقدم علم العدد، يكفي في الدلالة على ذلك أنه لولا ما كتب العرب في تلك العلوم لما عرفت أوروبا شيئا عن هندسة إقليدس مثلا.
ينسب العرب استكشاف الجبر عادة إلى أحد رياضييهم، محمد بن موسى، الذي عاش في أواسط القرن التاسع الميلادي في عهد الخليفة المأمون العباسي، والمحقق تاريخيا أن محمد بن موسى ألف مقالة في الجبر، فإن ترجمة لاتينية لتلك المقالة كانت قد أذيعت في عصر النهضة العلمية في أوروبا غير أنها فقدت، على أن القدر قد حفظ نسخة من الأصل العربي لا تزال في مكتبة «بودلي» بجامعة إكسفورد، ويقال فيها: إنها نسخت سنة 1342 ميلادية، وينوه ناسخها في أول صفحة من صفحاتها بأن كاتبها فلان «العربي القديم»، وعلى هامش تلك الصفحة تعليق فيه ما يدل على أنها أول مقالة كتبت في الجبر وأذيعت بين «المسلمين»، أما المقدمة ففضلا عن تعريفها بالمؤلف فإنها تثبت أن «محمد بن موسى» كان يحثه الخليفة المأمون العباسي على أن يجمع في كتاب واحد ما تناثر خلال كتب الرياضة من مبادئ الحساب الجبري، وكانت هذه الفقرة سببا في أن يعتقد الباحثون في تاريخ العلوم أن «محمد بن موسى» جمع كتابه هذا جمعا من عدة مؤلفات كانت متداولة بين أيدي طلاب العلم في البلاد العربية، أو من مؤلفات وصلت إليهم في لغات أخرى.
على أننا لا نجد من دليل يؤيد وجهة نظر الآخذين بهذا الرأي؛ فإنه لم تجر عادة المؤلفين لا من العرب ولا من غيرهم أن يعرفوا بأنفسهم في مقدمات يضعونها لمؤلفاتهم، إذن فمقدمة كتاب «محمد بن موسى» التي يعثر فيها على ذلك القول من عمل غيره، والراجح أيضا أنها وضعت لنسخة نسخت من الكتاب بعد زمان «محمد بن موسى» أو في سني حياته، ثم تداولتها الأيدي بالنقل حتى وصلت إلى مكتبة «بودلي»، ولهذا نرجح أن كتاب «ابن موسى» لا يمكن أن نميز فيه ناحية النقل عن ناحية الابتكار الصرف.
يؤيد هذا الرأي أن «محمد بن موسى» كان متضلعا في علم الفلك، عارفا بما وصل إليه أهل الهند في علم العدد والحساب، فالراجح أن يكون قد نقل عن الهند وأخذ عنهم، ولقد ثبت بما لا سبيل إلى إدحاضه أن أهل الهند كانوا على علم بالجبر، بل عرفوا كيف يحلون القضايا غير المحدودة
Intermediate problems
لذلك يمكن أن يقال ترجيحا: إن الجبر العربي منشؤه الهند أصلا، ولقد عرفنا كيف أن العرب مدينون لذلك الهندي الذي وفد إلى بغداد بمقالة «السند هند» في الفلك وتلك المقالة الرياضية التي اقتبسوا منها الأرقام الهندية.
إلا أن العرب لم يقفوا عند حد النقل عن الأمم الأخرى، فإن التحليل الجبري ما كاد يقع في أيديهم حتى أخذ كتابهم في الزيادة إليه وتنميته. فإن محمدا أبو الوفا الذي عاش خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العاشر الميلادي، كتب تعليقات على المؤلفات الرياضية التي خلفها من تقدمه من الكتاب والباحثين، وكذلك ترجم كتاب «ذيوفانتس»، وكان آخر عهد للعرب بالتأليف في علم الجبر سنة 1031 ميلادية/423ه، على أنهم تركوا علم الجبر كما خلفه «محمد بن موسى» وأبو الوفا، ولم تحدث ترجمة كتاب ذيوفانتس من أثر كبير بينهم، وقد جاء في المقتطف مجلد 28 ص385 ما يأتي:
وقد اشتغل الهنود والعرب بعلم الجبر، غير أنهم لم يضيفوا إلى موضوعات اليونان فيه شيئا يذكر ولم يستعملوه إلا في حل المسائل العددية، وبقي عندهم مسلكا متوعرا وهم يعتبرونه حسابا عاليا.
ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن كتاب ذيوفانتس لم ينقل إلى العربية إلا في عصر كان العقل العربي قد أخذ يتمشى فيه مرة أخرى نحو الغيبيات، وجاء في المقتطف مجلد 28 ص384، 385، 386 ما يلي:
وأقدم ما انتهى إلينا من أمر الجبر مؤلف وضعه ذيوفنطس
Diophante
المتوفى سنة 409م في ثلاثة عشر كتابا، لدينا منها ستة فقط والسبعة الباقية مفقودة، ومباحث الستة الأولى هي في المعادلات البسيطة والسيالة من الدرجة الأولى لمجهولين فقط يتبعها مسائل منشورة مع حلها، والمجهول في جميعها دليله واحد، ثم كتاب في المعادلات المفردة من الدرجة الثانية؛ أي ما كان المجهول فيها مربعا فقط مع حل بعض المسائل من هذا القبيل؛ ولعل السبعة المفقودة فيها مسائل أكثر صعوبة مما ذكر؛ لأن درجة الكتب ترتفع بالتدريج في الستة الموجودة. ولم يسبقه أحد إلى استعمال العلامات، بل هو أول من نبه إليها فاستخدم الخط القصير علامة للطرح.
وفي سنة 507م نشر «براهما غوبتا»
Brahmagupta
الهندي كتابا في الحساب والجبر يلحقهما ذيل في الهندسة، وهو كتاب نفيس في بابه حمل الكثيرين على القول بأن علم الجبر كان راقيا درجة سامية بين الهنود قبل «براهما غوبتا»، ودعا آخرين إلى القول بأن هذا الهندي هو واضع علم الجبر دون غيره، ولعله اطلع على كتاب ذيوفنطوس اليوناني، فإن كان ذلك فالواضع هو ديوفنطوس وحده وإلا فيكون «براهما غوبتا» قد نازعه الشرف والفخر في وضع هذا الفن، أما كتاب الرياضي الهندي فيشبه كتاب ديوفنطوس في كثير من الوجوه، ولا يزيد عنه شيئا، وهذا حمل البعض على القول بأنه منقول عنه، ويعزز هذا الزعم قصر باع الهنود في سائر العلوم الرياضية كالهندسة والهيئة عما لليونان فيه المبلغ الأعلى والخطة المثلى، فلو كان الهنود أهل اكتشاف في الرياضيات لاكتشفوا في الهندسة وهي أقرب إلى الحاجة من الجبر.
وفي أواخر القرن الثاني عشر نشر بهسكارا
Bhascara
الهندي كتابا شرح فيه كتاب «براهما غوبتا» مع بعض إضافات تناولها من العرب أو من نفسه، وبهذا الشرح عظم أمر الجبر الهندي وارتفع شأنه بين الأمم، فترجم هذا الكتاب إلى الإنكليزية بصور شتى، إذ ترجمه عدد ليس بقليل من الراغبين في نشره.
ثم بعد برهما غوبتا بزمن طويل؛ أي في الربع الأول من القرن التاسع الميلادي نشر محمد بن موسى الخوارزمي قيم خزانة كتب المأمون كتابا بأمر المأمون في الجبر والمقابلة، وهو أول كاتب كتب بالعربية في هذا الفن، فهو واضع الاصطلاحات الجبرية، وهو الذي أعطاه هذا الاسم العربي الذي نقله الإفرنج بلفظه عن عرب الأندلس وعرب المشرق، حتى خيل للكثيرين أن العرب هم واضعو الجبر، وأنه لم يسبقهم إليه أحد.
وقد اشتهر هذا الكتاب في الشرق والغرب، وطار ذكره في جميع الأصقاع، وكثرت شروحه وترجماته إلى لغات كثيرة في أزمنة مختلفة، وكان هو المعول عليه في هذا الفن مدة طويلة، ولا يشك الأوروبيون اليوم أن محمد بن موسى أخذ هذا العلم عن الهنود واليونان؛ فهو كان قيم خزانة الكتب في بغداد، وله الاستطاعة أن يستنبث ركازها ويقف على محتوياتها.
أما أبحاث الكتاب فهي الجمع والطرح والضرب للكميات الحاوية مجهولا واحدا، أو جذر المجهول أو مربعه. وطرائق الجمع والطرح موضحة بخطوط يعبر بها عن القيم، وفيه بعض أمثلة على المعادلة المفردة من الدرجة الثانية محاولة بعد إيضاحات طويلة مبهمة، وفيه باب التجذير والترقية للكميات ذات الحد الواحد.
وقام بعده تلميذه «ثابت بن قرة» فألف كتابا بين فيه كيفية استخدام الجبر في الهندسة وجمع بين الاثنين، وكثرت بعدهما كتب العرب في هذا الفن، غير أن جميع ما ألف بعدهما لم يخرج عما وضعه محمد في كتابه الأول، فكلهم نقلوا عنه كما نقل هو عمن سبقه من الهنود واليونان.
وفد ذلك الهندي الذي حمل مقالة السند هند والمقالة الرياضية إلى بغداد سنة 156ه/772م، وكان من أثرهما ما وصفنا، أما كبار فلكيي العرب فلم يظهروا إلا بعد ذلك بنصف قرن ونيف، وكان أولهم أبو معشر البغدادي تلميذ الكندي وقد توفي سنة 272 من الهجرة 885م، وذكر ابن خلكان في الجزء الأول من تراجمه ص140 (طبع مصر): أن اسمه أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي المنجم، وأن من تصانيفه كتاب المدخل وكتاب الزيج وكتاب الألوف، أما في العالم اللاتيني فيعرف باسم «أبومازار»
Abumazar .
ومن بعده محمد بن جابر المتوفى سنة 317 من الهجرة 929م، ويعرف في المؤلفات اللاتينية باسم «البتاغنيوس»
Albategnius
لأنه كان يلقب «بالبتاني» نسبة إلى بلدة «بتان» في ما بين النهرين، ونقل ابن القفطي أن البتاني صائبي من حران ابتدأ الرصد سنة 264ه/877م، إلى سنة 306ه/918م.
وأمضى ذلك العهد في مدينتي الرقة على الفرات، وفي أنطاكية بسوريا، وله من الكتب زيجه المشهور المسمى «زيج الصابي» أصله العربي محفوظ في مكتبة الفاتيكان، وطبعه في ترجمة لاتينية «أفلاطون تبيرتينوس»
في نورمبرج سنة 1537 تحت عنوان
De Scinetia Stellarùm ، وأعيد طبعه في بولونيا
Bologna
سنة 1645، ومن بين مؤلفاته التي لم تطبع تعليقات على كتاب المجسطي، وشرح مقالات بطليموس، ومقالة له في الفلك والجغرافية، وأصلح زيج بطليموس الزمني؛ لأنه لم يكن مضبوطا، وزيجه أضبط ما وجد من نوعه عند العرب، وله عدة مستكشفات رياضية وفلكية ظلت العمدة في علم الفلك عهدا طويلا في القرون الوسطى، وفي مدارس أوروبا على الأخص، وكان يلقب ببطليموس العرب لثبات قدمه في علم الفلك وتضلعه فيه.
وذكر ابن خلكان (مجلد ثامن ص117، 118 طبع مصر) أنه توفي سنة 317ه/929م عند رجوعه من بغداد بموضع يقال له «قصر الحضر»، وقال بأن الزيج نسختان أولى وثانية، وأن الثانية أضبط وأجود، ولا أعلم أية من النسختين هي المحفوظة في مكتبة الفاتيكان.
وكذلك ذكر ابن خلكان أن له كتابا اسمه «معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك»، ورسالة في مقدار الاتصالات، وكتاب شرح أربعة أرباع الفلك، ورسالة في تحقيق أقدار الاتصالات، وأنه شرح أربع مقالات بطليموس.
وترجمه ابن خلكان باسم أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني الأصل البتاني الحاسب المنجم.
قال ابن العبري:
وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة مات أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني المعروف بالبتاني أحد المشهورين برصد الكواكب، ولا يعلم أحد في الإسلام بلغ مبلغه في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركتها، وكان أصله من حران صائبا.
وجاء في الزيج الصابي الذي طبع حديثا برومية 1799، وكان قد ترجم إلى اللاتينية وطبع بها سنة 1537 «من المقدمة العربية» ما يلي:
إن من أشرف العلوم منزلة علم النجوم؛ لما في ذلك من جسيم الحظ وعظيم الانتفاع بمعرفة مدة السنين والشهور والمواقيت، وفصول الأزمان وزيادة النهار والليل ونقصانهما، ومواضع النيرين وكسوفهما، وسير الكواكب في استقامتها ورجوعها، وتبدل أشكالها ومراتب أفلاكها وسائر مناسباتها، وإني لما أطلت النظر في هذا العلم ووقفت على اختلاف الكتب الموضوعة لحركات النجوم، وما تهيأ على بعض واضعيها من الخلل في ما أصلوه فيها من الأعمال، وما ابتنوه عليها، وما اجتمع أيضا في حركات النجوم على طول الزمان لما قيست أرصادها إلى الأرصاد القديمة، وما وجد في ميل فلك البروج على فلك معدل النهار من التقارب، وما تغير بتغيره من أصناف الحساب، وأقدار أزمان السنين، وأوقات الفصول واتصالات النيرين التي يستدل عليها بأزمان الكسوفات وأوقاتها، أجريت في تصحيح ذلك وإحكامه على مذهب بطليموس في الكتاب المعروف بالمجسطي، بعد إنعام النظر وطول الفكر والروية، مقتفيا أثره، متبعا ما رسمه، إذ كان قد تقصى ذلك من وجوهه، ودل على العلل والأسباب العارضة فيه بالبرهان الهندسي العددي، الذي لا تدفع صحته، ولا يشك في حقيقته، فأمر بالمحنة والاعتبار بعده، وذكر أنه قد يجوز أن يستدرك عليه في أرصاده على طول الزمان، كما استدرك هو على أبرخس (راجع القفطي ص50 و51 طبع مصر) وغيره من نظرائه، ووضعت في ذلك كتابا أوضحت فيه ما استعجم، وفتحت ما استغلق، وبينت ما أشكل من أصول هذا العلم وشذ من فروعه، وسهلت به سبيل الهداية لم يأثر به ويعمل عليه في صناعة النجوم، وصححت فيه حركات الكواكب ومواضعها من منطقة فلك البروج على نحو ما وجدتها بالرصد وحساب الكسوفين وسائر ما يحتاج إليه من الأعمال، وأضفت إلى ذلك غيره مما يحتاج إليه، وجعلت استخراج حركات الكواكب فيه من الجداول لوقت انتصاف النهار من اليوم الذي يحسب فيه بمدينة الرقة وبها كان الرصد والامتحان على تحذيق ذلك كله.
وحقق البتاني ما يلي: «عن المقتطف مجلد 39 ص148 »:
أولا:
أن ميل فلك البروج على فلك معدل النهار هو 23 درجة و35 دقيقة، وكان أبرخس قد حسبه 23 درجة و51 دقيقة، وهو الآن 23 درجة ونحو 27 دقيقة. وقد حسب علماء الفلك المتأخرون أنه يتغير قليلا، وقد كان في زمن البتاني 23 درجة ونحو 34 دقيقة فأصاب في رصده وحسابه إلى حد دقيقة واحدة.
ثانيا:
أن طول السنة الشمسية 365 يوما و5 ساعات و46 دقيقة و24 ثانية، وكان أبرخس وبطليموس قد حسباه 365 يوما و5 ساعات و55 دقيقة و12 ثانية، وهو 365 يوما و5 ساعات و48 دقيقة و46 ثانية، فأخطأ البتاني بمقدار دقيقتين و22 ثانية فقط، وسبب خطئه في اعتماده على رصد بطليموس لا من رصده هو.
ثالثا:
دقق في حساب إهليلجة فلك الشمس، فقال: إن بعد الشمس عن مركز الأرض إذا كانت في بعدها الأبعد يساوي 1146 مرة مثل نصف قطر الأرض، وإذا كانت في بعدها الأقرب يساوي 1070 مرة مثل نصف قطر الأرض، وإذا كان في متوسط بعدها يساوي 1108 مرات مثل نصف قطر الأرض، والنتيجة التي وصل إليها قريبة جدا مما وصل إليه العلماء الآن.
ويحله الأوروبيون في المحل الأرفع بين كل علماء الهيئة الذين ظهروا في كل العصور.
وفي حدود سنة 828 للميلاد أمر الخليفة أبو جعفر المأمون بقياس درجة من الهاجرة لاستقراء جرم الكرة الأرضية، وقام بهذا العمل أربعة من علماء الهيئة مدونة أسماؤهم في صفحات التاريخ. قال أبو الفدا:
قد قام بتحقيق حصة الدرجة طائفة من القدماء كبطليموس صاحب المجسطي وغيره، فوجدوا حصة الدرجة الواحدة من العظيمة المتوهمة على الأرض ستة وثلاثين ميلا وثلثي ميل، ثم قال بتحقيقه طائفة من الحكماء المحدثين في عهد المأمون، وحضروا بأمره في برية سنجار، وافترقوا فرقتين بعد أن أخذوا ارتفاع القطب محررا في المكان الذي افترقوا منه، وأخذت إحدى الفرقتين في المسير نحو القطب الشمالي، والأخرى نحو القطب الجنوبي، وساروا على أشد ما أمكنهم من الاستقامة، حتى ارتفع القطب للسائرين في الشمال وانحط للسائرين في الجنوب درجة واحدة، ثم اجتمعوا عند المفترق وقابلوا على ما وجدوه، فكان مع إحداهما ستة وخمسون ميلا وثلثا ميل، ومع الأخرى ستة وخمسون ميلا بلا كسر فأخذ بالأقل وهو ستة وخمسون ميلا.
ولم يذكر أبو الفدا إلا عملا واحدا، والحقيقة أنهما عملان وقعا في آن واحد، أحدهما في برية سنجار في بلاد ما بين النهرين، والآخر إلى الشمال من بلد الشام بين تدمر والفرات، وقد أثبتهما ابن يونس، وهو من أشهر الذين نبغوا في علم الهيئة في الخلافة العباسية، توفي سنة 399ه/1008م.
وقال سناد بن علي:
أمرني المأمون أن أحقق وخالد بن عبد الملك درجة في الدائرة العظيمة على سطح الأرض، فذهبنا لذلك، وسار علي بن عيسى الإصطرلابي، وعلي بن البحتري من طريق أخر، أما نحن فتوجهنا إلى أن وصلنا بين فامية وتدمر، فوجدنا الدرجة 57 ميلا، ووجدها كذلك علي بن عيسى وعلي بن البحتري، وبعثنا بالخبر فوصل في آن واحد.
وذكر ابن يونس رواية أحمد بن عبد الله الملقب بحبش في كتابه «مطالع الأرصاد»، وحاصلها أن العلماء ساروا في برية سنجار وقاسوا الدرجة، فوجدوا أنها ستة وخمسين ميلا وربع ميل من أميالهم.
أما الطرق المتبعة الآن في قياس الدرجة فعمادها حساب المثلثات، وهو حساب دقيق جدا (راجع المقتطف م28 ص440 و441). •••
وبعد أن أسس الخليفة المنصور العباسي مدينة بغداد سنة 148 بعد الهجرة 765م، استقدم الطبيب النسطوري «جورجيس بن بختيشوع» من مدرسة جنديسابور وعينه طبيبا ملكيا، ومنذ ذلك الحين توارث الأطباء النسطوريون وظيفة التطبيب في قصور الخلفاء زمانا، وأسسوا مدرسة طبية في بغداد.
ولما مرض «جورجيس» في بغداد وأذن له الخليفة بالرجوع إلى جنديسابور عين مكانه تلميذه «عيسى بن صهاربخت»، وقد ألف كتابا في فن الأدوية «الأقرباذين» غير أن القفطي صاحب كتاب «أخبار الحكماء» يقول: «لما طلب المنصور جورجيس بعد رجوعه إلى جنديسابور مريضا وعوفي، وجد عند الطلب ضعيفا من سقطة سقطها من سطح داره، فاعتذر عن ذلك، وتقدم إلى عيسى هذا بالمضي إلى المنصور فامتنع، فسير عوضه إبراهيم تلميذه، وبقي عيسى هذا في البيمارستان بجنديسابور مقيما.»
غير أن أكثر المؤرخين على الضد من رواية القفطي يثبتون أن عيسى قدم بغداد وطب بها.
وقدم من بعد ذلك إلى بغداد «بختيشوع» بن «جورجيس»، وكان طبيبا للخليفة هارون الرشيد سنة 171ه/787م، ومن بعده قدم ابنه جبرائيل، فأرسل ليقوم على تطبيب جعفر البرمكي، وزير هارون الرشيد، وكتب جبرائيل مدخلا لعلم المنطق ورسالة للمأمون في التغذية والمشاريب، وملخصا في الطب أخذ عن ديوسقورس
Dioscorus
وجالينوس وبولص الأجانيطي، وكتب في وصايا طبية كثيرة، ورسالة في الروائح، وغير ذلك، ومن المعروف أن الطب الهندي كان أول ما أدخل في مدرسة جنديسابور، ومن ثم امتزج بالطب اليوناني، ولكن اليوناني تغلب أخيرا.
ومن الذين اشتهروا من الأطباء في بغداد «يحيى بن ماسرجس» أو ماسرجويه
John bar Maserjoye
وقد رأس مدرسة الطب في بغداد زمانا، وله مترجمات كثيرة ومؤلفات، ويقول الأستاذ «أوليري»: إنه مترجم كتاب «سنتا غما»
Syntagma
إلى اللغة السريانية.
وظل الطب عند العرب واقفا عند حد النقل والترجمة تأليفا، وعند تجارب مدرسة الإسكندرية عمليا، ولقد أشرنا من قبل إلى تلك الأساطير التي تخالطت بالطب والكيمياء في مصر بمدرسة الإسكندرية، فإن هذه الأساطير قد ظلت مؤثرة أثرها المحتوم في العرب طوال أيام مدنيتهم، وكان هذا الأمر سببا في أن العقل العربي لم يثب إلى الابتكار في علم الطب مبكرا شأنه في كثير من ضروب المعارف التي زاولها، فإن الابتكار في الطب لم يأت إلا في عصور متأخرة من المدنية العربية.
وفي أواخر القرن الثالث الهجري نقع على أبي العباس أحمد بن الطيب السرخسي، وكان تلميذا للكندي، ويقال: إنه كتب مقالة في الروح، ومختصرا لإيساغوجي، والمدخل إلى صناعة الطب (راجع المسعودي جزء2 ص72 طبع ليبرج).
وحتى عصر السرخسي كانت المباحث الطبية محصورة في يد المسيحيين واليهود غالبا، حتى إنك لتجد مؤلفا يقال له: يوحنا أو يحيى بن سيرابيون
John bar Serpion - ولم أقف على كنيته العربية - في أواخر القرن التاسع الميلادي، يكتب في الطب باللغة السريانية مختصرات ترجم أحدها عدة ترجمات، وطبعها من بعد ذلك في اللاتينية «جيرار الكريموني»
Gerard of Cremonia .
ويعتبر أبو بكر محمد بن زكريا الرازي أبا الطب العربي، توفي سنة 311 أو 320ه 923 أو 932م، ويلقبه كتاب اللاتينية «بالرازيس»
Rhazes ، وكان مؤلفا موسيقيا، كما كتب في الفلسفة والأدب والطب، وغالب ما يشير في مؤلفاته الطبية إلى ثقات من كتاب الهند واليونان.
ولا مشاحة في أن إدخال العنصر اليوناني الصرف في المؤلفات الطبية والاستعاضة به عما كتب أطباء مدرسة الإسكندرية نقلا عن القدماء، كان أعظم ما قام به مؤلفو العرب لصناعة الطب من الخدمات، على أن مؤلفات «الرازي» قد سادت فيها الفوضى ووصفت بضعف التأليف، فهي ليست سوى مجموعة من المقالات مفككة العرى غير متواصلة الحلقات، ولهذا السبب وحده رجع طلاب الطب عن مؤلفاته إلى ما كتب ابن سينا؛ لأن مؤلفات ابن سينا فيها من الألفة والنظام بقدر ما في مؤلفات «الرازي» من التفكك وعدم التواصل.
ولقد تلقى «الرازي» العلم بعد أن كبر، ولما نبغ تولى رياسة الأطباء في بيمارستان بغداد، ومن الأمثال التي كانت جارية على الألسنة وتدل على منزلة «الرازي» قولهم: «كان الطب معدوما فأحياه جالينوس، وكان متفرقا فجمعه الرازي، وكان ناقصا فكمله ابن سينا»، وهذا المثل يدل واضح الدلالة على أن مؤلفات «الرازي» خليقة بما وصفناها به من قبل.
واشتغل «الرازي» بالكيمياء واستكشف ما سماه «زيت الزاج»، وهو الحامض «الكبريتيك» والكحول، واستحضر الأول باستقطار كبريتات الحديد، واسمه في العربية «الزاج الأخضر»، فلما استقطره خرج منه سائل أسماه «زيت الزاج»، ولا تزال الطريقة التي اتبعها «الرازي» في استخراجه ذلك الحامض متبعة في استخراجه حتى اليوم، وأما الكحول فقد استحضره باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة.
وألف في استخراج الذهب من المعادن الأخرى مؤلفا كان لا يعتقد أنه حق وعلم صحيح، ولكن الراجح أنه ما ألف فيه إلا ابتغاء الرزق والمال ليستعين به على تجاريبه الكيماوية، وألف كتبا كثيرة لم يبق منها إلا القليل، ويقال: إنها كانت مائتي مؤلف، والباقي منها كتاب «الحاوي» وهو أهمها، كتبه في الأمراض ووصفها ومداواتها، وكتاب «الطب المنصوري»، وكتاب «الجدري والحصبة»، وكتاب «الفصول في الطب»، وكتاب «الكافي»، وقد ترجم إلى العبرية، وهو موجود الآن في جامعة إكسفورد، وكتاب «برء الصناعة» وكتاب «الطب الملوكي».
وكان الخليفة المنصور أكبر مشجع للأطباء النسطوريين على أن يسكنوا بغداد ويعلموا فيها، وكان له ضلع كبير في ترجمة الكتب العلمية والفسلفية عن اللغات اليونانية والسريانية والفارسية، غير أن اهتمام الخليفة المأمون بهذا الأمر كان أكبر، وحمايته للعلماء والحكماء أثبت وأكثر تشجيعا.
4
أسس المأمون الخليفة العباسي مدرسة بغداد سنة 217ه/832م على نسق المدارس النسطورية والزرادشتية التي كانت مؤسسة من قبل ذلك، وسمى تلك المدرسة «بيت الحكمة» ووضعها تحت عناية «يحيى بن ماسويه»
32
John bar Maswai ، الذي توفي سنة 243ه/857م وقد مر بنا ذكره.
وهو من المؤلفين في السريانية والعربية، أما مقالته في الحميات فقد كانت العمدة في دراسة ذلك المرض زمانا طويلا، ونقلت من بعد إلى اللاتينية والعبرية.
أما أكبر الأعمال التي قام بها بيت الحكمة شأنا، فترجع إلى المجهودات التي بذلها تلاميذ يحيى وتابعوه، وعلى الأخص «أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي»، المتوفى سنة 263ه/876م، وهو ذلك الطبيب النسطوري الذي مر ذكره في تاريخ النقل عن اليونانية إلى السريانية، فقد نقل فضلا عن المؤلفات الطبية جزءا من منطق أرسطوطاليس «الأورغانون»، وبعد أن درس أبو زيد في بغداد رحل إلى الإسكندرية، وعاد منها مزودا بكل ثمار الدرس التي كانت شائعة متقنا للغة اليونانية التي استخدمها فيما بعد أداة للنقل إلى السريانية والعربية.
واجتمع معه في «بيت الحكمة» ابنه إسحاق وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي، وترجم حنين إلى العربية مقالات إقليدس
Euclid ، وبضعة مؤلفات عن جالينوس وأبقراط وأرخميديس
Archimides
وأبولونيوس البرغوسي
Apollonius of Pergaeus ، وهو أكبر الذين اشتغلوا بالهندسة في العالم اليوناني بعد أرخميديس، ولد في الغالب سنة 250ق.م، ومات في حكم بطليموس فيلوباتر
فكأنه عاش بعد أرخميديس بأربعين عاما تقريبا، وكتب كثيرا، غير أن كل ما كتبه في اليونانية فقد بتمامه، ولم يبق إلا ما ترجم العرب عنه، وكذلك ترجم أبو زيد عن غير هؤلاء، كما ترجم الجمهورية
The Republic
وكتاب تيماوس
Timaeus
لأفلاطون وقاطيغورياس، والفوسيقا، و الماغناموراليا
Magna Moralia
أي الأخلاق الكبير عن أرسطوطاليس، وتعليقات تيمستيوس
Themistius
على المقالة الثلاثين من الميتافيزيقا، وترجمة كاملة للإنجيل إلى اللغة العربية، ولم يقتصر على هذا بل ترجم أيضا كتاب أرسطوطاليس في المعادن، وهو كتاب ظل زمانا طويلا مرجعا من أهم المراجع في دراسة الكيمياء، وعن أصله اليوناني أخذ بولس الأجانيطي.
أما ابنه إسحاق ففضلا عما نقل في الطب، فقد ترجم إلى العربية تراجم أخرى منها «السوفسطائي»
The Sophist
لأفلاطون، والميتافيزيقا والروح «ده أنيما»
de Anima ، والكون والفساد
Degeneratione et de Corrupotione
وإرمانوطيقا أو «باري أرمنياس»؛ أي العبارة لأرسطوطاليس، وهذه المقالة ترجمها أبوه حنين إلى السريانية، ثم تعليقات على «فرفوريوس» والإسكندر الأفروديسي وأمونيوس
Ammonius .
وبعد ذلك بقليل ظهر في أفق التأليف «قسطا بن لوقا»
Questa ben Loqa
البعلبكي ، وقد درس في بلاد اليونان وترجم كثيرا، ومن أشهر ما كتب كتاب «الفلاحة اليونانية» نقله عن السريانية، وقد طبع بمصر سنة 1293ه، وتوفي ابن لوقا سنة 311ه/923م.
وكان القرن الرابع الهجري في الحقيقة العصر الذهبي في تاريخ الترجمة والنقل عند العرب، أما ذلك العمل العظيم الذي تم في ذلك العهد، فإن كان في واقع الأمر راجعا إلى فئة من المسيحيين الذين كانوا يتكلمون السريانية، واحتذوا الأمثال التي درسوها في لغتهم، إلا أن عددا عظيما من الترجمات قد نقلت إذ ذاك عن اليونانية مباشرة، نقلها مترجمون درسوا تلك اللغة في الإسكندرية أو في إغريقية، وغالب ما كان المترجم منهم قادرا على أن ينقل عن اليونانية إلى العربية والسريانية معا، وكان هناك مترجمون عن السريانية، غير أنهم كانوا يعتبرون في المنزلة الثانية بعد المترجمين عن اليونانية.
من بين المترجمين النساطرة الذين نقلوا عن السريانية نذكر «أبو بشر متى بن يونس» المتوفى سنة 328ه/939م، وقد ترجم إلى العربية أناليطيقا الثانية
Analytica Posteriora
والبويطيقا لأرسطوطاليس وتعليقات الإسكندر الأفروديسي على كتاب الكون والفساد لأرسطوطاليس، وتعليقات «تيمستيوس» على الكتاب الثلاثين من الميتافيزيقا، وكل هذه الكتب نقلها عن السريانية، وله مؤلفات مبتكرة في التعليق على قاطيغورياس؛ أي المقولات لأرسطوطاليس والإيساغوجي لفرفوريوس.
ومن الثابت في تاريخ هذه النهضة الكبيرة أن مترجمي اليعقوبيين يأتون بعد النساطرة، وكان من بين الذين نقلوا منهم عن السريانية إلى العربية «يحيى بن عدي» المتوفى سنة 364ه/974م، وكان تلميذا لحنين بن إسحاق، وقد راجع كثيرا من الترجمات التي تقدم عليه بها المترجمون، وأصلح نقصها وأضاف إليها ما استقامت به معانيها، وترجم عن أرسطوطاليس كتاب قاطيغورياس والسوفسطيقا والبوليطيقا والميتافيزيقا، وعن أفلاطون القوانين وتيماوس، وعن الإسكندر الأفروديسي تعليقاته على قاطيغورياس - المقولات - وعن «ثيوفراسط»
Theophrastus
الذي علم بعد أرسطوطاليس في اللوقيون كتاب الأخلاق، وكذلك ترجم «أبو علي عيسى بن زارة» عن أرسطوطاليس كتاب قاطيغورياس، والتاريخ الطبيعي، وكتاب الحيوانات
Animalia
مع تعليقات يوحنا فيلوبونس.
أما وقد بلغنا هذا المبلغ من البحث فليس ثمة من حائل يحول دون الكلام فيما وقف عليه العرب من مؤلفات أرسطوطاليس.
كان «الأورغانون»؛ أي المنطق لأرسطوطاليس، من أوليات ما عرف العرب عن المعلم الأول، وقد عرفوا معه كتاب بريطوريقا «الخطابة» والبويطيقا «الشعر» مع كتاب إيساغوجي لفرفوريوس.
أما مؤلفات أرسطوطاليس في العلم الطبيعي فقد عرفوا منها الفوسيقا، وكتاب الكون الفساد وتاريخ الحيوانات الطبيعي
Historia animalium ، وكتاب الروح
de Anima ، أما كتاب المتيورلوجيا - الآثار العلوية - الذي عرفه العرب، فظاهر الانتحال، وليس لأرسطوطاليس، وعرفوا عنه من العلوم الأدبية الميتافيزيقا، وعلم الأخلاق إلى نيقوماخس
Niconacheàn Ethics
وعلم الأخلاق الكبير، على أن هناك شكا كبيرا في أنهم عرفوا الأخلاق إلى نيقوماخس.
ومن غريب الأمر أن سياسة أرسطوطاليس لم يعرفها العرب، ولم يعنوا بها، واستعاضوا عنها بقوانين الجمهورية لأفلاطون.
ويرجح أن هذا هو السبب المباشر في أن نظم الحكومات ظلت عند العرب غارقة في طيات النظر الغيبي، وأعانهم على ذلك إدماج الحكومة في الدين والخلط بين السلطتين الدينية والدنيوية، وعدم التفريق بين سلطات التشريع والقضاء والإدارة.
وقد نسب العرب إلى أرسطوطاليس كتابا في المعادن وآخر في الميكانيكا لا يعرف الباحثون في العصور الحديثة عنهما شيئا، وليس ذلك بكاف في إثبات أنهما لغيره، ولكن الدليل الذي يرجح أنهما لغيره أن أرسطوطاليس لم يشر إلى هذين الكتابين في بقية كتبه التي استكشف أصلها اليوناني في أوائل القرن التاسع عشر.
وظل «الأورغانون» قاعدة التعاليم الإنسانية عندهم، ومشى جنبا لجنب مع علومهم الأصلية، كالنحو والفقه، والظاهر أن ذلك أمر طبيعي الوقوع في كفاءات العقل الإنساني، أمر طبيعي أن يأتلف المنطق وعلوم الكلام، فإن هذه الظاهرة إن كانت قد وجدت متسعا في العقل السامي في آسيا، فإن آثارها ظهرت في أوروبا لدى انتشار الفلسفة المدرسية في العالم اللاتيني، قبل أن يكون لزعماء هذه الفلسفة؛ أي احتكاك بالعرب، فكأن العقل اللاتيني والعقل التيوتوني الآريين، لم يعدوا القاعدة التي جرى عليها العقل السامي.
ظل منطق أرسطوطاليس علما ثابتا أصيلا في كل البلاد التي عرفته، وبين كل الأمم التي احتكت بالفلسفة اليونانية، رحبت به العقول أينما حل ولم تنفر منه الطبائع، لذلك نجد أن كل المناقشات الفلسفية واللاهوتية التي تقع عليها في كتب العرب ليست سوى مسائل مستمدة أصولها من الميتافيزيقا والبسيكولوجيا، ولهذا نجدها جميعا ذات آصرة متينة بالكتاب الثاني عشر من الميتافيزيقا، والكتاب الثالث من رسالة الروح
de Anima .
عرفنا قبل أن البسيكولوجيا لأرسطوطاليس لم تفسر عند العرب إلا بالاستعانة بما كتب فيها الإسكندر الأفروديسي من التعليقات، وبذلك اصطبغت بصبغة من الألوهية وما بعد الطبيعة «الغيبيات» أكملتها من بعد المدرسة «الأفلاطونية الجديدة»، وتعاليمها المستمدة من كتاب «إيثولوجيا» للشيخ أفلوطين الإسكندري على الأخص، وهو كتاب في القول بالألوهية نسب خطأ إلى أرسطوطاليس، وكان سببا في أن يعنت المعلم الثاني أبو نصر الفارابي نفسه في سبيل التوفيق بين أفلاطون وأرسطوطاليس، ولم تذع الفكرات الخاصة بالقول بالألوهية في «الأفلاطونية الجديدة» بين العرب إلا بعد أن ترجم كتاب «إيثولوجيا» المنسوب إلى أرسطوطاليس إلى العربية سنة 226ه/840م.
والحقيقة التي تثبت من البحوث الحديثة أن كتاب «إيثولوجيا» ليس سوى تلخيص لثلاثة الفصول الأخيرة من كتاب يسمى «إنياديس»
Enneads
أي «التاسوعات»
33
وضعه الفيلسوف أفلوطين الإسكندري
، فنقلها «ابن ناعمة»
Naymah
إلى السريانية ونشرها بين الناس في صورة كتاب مستقل منسوب إلى أرسطوطاليس.
قد يؤخذ على هذا المترجم أنه لم يكن أمينا في النقل، وأنه أظلم مفاوز العلم وأضل العلماء، غير أننا لا ننسى أن اسم أفلاطون وأفلوطين متقاربين في اللغة العربية، كما هما في اللغة اللاتينية، وربما كانا متقاربين في اللغة السريانية أيضا، فلا يبعد أن يكون «ابن ناعمة» قد تأثر بالرأي الذي شاع في مدرسة الإسكندرية من القول بأن فلسفة أرسطوطاليس وفلسفة شيخه أفلاطون، غير مختلفتين في الجوهر، وأن التوفيق بينهما مستطاع، وتلك فكرة ورثها العرب، ومضوا عليها عاكفين.
ولما ذاع كتاب «إيثولوجيا» اقترن درسه بدراسة تعاليم الإسكندر الأفروديسي، وكلاهما يشرح أصول المذهب الأفلاطوني الجديدة، فكان لذلك أثر ظهر بارزا في ما كتب العرب من كتب الفلسفة الإسلامية في سائر فروعها.
أما بين يدي الفلاسفة، والذين هم جديرون بحق أن يسموا فلاسفة، فقد ظهر بين العرب فيما كتبوا ضرب من الأفلاطونية الجديدة مصبوغا بالصبغة الإسلامية، تشكل في آخر حالاته بما كتب الرئيس ابن سينا، والفيلسوف ابن رشد، ونقل على هذه الصورة إلى الفلسفة المدرسية في العالم اللاتيني في أوروبا، فكان أثره بين اللاتين لا يقل عن أثره بين العرب، ولما استشم هذا المذهب ريح الفكر الغيبي انقلب إلى «باطنية» قاسية الأحكام ظهرت تحت عنوان «التصوف» عند العرب، وكانت سببا في ذلك الضرب من «اللاهوت التأملي» الذي نمته الباطنية وشربته بروحها الخيالية، وكثيرا ما تخالطت الفكرات الشائعة في ذلك المذهب باللاهوت الإسلامي الصحيح، وظهرت ممزوجة به أو ممزوجا بها، مزجا يظهر جليا في سطور المؤلفات التي تناولت تلك الأبحاث.
أما التعاليم الأولى لتلك «الأفلاطونية الجديدة» كما تحنرت في اللاهوت الإسلامي، فتنحصر أولا في الاعتقاد بالعقل الإيجابي - ويسمونه «العقل الفعال» - الذي كان الإسكندر الأفروديسي أول من قال به، على أنه فيض من فيوض الله، ثم العقل السلبي - ويسمونه العقل المستقل - ويختص به الإنسان وحده، ولا ينشط هذا إلا بقوة يبعثها فيه العقل الفعال، وما هذا المذهب في مبناه وتفصيله إلا مذهب الأفروديسي إذ يقول: «إن غرض الإنسان من الحياة ينحصر في أن يصل بين عقله الهيولاني والعقل الفعال بوحدة متينة»، غير أن طريقة هذا الاتصال تختلف عند الفلاسفة وعند الباطنيين. •••
يأتي بعد الفلسفة علم الطب، وهو من أكبر ما ورث العرب عن اليونان، غير أن هذا العلم، وقد استمد من مدرسة الإسكندرية ومن بيئتها، لم يظهر بين العرب إلا مسمما بتعاليم المدرسة المصرية المتأخرة، فظهرت تعاليم جالينوس وأبقراط ممزوجة بضروب من السحر والطلسمات والتنجيم، فظلت هذه العوامل شديدة الأثر في أكثر ما خرج في الطب من المؤلفات العربية، أما الأثر الحقيقي في الطب فقد نقل عن اليونان، وقد استمد أولا من كتب النساطرة في الفلسفة، ثم من بعد ذلك عما كتب النساطرة والزرادشتيون في مدرسة جنديسابور.
بعد ذلك يدخل الأثر الحراني في الطب عند العرب، وكانت مدرسة حران الوثنية ذات صلة وآصرة بالأفلاطونية الجديدة أيضا، ولما مر المنصور الخليفة العباسي بحران على رأس جيشه؛ ليحارب إمبراطور بيزنطية، أبدى عجبه من زي تزيى به بعض الذين قدموا من حران ليؤدوا فروض التحية والولاء، فرآهم مهدلي الشعر، يرتدون ملابس ضيقة تلاصق أجسامهم، ولما وقف على أمرهم وأنهم ليسوا نصارى ولا زرادشتيين ولا يهود ولا من أهل الكتاب، علم أنه استكشف مستعمرة وثنية في ملكه الإسلامي، فأمرهم أن يعتنقوا دينا من الأديان ذوات الكتب قبل أن يعود من الحرب، وإلا فإنه يكون في حل إذا حكم السيف رقابهم، فاعتنق بعضهم الإسلام، وبعضهم الدين النصراني أو الزرادشتي، وظل بعضهم أمينا لعقيدته الوثنية، غير أن هؤلاء ظلوا في حيرة من أمرهم حتى أدركهم مدره عربي أعطوه مالا تلقاء ما ينصح لهم به من سبيل يخلصون به من سيف الخليفة، فنصح لهم بأن ينقلبوا صابئين، وهم من أهل الكتاب بنص القرآن، على أن الخليفة لم يمر بحران في عودته، ولكن ظل الحرانيون الذين انتحلوا الصابئية آمنين بذلك النعت الجديد، في حين أن الذين اعتنقوا الإسلام أو المسيحية أو الزردشتية، ارتدوا إلى دينهم تحت عنوان الصابئية.
كان «ثابت بن قرة» أعظم من عرف في مدرسة حران في العالم العربي، توفي سنة 289ه، وكان يجيد اللغة اليونانية، كما يجيد السريانية والعبرية، وترجم في المنطق والرياضيات والتنجيم والطب، وكذلك في طقوس الوثنيين وتعاليمهم التي ظل أمينا عليها ثابت العهد لها، وهو أبو الحسن ثابت بن قرة بن هرون «ويقال: زهرون» بن ثابت بن زكريا بن إبراهيم بن كرايا بن مارينوس بن مالاميروس الحاسب الحكيم الحراني. «وكان في مبدأ أمره صيرفيا بحران ثم انتقل إلى بغداد واشتغل بعلوم الأوائل فمهر فيها، وبرع في علم الطب، وكان الغالب عليه الفلسفة، وله تآليف كثيرة في فنون العلم مقدار عشرين تأليفا، وأخذ كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي فهذبه ونقحه وأوضح ما كان مستعجما، وكان من أعيان عصره في الفضائل، وخرج من حران لخلاف بينه وبين أهل مذهبه فنزل إلى كفر توشا، قرية كبيرة بالجزيرة الفراتية، أقام بها مدة، إلى أن قدم محمد بن موسى من بلاد الروم راجعا إلى بغداد فاجتمع به فرآه فاضلا فصيحا فاستصحبه إلى بغداد، وأنزله في داره، ووصله بالخليفة فأدخله في جملة من المنجمين، فسكن بغداد وأولد الأولاد» (راجع ابن خلكان مجلد أول ص124 و125 طبعة أميرية).
ولقد توارث آل قرة العلم، فكان منهم ابنه أبو سعيد سنان، ومن أحفاده إبراهيم ثابت وأبو الحسن ثابت وإسحاق أبو الفرج، وكل هؤلاء نبغوا في الرياضيات والفلك.
وكان أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة ببغداد في أيام معز الدولة بن بويه، وقرأ عليه كتب بقراط وجالينوس، وقد سلك مسلك جده ثابت في نظره في الطب والفلسفة والهندسة وجميع الصناعات الرياضية للقدماء.» (راجع ابن خلكان جزء أول ص125 طبعة مصر الأميرية). •••
أما ما كان يسمونه الفلاحة فقد نقل أحمد بن على بن قيس الكلداني المعروف بابن وحشية، الذي عاش سنة 291ه «كتاب الفلاحة النبطية» عن الكلدانية أملاه على علي بن محمد بن الزيات سنة 318ه وجعله خمسة أجزاء، ومنه نسخ خطية في برلين وليدن وإكسفورد والمتحف البريطاني وباريس ودار الكتب المصرية، ومن الفلاحة أيضا كتاب للزيتوني يقال له: «مختصر الفلاحة» عن كتاب ابن وحشية.
وقد تقدم أن لقسطا بن لوقا الطبيب النصراني كتاب «الفلاحة اليونانية» نقله عن السريانية، أما كتاب ابن وحشية هذا فنرجع فيه إلى الأستاذ نلليتو.
والظاهر أن لمعتقد العرب في حركة إقبال الأفلاك وإدبارها سببان: الأول ما ورثوه عن مدرسة الإسكندرية من النزعة إلى التنجيم والباطنية، وما ورثوه عن هذه المدرسة أيضا في فكرة أن الأفلاك ذوات عاقلة.
ولقد يقال خطأ بأن العرب ورثوا هذه الفكرة أو الصناعة، صناعة إقبال الأفلاك وإدبارها عن الكلدانيين؛ لأنهم ترجموا كتاب تنكلوشا البابلي إلى اللغة العربية، غير أن الأستاذ نلليتو قد نفى هذه الفكرة، وأثبت أن كتاب تنكلوشا مختلق اختلاقا، ولذا ننقل ما قاله في ذلك عن محاضراته التي ألقاها بالجامعة المصرية، وطبعت في كتاب تحت عنوان «علم الفلك عند العرب» إثباتا لرأينا الأول: وإثباتا لفكرتنا في أن اختلاق هذا الكتاب دليل على أن العرب قد قويت فيهم هذه النزعة من طريق مدرسة الإسكندرية، لا من طريق غيرها، قال الأستاذ حرفيا:
تحفظ في أوروبا نسختان
34
من كتاب يخال المطلع عليه أول بدء أنه ترجمة تأليف تنكلوس إلى العربية، واسم الكتاب في نسخة مدينة ليون كتاب تنكلوشا البابلي القوقاني
35
في صور درج الفلك، وما تدل عليه من أحوال المولودين بها، نقله من اللغة النبطية إلى العربية أبو بكر بن أحمد بن وحشية،
36
أملاه علي بن أبي طالب
37
أحمد بن الحسين بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الملك الزيات، وفي نسخة مدنية بطرسبورغ: «كتاب تنكلوشا - كذا - القوفاني من أهل بابل في صور درج الفلك وبعض دلائلها على ما أخذ عن القدماء»، وغاية الكتاب وصف الصور العجيبة التي يتوهم المؤلف أن تطلع مع كل درجة من درج البروج الثلاثمائة والستين، ثم ذكر صفات وأخلاق من كان طالع مولده الدرجة المذكورة،
38
وقال مثلا: إن الدرجة الثلاثين من الميزان «يطلع فيها زحل في صورته العظمى التي لا يطيق أحد أن ينظر إليه، ولا أن يدنو منه على مسيرة ألف سنة من شدة البرد والكزاز، وهو جالس على رفرف من ديباج، وقد جعل إحدى رجليه على فخذ الأخرى، وعلى رأسه تاج من الزمرد الأخضر، وفي يده اليمنى طوق من حجارة الشبج فيه مرآة كبيرة محلاة وهي تلمع وتبرق، ولحيته كبيرة بيضاء مثل الثلج، وفي رجله خفا ديباج أسود جلد السواد ، وهو مشتمل بكساء خزا أخضر أسود شديد السواد وهو ساقط مطرق»،
39
وقال: إن الدرجة السادسة عشرة من برج العقرب «يطلع فيها لوح ذهب مدفون حواليه فصوص زمرد أخضر، ورجل شيخ جالس في حجره مصحف يقرأ فيه أخبار قياما الملك وأقاصيصه»،
40
وعلى قوله في الدرجة التاسعة من برج القوس «يطلع فيها عقويا الحكيم في صورته إذ كان شابا جميلا، وقد أخذ بيده جارية حسناء، وهو يحدثها بحديث صغار لا يفهمه أحد، ويضحك إليها وعن يمينها الصن المقير الذي حمل فيه رأس ريخانا الملك إلى عمه، فلما رآه مات فبقي الصن بموضعه سنة لا يمسه أحد، ولا ينظر إليه، والباب دونه مغلق إلى أن جاءهم رسول ملك الفرس فدخل البيت وحرق الصن والرأس فيه»،
41
وجميع الكتاب خرافات مثل هذه يحكيها لدرجة درجة من فلك البروج، فإذا قابلناها على ما وصل إلينا من تأليف توكرس أو تنكلوس الحقيقي وجدنا بين الكتابين فرقا عظيما بل بونا شاسعا، ويركن تنكلوشا القوقاني «أو بالحري ابن وحشية أو أبو طالب الزيات حسبما سأبين» إلى حكماء أهل بابل الأوائل، ودعاهم بأسماء غريبة مختلفة اختلافا واضحا مثل أرميسا وبرهمانيا الخسرواني وغيرهما، فلا ريب في أن هذا الكتاب هو المذكور في الفلاحة النبطية لأبي أحمد بن علي بن المختار المعروف بابن وحشية النبطي.
42
ويضطرني ذلك إلى وصف كتاب الفلاحة النبطية،
43
ولو بغاية الاختصار، قال صاحبه في مقدمته: إن الكتاب الأصلي ألفه قبله بألوف سنين حكيم بابلي اسمه قوثامي نقلا عن كتب أقدم من تأليفه بكثير وضعها ضغريث وينبوشاد، وإن ابن وحشية ترجمه من لسان الكسدانيين أو النبطية - والمراد اللغة البابلية القديمة - إلى العربية سنة 291ه/904م،
44
وأملاه سنة 318ه/930م، على تلميذه أبي طالب أحمد بن الحسين بن علي بن أحمد الزيات، فمغترا بهذا الكلام وبما وجد في الكتاب من الأمور والأسماء الغريبة زعم خولسن
45
أنه من آثار بابل الثمينة النفيسة التي ضاعت لولا ابن وحشية وأبو طالب الزيات، فاستنبط من ذلك الاستنباطات البعيدة، ولتعلموا أن الفلاحة النبطية تتعلق بالعلوم السحرية أكثر منها بالطبيعيات والنبات فقال ابن خلدون:
46 «وترجم من كتب اليونانيين - كذا - كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك
47
على علم كبير، ولما نظر أهل الملة
48
فيما اشتمل عليه هذا الكتاب، وكان باب السحر مسدودا، والنظر فيه محظورا، فاختصروا منه الكلام في النبات من جهة غراسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك، وحذفوا الكلام في الفن الآخر منه جملة. واختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج، وبقي الفن الآخر منه مغفلا نقل منه مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله.
وقال في موضع آخر:
49
وكانت هذه العلوم
50
في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين، وفي أهل مصر من القبط وغيرهم، وكان لهم فيها التآليف والآثار، ولم يترجم من كتبهم فيها إلا القليل مثل الفلاحة النبطية من أوضاع أهل بابل، فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه، ووضعت بعد ذلك الأوضاع.»
أما الذين جاءوا بعد خولسن من الباحثين عن حقيقة ذلك الكتاب، لا سيما كتشمد المذكور آنفا ونولدكه
51
فبرهنوا البراهين الناطقة على أنه من تأليفات الشعوبية المفرطين في تفضيل الأمم الأجنبية على العرب المحض المتخذين كل وسيلة جائزة كانت أم مكروهة، أو مذمومة بلاغا إلى مبتغاهم. فغرض كتاب الفلاحة النبطية إثبات أن قدماء أهل بابل قد توصلوا في مدارج الحضارة والتمدن والتقدم العلمي إلى غاية لم تتقرب منها العرب في الجاهلية ولا فيما بعد الإسلام.
وحيث إن معرفة أحوال بابل وآثور القديمة قد اندرست كليا منذ قرون عند الشرقيين، اخترع صاحب الفلاحة النبطية الأسماء والنوادر والأخبار، وزور ولفق وموه، وفي كل واد هام، ووشى كلامه ونسج كتابه بالخرافات الشنيعة والأكاذيب الفظيعة.
ومن أعجب العجائب أن كتاب الفلاحة النبطية على المحتمل ليس تأليف ابن وحشية كما قيل في عنوان الكتاب وصدره، بل إنما هو من مختلقات أبي طالب الزيات
52
الذي نسبه إلى ابن وحشية؛ أي إلى رجل قد مات وقت نشر التصنيف تخلصا من ذم إخوانه المسلمين، وتبرئة لنفسه من تهمة النفاق والافتراء، وأنتم تدرون ما أكثر مثل ذلك الفعل عند أصحاب الأحكاميات والسحريات والكيمياء، وكم من تأليف عزي مثلا إلى هرمس وجاماسب وغيرهما من حكماء الوهميين، وكم نسب إلى أبي معشر ومسلمة المجريطي من كتاب ألف بعد موتهما بقرون، وإني مرتاب حتى في وجود ابن وحشية، الذي عزا إليه صاحب كتاب الفهرست ص311 إلى 312 عدة كتب في علوم السحر، وص358 كتابا في الكيمياء من دون أن يفيدنا شيئا من أحوال حياته، وأسماؤه أبو بكر أحمد بن علي
53
بن المختار بن عبد الكريم بن جريثا بن بدنيا بن برطانيا بن غلاطيا - كذا - الكسداني، فترون أن أسماء أجداده أسماء وهمية لا أصل لها في اللغات الآرامية - ومنها النبطية، أو في لغات أخرى، بل إن برطانيا وغلاطيا أسماء ولايتين مشهورتين من ولايات المملكة الرومانية
54
ذكرا أيضا في كتابين لبطليموس منقولين إلى العربية،
55
فيتضح أنها جعلت أسماء أشخاص تزويرا، وزيادة على ما قلته. نستفيد من كتاب الفهرست ص312 أيضا أن جميع تأليفات ابن وحشية في السحر إنما عرفت برواية أبي طالب الزيات، فذلك يزيدني ريبا في حقيقة وجود ابن وحشية.
56
ثم نرجع إلى علم الكيمياء فنجد أنفسنا مسوقين إلى أن نقرن اسم «جابر بن حيان» بحران، وهو رجل ذو شخصية محققة الأثر في تاريخ علم الكيمياء، ولم يتحقق الباحثون من تاريخ مولده، ولكن التاريخ يدل على أنه كان تلميذا يتحقق من تاريخ مولده. ولكن التاريخ يدل على أنه كان تلميذا للأمير خالد الأموي، وهو أول أمير عربي عني بالعلم ليكون عالما، وكان ثابت القدم في علم الكيمياء، وتنسب مقالات كثيرة في ذلك العلم لجابر بن حيان، وتدل التقاليد على أن أكثرها صحيح النسب إليه.
يقول مسيو «برتيلو»
M. Berthelot
في الجزء الثالث من كتابه «الكيمياء في القرون الوسطى»
La Chemie en Moyen age «باريس 1793» في تحليل تاريخي قيم أن تاريخ كيماويي العرب ينقسم إلى قسمين: الأول ينحصر في نقل المباحث الكيماوية التي قام بها فحول من علماء الإسكندرية، والثاني ينحصر في ما ابتكر العرب في ذلك العلم بعد أن اتخذوا عمدتهم على مباحث الإسكندرية، غير أنه ينسب كل ما في هذا العلم من الابتكارات في العصر العربي لجابر بن حيان حتى قال فيه: «لجابر بن حيان في علم الكيمياء، ما لأرسطوطاليس ومن قبله في علم المنطق.»
ونشر مسيو برتيلو في كتابه ذاك ستة مقالات صحت لديه نسبتها إلى جابر، ويعتبرها مسيو برتيلو كمثال لما وصل إليه العقل العربي في ذلك العلم من الابتكار: ويقول بأن كل الباحثين في هذا العلم من بعده كانوا عالة عليه نقلا وتعليقا.
لقد ظل العرب طوال قرون يقصرون مباحثهم في الكيمياء على البحث وراء تحويل المعادن إلى ذهب، ولكن انقلبت الفكرة فيما بعد ذلك فأخذت الكيمياء بضلع أوسع من العلاقة بعلم الطب، ولو أنها لم تتحرر تحريرا مطلقا من الأساطير القديمة، وكان لذلك العلم ثلاثة أغراض عند القدماء؛ الأول: إيجاد محلل عام لكل المواد العنصرية، ثانيا: اكتشاف ما يدعونه بحجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى ذهب، ثالثا: العثور على إكسير الحياة، وهو دواء يشفي جميع العلل والأمراض. إن موضوع هذا العلم كما كان يدركه القدماء لا يمت بآصرة بعيدة أو قريبة لعلم الكيمياء كما عرف في العصور الأخيرة، غير أن تحويل العناصر إلى بعضها بالتجارب الكيماوية لم يصبح في القرن العشرين ذلك الحلم الخيالي الذي تصور أهل القرن التاسع عشر أن القدماء تعلقوا بأهدابه ضلة، على أن كل ما يهمنا في هذا الموضوع هو ما أقر عليه المؤرخون في تاريخ العلم عند العرب في أنهم كانوا ذوي كفاءات اختبارية عظيمة، وأنهم أجروا اختبارات جليلة القدر كبيرة الفائدة، ولو أنهم لم يدركوا كل الإدراك ما كان لاختباراتهم تلك من الشأن والخطر الكبير.
إن كل المتون التي نشرها مسيو برتيلو بلا استثناء تبدأ بالتحذير من إذاعة أسرار تلك الصناعة، وغالبا ما تتضمن فقرات يدرك منها أن كاتب المتن قد تعمد أن يغفل ذكر بعض التجاريب والاختبارات لئلا يتناولها العامة الذين لم يتثقفوا فيفسدون على الناس أمرهم وينكثون فتل الآداب والأخلاق، بما يصبح بين أيديهم من الذهب الذي يحولونه عن المعادن الأخرى.
والكيماويون من العرب يدعون أنهم وصلوا إلى تحويل المعادن إلى ذهب، وأنهم وقفوا على سر ذلك، والتاريخ مملوء بإشارات إلى تلك الدعوى، غير أن بعض الناقدين من معاصري الذين ادعوا هذه الدعوى يقولون بأن دعواهم لا دليل عليها ولا صحة لها، وكثيرا ما أشار المؤرخون إلى أن المعلم الثاني، أبا نصر الفارابي كان يعتقد بصحة ذلك الأمر، وأنه كان ثابت اليقين في إمكان تحويل المعادن إلى ذهب، غير أنه مات فقيرا معدما، بينا تجد أن الرئيس ابن سينا، وهو ممن لم يعتقدوا ذلك الاعتقاد، مات في كفاف من العيش، وكان في مستطاعه أن يجمع ثروة كبيرة، لو أنه أراد ذلك.
ولقد اختلف المشتغلون بالكيمياء من العرب في كيفية تحول المعادن، أي في صحة الكيمياء كما كانت تعلم في الصور الأولى، فقال بعضهم بأنها تتحرك فيصير النحاس فضة وتصير الفضة ذهبا، وقال غير هؤلاء: إن المعادن لا تتغير إلا في صورتها لا غير، فيصبغ النحاس فيصير أبيض اللون كالفضة، وتصبغ الفضة فتصير كالذهب، ولكن كل معدن يظل حافظا لصفاته الأصلية فتظل الفضة فضة والنحاس نحاسا والذهب ذهبا (راجع المقتطف م41 ص105 وما بعدها).
قال حجي خليفة في كشف الظنون: «إن الناس في علم الكيمياء على طريقتين؛ فقال كثير ببطلانه، منهم الشيخ الرئيس ابن سينا، أبطله بمقدمات في كتاب الشفا، والشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية، صنف رسالة في إنكاره، وصنف يعقوب الكندي أيضا رسالة في إبطاله، وكذلك غيرهم؛ لكنهم لم يوردوا شيئا يفيد الظن لامتناعه فضلا عن اليقين، وذهب آخرون إلى إمكانه منهم الإمام فخر الدين الرازي، فإنه في المباحث الشرقية عقد فصلا في إمكانه، والشيخ نجم الدين رد علي الشيخ ابن تيمية وزيف ما قاله في رسالته، ومؤيد الدين الطغرائي صنف فيه كتبا منها «حدائق الإشهادات»، وبين إثباته والرد على ابن سينا.
ولا يقصد هنا بالإثبات والإنكار إلا مسألة تحويل المعادن بعضها إلى بعض؛ لأن الظاهر أن هذه الفكرة هي التي دار حولها محور علم الكيمياء في كل عصور المدنية العربية.
قال الرئيس ابن سينا في إنكار تحول المعادن:
نسلم بإمكان صبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب، إلا أن هذه الأمور المحسوسة يشبه ألا تكون هي الفصول - أي الخواص - التي تصير بها هذه الأجساد أنواعا، بل هي أعراض ولوازم، والفصول مجهولة، وإذا كان الشيء مجهولا فكيف يمكن أن يقصد قصد إيجاد أو إفناء؟
وقال الإمام الرازي مثبتا:
الإمكان العقلي ثابت؛ لأن الأجسام مشتركة في الجسمية، فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الكل، أما الوقوع فلأن انفصال الذهب عن غيره هو بالرزانة، وكل واحد منهما يمكن التشابه فيه ولا منافاة بينهما.
ونقل الفارابي تعليل أرسطو في إثبات التحول:
إن الفلزات واحدة بالنوع، والاختلاف الذي بينها ليس في ماهيتها، وإنما هو في أعراضها ، فبعضه في أعراضها الذاتية، وبعضه في أعراضها العرضية، وكل شيئين من نوع واحد اختلفا بعرض، فإنه يمكن انتقال كل واحد منهما إلى الآخر، فإن كان العرض ذاتيا عسر الانتقال، وإن كان مفارقا سهل الانتقال، والعسر في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية، ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسيرا جدا.
وقال الإمام شمس الدين محمد بن إبراهيم الأنصاري:
إذا أراد المدبر أن يصنع ذهبا نظير ما صنعته الطبيعة من الزئبق والكبريت الطاهرين، فيحتاج إلى أربعة أشياء؛ كمية كل واحد من ذينك الجزأين، وكيفية ومقدار الحرارة الفاعلة للطبخ، وزمانه، وكل واحد منها عسر التحصيل، وأما إن أراد ذلك بأن يدبر دواء وهو المعبر عنه بالإكسير مثلا، ويلقيه على الفضة ليمتزج بها ويستقر خالدا فيها ويكسوها لون الذهب ورزانته - المقصود بها الثقل النوعي في الاستعمال الحديث - فاستخراج ذلك بالتجربة يحتاج إلى استقراء حال جميع المعدنيات وخواصها، وإن استخرج بالقياس فمقدماته مجهولة، ولا خفاء في عسر ذلك ومشقته.
ومما يلاحظ هنا أن أقوال المثبتين والمنكرين كلها نظرية مبنية على الأقيسة المنطقية، ولا شأن لها بالعمليات.
ومما لا شك فيه أن العرب أخذوا مبادئ الكيمياء عن اليونان، فإن منهم فلاسفة بحثوا في الأصول العنصرية منهم هيرقليطس الإفسوسي، الذي قال بأن النار أصل العناصر، وإمبيذقليس الذي قضى بأن العناصر أربعة: الماء والهواء والنار والتراب، وقد تدعى بالاستقصات الأربعة، وديموقريطس الذي قال بتكون العالم من حركات الجواهر الفردة المكونة للهيولى، وإنا كساغوراس الذي اتبع طريقة قياس التمثيل في حل معضلات الطبيعة الكونية، وأرسطوطاليس الذي قضى بأن الأثير يجب أن يضاف إلى العناصر الأربعة، وأنه عنصر العناصر.
ولما انتقلت علوم اليونان إلى مصر من طريق مدرسة الإسكندرية توسع الكهنة الذين كانوا يدرسون العلوم في الاشتغال بعلم الكيمياء، وزعموا أنهم حولوا المعادن إلى ذهب في أول عصور المسيحية فاضلوا كثيرا من محبي الاستطلاع والطامعين في الغنى العاجل، حتى اضطر الإمبراطوران ساويرس وديوقلتيانوس أن يأمرا بإعدام كل كتب الكيمياء، ولكن نجت منها طائفة وصلت إلى أيدي العرب فكانت عمدتهم في هذا الموضوع، ومنها اقتبسوا الألفاظ اليونانية المستعملة عندهم في الكيمياء. •••
في خلال القرون الوسطى ترجمت عدة مقالات عن «جابر بن حيان» إلى اللاتينية، ويدعونه «جيبر»
Geber ، وكان له أثر كبير في تكوين مدرسة كيماوية ذات أثر في بلاد الغرب، وبعد قليل كثر العارفون بتلك الصناعة فكتبوا مقالات كثيرة في اللاتينية نسب أغلبها إلى جابر، غير أنها ظاهرة الانتحال.
على أن الروايات عن جابر كثيرة، والقصص من حوله عديدة وجوهه، غير أن مسيو برتيلو يعتقد بأن كل الظواهر التاريخية تدل على أن جابرا كان ذا آصرة قريبة، ونسب أدنى إلى حران في أوائل القرن الثاني من التاريخ الهجري.
برقين 1924
جابر بن حيان
(1) ماهيته التاريخية
لعل أبا عبد الله أو أبا موسى
1
جابر بن حيان بن عبد الله أشهر من يذكره تاريخ العلم في العصر العربي من العلماء، فإن اسمه يقترن من حيث الشهرة، ومن حيث الأثر النافع بأسماء العظماء من رواد الحضارة والعمران، ولقد قال فيه الأستاذ «برتيلو» المؤلف الفرنسوي وصاحب كتاب «تاريخ الكيمياء في القرون الوسطى»: إن اسمه ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة اسم أرسطوطاليس في تاريخ المنطق، فكأن جابرا عند «برتيلو» أول من وضع لعلم الكيمياء قواعد علمية تقترن باسمه في تاريخ الدنيا.
ولقد عرف جابر بن حيان في العالم اللاتيني باسم «جيبر»
Geber
واشتهر بكتاب عرف في اللاتينية باسم
Summa perfectionis ، ويقول البحاثة «هولميارد» بأن هذا الكتاب مأخوذ عن كتاب جابر المسمى «الخالص»، على أن لجابر في العالم اللاتيني كثيرا من المؤلفات المنسوبة إلى من يعرفونه «جيبر»، غير أن هذا الكتاب أشهرها وأعمها بين الناس انتشارا، على أن الفرق بين جابر وبين من يعرف في العالم اللاتيني باسم «جيبر» قد ذهب ببعض المؤلفين في العصور الأخيرة إلى القول بأنهما شخصان مختلفان، ولكن الأستاذ «هولميارد» قد أثبت أن جابر بن حيان هو بعينه المعروف في العالم اللاتيني باسم «جيبر» وأن كل الكتب المنسوبة في اللاتينية إلى الاسم الأخير هي تراجم أو اقتباسات عن مؤلفات العالم الفارسي أصلا، العربي نسبة.
في القرن الثامن الميلادي «الثاني من الهجرة» عاش جابر بن حيان في بلاط الخليفة هارون الرشيد في بغداد، وكان على صلة حسنة بالبرامكة، والظاهر من سيرته أنه كان أشد تعلقا بهم منه بخليفة المسلمين؛
2
لأن البرامكة كانوا يعلقون على علم الكيمياء شأنا كبيرا، وكانوا يشتغلون بذلك العلم ويدرسونه درسا عميقا، ولقد ذكر جابر في كتابه «الخواص» كثيرا من المحاورات التي وقعت بينه وبينهم في معضلات هذا العلم. ويقول القفطي في ترجمة جابر في كتابه «تاريخ الحكماء»:
3
إنه برز في فروع العلوم الذائعة في عهده ولاسيما علم الكيمياء، والظاهر أنه كان له نصيب من الاشتغال بعلم الطب وطرق العلاج؛ لأنه كان من الشائع في ذلك العهد أن يقترن العلم بالكيمياء بالعمل في صناعة الطب.
كل هذه الأشياء تحوط اسم جابر بن حيان بكثير من الأسباب التي تدعو إلى التأمل والنظر، أما ماهيته التاريخية فالمحقق منها أشياء خمسة:
أولا:
أن اسمه جابر بن حيان «بن عبد الله».
4
ثانيا:
أنه كان فارسيا أصلا، عربيا نسبة ومنشأ.
ثالثا:
أنه عاصر الرشيد والبرامكة.
رابعا:
أنه كان على صلة ما بجعفر الصادق.
خامسا:
أنه أشهر من ألف في العربية في علم الكيمياء. (2) حياته ومولده
هو أبو عبد الله جابر بن حيان الكوفي،
5
وقد يذكر بكنية أبي موسى، ولا يعرف بالضبط مكان ميلاده، ولكن كل الثقات من المؤرخين يكادون يجمعون على أنه ولد إما بطوس في خراسان في الشمال الشرقي من بلاد فارس، وإما في حران بالعراق، على أن الذين ترجموا عن حياته من المشتغلين بعلوم المشرق وتاريخه يرجحون أن طوس مسقط رأسه،
6
وكذلك يجمع كل الثقات على أنه قضى شطرا من حياته في مدينة الكوفة،
7
وكان صديقا للبرامكة وزراء هارون الرشيد،
8
وأنه عاش ردحا من الزمان في بلاط بغداد، وقد ينسبه بعض الباحثين إلى طرطوس؛ كما فعل المستشرق واستنفلد
Wastenfeld
أو يذهب غيره إلى أنه صابئ من حران، كما فعل المستشرق «دريبلو»
d’Herbelot
في المؤلف المسمى «المكتبة الشرقية»
Bibliotheque orienatale
ص360.
ومن أغرب ما عثرت عليه من أقوال بعض الذين ترجموا عن حياة جابر من الإفرنج أن بعضهم نسبه إلى إشبيلية من بلاد الأندلس،
9
وليس هذا هو الخطأ الوحيد الذي وقع فيه الأوروبيون في ترجمة جابر، فقد ذكر في بعض التراجم أن جابرا «أشهر علماء العرب وفلاسفتهم»،
10
وفي موضع آخر أنه «عربي» مجرد عن كل نعت،
11
ثم تجد أنه ملك العرب،
12
وفي مخطوطة
13
من المخطوطات نعت بأنه ملك العجم، وفي مخطوطة نادرة كتبت قبل سنة 1500م يدعى بملك الهند،
14
وهذا يدل على أن الأوروبيين حتى عهد قريب لم يحققوا شخصية جابر بن حيان، وأن كل علمهم بشخصه كان قاصرا على أنه «شرقي»، وأن غالبهم كان يعتقد أنه «عربي» في حين أنه فارسي، انتسب إلى المدرسة الكيماوية العربية. •••
يستدل من التواريخ المحققة أن البرامكة ظلوا ممتعين بثقة هارون الرشيد سبعة عشر عاما من سنة 786 إلى 803 ميلادية 170-188ه، فعلى هذا نستطيع أن نرجع بحياة جابر في عهد فتوته وشبابه إلى تاريخ سابق على سنة 765م/148ه، وهي السنة التي توفي فيها جعفر الصادق، وأن عهد رجولته يقع في الربع الأخير من القرن الثامن الميلادي إلى ما بين 775-800م/159-184ه، أما حجي خليفة في كتاب «كشف الظنون» فيقول بأنه توفي سنة 160ه؛ أي ما بين سنتي 776 و777م ، غير أن هذا القول ظاهر الخطأ إذا راعينا الاعتبارات السابقة وذكرنا علاقة جابر بالبرامكة، تلك العلاقة المحققة الوجود بكثير من المراجع التاريخية.
أما الجلدقي
15
فقد روى في كتابه «نهاية الطلب» كثيرا مما عانى كيماويو العرب لدى أول اشتغالهم بهذا العلم من الاضطهاد والمصاعب، وذكر عن جابر بن حيان أنه خلص من الموت مرارا عديدة، كما أنه قاسى كثيرا من انتهاك الجهلاء لحرمته ومكانته، وأنهم كانوا يحسدونه على علمه وفضله، وأنه اضطر إلى الإفضاء ببعض أسرار الصناعة - أي الكيمياء - إلى هارون الرشيد وإلى يحيى البرمكي وابنيه الفضل وجعفر، وأن ذلك هو السبب في غناهم وثروتهم، ولما ساورت الرشيد الشكوك في البرامكة وعرف أن غرضهم نقل الخلافة إلى العلويين مستعينين بذلك بمالهم وجاههم، وقتلهم عن آخرهم، اضطر جابر بن حيان أن يهرب إلى الكوفة خوفا على حياته
16
حيث ظل مختبئا حتى أيام المأمون فظهر بعد احتجابه. وكل ما يهمنا في هذه الرواية أن المعروف على رواية ابن النديم وحجي خليفة أنه توفي سنة 160ه/776-777م، ولكن إذا صحت رواية الجلدقي فلا بد من أن يكون جابر قد عاش بعد هذا العهد بزمان طويل؛ لأن المأمون لم يرتق عرش الخلافة إلا سنة 198ه/713م، وهذه الروايات المتناقضة توسع مجالا كبيرا للبحث والتأمل. (3) مؤلفاته
كان جابر بن حيان أكثر العلماء كتابة وتأليفا، أما قائمة كتبه الأصلية التي كانت بين يدي ابن النديم صاحب الفهرست فقد فقدت، ولذلك تجد أن القائمة التي ذكرها في الفهرست ناقصة لا يعتمد عليها كمرجع يصح أن يعتبر كاملا.
أما العلامة «فلوجل»
Flugel
الألماني فاعتمد عليها واتخذها مرجعا تاما، وكان ذلك من أكبر الأخطاء التي اعتورت بحثه في حياة جابر هو وتلاميذه الملتفون من حوله، الناحون في البحث نحوه،
17
أما ترجمة «برتيلو»
18
لأسماء الكتب التي أخذها عن الفهرست لابن النديم فأكثرها غير صحيح، وفي ذلك دلالة على أنه لم يستطع أن يدرك معنى الأسماء إدراكا تاما، وأنه لم يحقق ما وقع فيها من التصحيف والخطأ النقلي.
أما إذا أردنا أن نذكر كل مؤلفات جابر التي تناقلت الألسن أسماءها منسوبة إليه، فإن ذلك يشغل فراغا كبيرا ولكنا نذكر هنا أشهر كتبه المعروفة مقسمة إلى أربعة أقسام:
الأول:
الكتب التي ذكرها صاحب الفهرست والكتب التي يوجد منها طبعات معروفة أو مخطوطات محفوظة.
الثاني:
كتبه المشهورة التي لم تعرف في العالم العربي الحديث وعرفت في أوروبا.
الثالث:
الكتب المذكورة في الفهرست، وهي إما معروفة بالاسم فقط، وإما موجودة بالفعل.
الرابع:
الكتب التي لم تعرف إلا عناوينها.
ولقد أجمع أكثر من وقفت على كتاباتهم في جابر على أن كتاب «السموم» من الكتب التي فقدت ولم يعرف منها إلا اسمها، ولكن الحقيقة على الضد من ذلك كما سنرى بعد.
الكتب التي ذكرها صاحب الفهرست والكتب التي يوجد منها طبعات معروفة أو مخطوطات محفوظة (2)
كتاب إسطقس الأس الأول، نقل بالزنكوغراف في الهند سنة 1891. (3)
كتاب إسطقس الأس الثاني، نقل بالزنكوغراف في الهند سنة1891. (4)
كتاب إسطقس الأس الثالث، نقل بالزنكوغراف في الهند سنة 1891، ويظهر أن الجزء الثالث من هذا الكتاب هو المعروف عند صاحب الفهرست بكتاب الإسطقس. (5)
كتاب تفسير الإسطقس، وهذا يضاف إلى الكتب الثلاثة المتقدمة، ولم يذكره صاحب الفهرست. (6)
كتاب الواحد الأول، منه نسخة بالقسم العربي من المكتبة الأهلية
Bibliotheque Nationale
بباريس في المجموعة رقم 2606 وأرجح أنه هو بعينه الكتاب الذي ذكره صاحب الفهرست باسم كتاب الواحد الكبير. (7)
كتاب الواحد الثاني، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة رقم 2606 ويرجح أنه المعروف عند ابن النديم باسم كتاب الواحد الصغير. (8)
كتاب الركن، يرجح أنه هو بعينه كتاب الأركان، وقد أخذت مقطوعات منه في القسم السابع من كتاب «رتبة الحاكم» للمجريطي، ويقول هوليمارد بأن كتاب رتبة الحاكم نسب خطأ إلى المجريطي، وقد ذكر جابر نفسه كتابا له باسم كتاب الأركان الأربعة في كتابه «نار الحجر» - أما المجريطي فهو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي الذي عاش في مدينة مدريد في حكم الحكم الثاني 961-976م درس الفلسفة والرياضيات والفلك والكيمياء في الشرق، وكان على صلة بإخوان الصفا، ويظن أنه كتب بعض فصول من رسائلهم المعروفة، بما في ذلك الفصل المكتوب في الكيمياء، وقد أكثر من ذكرهم في كتاب رتبة الحاكم. (9)
كتاب البيان، نقل الزنكوغراف في الهند سنة 1891. (10)
كتاب النور، نقل الزنكوغراف في الهند سنة 1891. (11)
كتاب الزئبق، طبع برتيلو المؤلف الفرنسوي كتابين أحدهما باسم كتاب الزئبق الشرقي، والآخر باسم الزئبق الغربي، ونقلهما من مكتبة ليون في القسم العربي مجموعة رقم 440، ومنهما نسختان بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة رقم 2606. (12)
كتاب الشعر، منه نسخة بالمتحف البريطاني بالمجموعة رقم 7722 نمرة 5. (13)
كتاب التبويب، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة رقم 2606 وذكره الطغرائي، (راجع المجموعة رقم 8229 بالمتحف البريطاني). (14)
كتاب الدرة المكنونة، في المتحف البريطاني محفوظة بهذا العنوان ضمن مؤلفات جابر بن حيان بالمجموعة رقم 7722. (15)
كتاب الشمس وكتاب القمر؛ أي كتاب الذهب وكتاب الفضة، يرجح أنه مختصر عن كتاب الأحجار السبعة، وقد ذكره الجلدقي في نهاية الطلب، ومنه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة رقم 2606. (16)
كتاب التراكيب، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة رقم 2606 ويرجح أنه الذي ذكر في الفهرست باسم كتاب التراكيب. (17)
كتاب الحيوان، يذكر الجلدقي كتابا نسبه إلى جابر بعنوان كتاب حياة الحيوان. (18)
كتاب الأسرار، يرجح أنه كتاب «سر الأسرار» المحفوظة منه نسخة بالمتحف البريطاني «بالمجموعة رقم 23418 نمرة 14»، وأنه هو الذي ذكر منه الطغرائي عدة مقطوعات في عدة مواضع (راجع مجموعة المتحف البريطاني رقم 8229)، وفي اللاتينية مخطوطة تنسب إلى جابر عنوانها
Secreta secretorim
في كلية جوفنيل وكايوس
Govnille & Caius college
رقم 181 وفي كلية كوربس كرستي
Corpus Christi
كمبردج رقم 99. (19)
كتاب الأرض، لجابر كتاب «أرض الأحجار» طبعة برتيللو مأخوذا عن مجموعة ليدن رقم 440، ومنه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة رقم 2606. (20)
كتاب التركيب الثاني، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة رقم 2606. (21)
كتاب الخواص، منه نسخة بالمتحف البريطاني رقم 4041 وبالمجموعة رقم 23419. (22)
كتاب التذكير، ترجم العلامة هولميارد اسم هذا الكتاب من الإنجليزية
The book of rendering masculin
فهو إذن خاص بالبحث في عنصر الإنتاج المعروف، وليس بمأخوذ عن مجرد التذكير الذهني، وفي المتحف البريطاني مخطوطة بهذا العنوان مذكورة ضمن مؤلفات جابر بالمجموعة 7722 رقم 12. (23)
كتاب الاستتمام، ذكر الطغرائي بعض مقطوعات صغيرة من هذا الكتاب (راجع محفوظات المتحف البريطاني رقم 8229)، وكذلك ذكره الجلدقي في كتابه نهاية الطلب، وهذا الكتاب يقابل اسم الكتاب المعروف في اللاتينية ومنسوب إلى جابر بعنوان:
Liber da investigatione perfectioni . (24)
كتاب الأحجار، نقل بالزنكوغراف في الهند سنة1891. (25)
كتاب الروضة، ذكره الجلدقي في الجزء الثامن من كتابه نهاية الطلب. (26)
كتاب المنافع، في مكتبة برلين مخطوطة رقم 4199 بعنوان كتاب منافع الأحجار. (27)
كتاب الإيضاح، نقل بالزنكوغراف في الهند سنة1891. (28)
كتاب مصححات أفلاطون، منه نسخة بالقسطنطينية بمكتبة راغب باشا مجموعة 96 رقم 4. (29)
كتاب الضمير، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة 2606، وذكره الجلدقي في الجزء الثاني من نهاية الطلب باسم كتاب الضمير في خواص الإكسير. (30)
كتاب الموازين، طبعة برتيلو مأخوذا عن نسخة بليدن محفوظة بالمجموعة 440، ويظن مستر هولميارد أن هذا الكتاب هو المعروف بعنوان:
Liber de ponderibis artis
المحفوظة منه نسخة في مكتبة الجمعية الكيماوية بباريس رقم 1654 ص103 في فهرست المكتبة. (31)
كتاب الملك، ذكر صاحب الفهرست أن جابرا قد ذكر أنه ألف كتابا باسم «كتب الملك»، وهذا يدل إن صح، على أن الكتاب المذكور كان يتكون من عدة كتب جمعت تحت عنوان واحد، ومما يؤيد هذا الزعم أن برتيلو طبع كتاب الملك عن نسخة بليدن رقم 440 من المجموعة العربية، في حين توجد نسخة أخرى مختلفة عما طبع برتيلو في المكتبة الأهلية بباريس رقم 2605، وهاتان النسختان مختلفتان عن نسخة من كتاب الملك نقلت بالزنكوغراف في الهند سنة 1891، ويرجح هولميارد أن هذا الكتاب نقل إلى اللاتينية وذكره بوريليوس
Borellius (راجع محفوظات الجمعية الكيماوية بباريس رقم 1654 ص103) وذكره كاريني
Carini
أيضا بعنوان
Rivista sicula . (32)
كتاب الرياض، منه نسخة بمكتبة بودلي رقم 70 وأخرى بالمتحف البريطاني المجموعة 7722 رقم 5.
كتب ذات خطر لم تعرف في العالم العربي الحديث (33)
كتاب أبي قلمون، في الجدول الذي ذكر فيه صاحب الفهرست مؤلفات جابر يذكر كتابا بعنوان «كتاب إلى قلمون»، وقد ترجم برتيلو اسم هذا الكتاب إلى الفرنسوية فكان عنده
Livre a Qalamoc (Plus-etre fait-il) lire le livre du Cameleon .
وكلمة
Caméleon
معناها الحرباء وبالإنجليزية
Chameleon
أما البحاثة «فلوجل» فيقرر أن قراءة «إلى قلمون» في الفهرست تصحيف أو خطأ في النقل، وأنها تقرأ «أبي قلمون» ويقول «هولميارد»: إن ما قرره «فلوجل» لا يحتمل شكا؛ لأن كلمة «أبي قلمون» في العربية اسم للحشرة المعروفة في الإنجليزية باسم
Jasper
وهي حشرة تأكل الذباب، وقد ضرب المثل في العداء بالضب والنون والذباب وأبي قلمون. (34)
كتاب ال «ب د و ح» ذكر في الفهرست، ويقول هولميارد: إن برتيلو قد أخطأ في قراءة الاسم إذ قرأه كتاب البدوح
al-Badouh
من غير أن يفسر ما البدوح هذا، ويقول بأن القراءة الصحيحة هي كتاب ال «ب د و ح»؛ لأن مجموع هذه الأحرف يمثل القيمة العددية 2468، غير أني أرجح صحة قراءة برتيلو، فإنا لا نزال نرى على بعض الخطابات كلمة «بدوح» وتحتها الرقم 8642، وهو الأصح لا الرقم 2468 كما ذكر هولميارد، وهو طلسم يفيد السرعة والإنجاز، ولعله كان يستعمل كما قال هولميارد كتعويذة طلسمية تسهل على الوالدات إذا تعسرن في الوضع، والعلامة دي ساسي من هذا الرأي. (35)
كتاب المجردات، ذكر في الفهرست، وهو بعينه المعروف في اللاتينية باسم
Liber denudatorum
ونسب إلى الرازي خطأ (راجع دوزي)، وذكره أيضا بوريليوس. (36)
كتاب التصريف، وهو المعروف في اللاتينية باسم
Liber mutatorium . (37)
كتاب الثلاثين كلمة، معروف في اللاتينية باسم
Liber de xxx verbis . (38)
كتاب الخمسة عشر، معروف في اللاتينية باسم
Liber xv
منه نسخة عربية في مكتبة جامعة ترينتي بإكسفورد رقم 363. (39)
كتاب مصححات سقراط، يظن هولميارد أنه نفس الكتاب المعروف في العالم اللاتيني باسم:
Ad landem Socratis dixit Geberis
منه نسخة في مكتبة بودلي رقم 1416. (40)
كتاب السبعين، ذكره برتيلو ووصفه أتم وصف، وهو معروف في العالم اللاتيني باسم
Liber Lxx
في المتحف البريطاني بالمجموعة 10764. (41)
كتاب شرح المجسطي، ذكر في الفهرست وترجمه «جيرار الكريموني»
Gerard of Cermona
منه مخطوطة بجامعة كوربس كرستي بإكسفورد بالمجموعة 233، وأخرى بمكتبة بودلي، وثالثة بمكتبة جامعة كمبردج. (42)
كتاب الوصية، منه نسخة بالمتحف البريطاني بالمجموعة 7722، ومنه ترجمة لاتينية
Geberi testamentum
في جامعة ترينتي بكمبردج «مجموعة 925 و138»، وقد طبعت هذه الترجمة عدة طبعات. (43)
كتاب الملاغم، ذكر في رتبة الحاكم، أما الملاغم في الكيمياء فيراد بها خليط من معدن وزئبق، وفي المعادن الملغمى معدن يكون على هيئة بلورات أو كتل كبيرة أو نصف سائل أبيض اللون فضيه، إذا قصم أو قطع أحدث صريرا، وهو مؤلف من فضة وزئبق، أما ملغم الذهب فهو حصى معدنية صغيرة الحجم كالحمص بيضاء اللون حبيبية القوام سهلة التفتت، وقد تكون على هيئة موشورات بيضاء ضاربة إلى الاصفرار ثلثها ذهب وثلثاها زئبق. (44)
كتاب الخالص، يقول «هوفر»
Hoefer
في كتابه «تاريخ الكيمياء» إن كتاب الخالص هو الأصل الذي أخذ عنه الكتاب المعروف في العالم اللاتيني باسم
Summa perfectionis ، غير أنه لم يؤيد قوله هذا ببرهان.
الكتب المذكورة في الفهرست، وهي إما موجودة أو معروفة بالاسم فقط (45)
كتاب صندوق الحكمة. (46)
كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل. (47)
كتاب الحدود، منه نسخة بمكتبة القاهرة. (48)
كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار، منه نسخة بالمتحف البريطاني في المجموعة 7722 رقم 54 وأخرى بمكتبة القاهرة، وطبعه في لوندرا مصحوبا بترجمة إنجليزية للأستاذ «ستيل»
R. Stule
سنة 1892، ونشره «لوزاك»
Luzae & Co . (49)
رسالة في الكيمياء، منها نسخة بمكتبة القاهرة. (50)
كتاب في علم الصنعة الإلهية والحكمة الفلسفية، من نسخة بمكتبة القاهرة. (51)
كتاب خواص إكسير الذهب، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموع 2625 رقم 6، وترجمه إلى الإنجليزية العلامة هولميارد ونشر بمجلة
Science progress
سنة 1922 ص258، حيث ذكر خطأ أنه رسالة من كتاب الخواص المار ذكره. (52)
كتاب المقابلة والمماثلة، بمكتبة برلين رقم 4177 قسم عربي. (53)
كتاب الرحمة، طبعه برتيلو عن نسخة مخطوطة بمكتبة ليدن رقم 440 قسم عربي، أما الأستاذ هولميارد فيقول: إن هذا الكتاب من تأليف أبي عبد الله محمد بن يحيى ذكر فيه كثيرا من المقطوعات عن جابر، ودليله على هذا أن مؤلفه ذكر اسم نفسه في أكثر من موضع من الكتاب. (54)
كتاب الرحمة الصغير، طبعه برتيلو ومنه نسخة في المكتبة الأهلية بباريس رقم 2605، ونقل بالزنكوغراف في الهند سنة 1891. (55)
كتاب التجميع، طبعة برتيلو عن نسخة في مكتبة ليون رقم 440 قسم عربي. (56)
كتاب التجريد، نقل بالزنكوغراف في الهند سنة 1891، وذكر جابر أنه ألف هذا الكتاب بعد 112 مؤلف له، وأنه يؤلف حلقة من سلسلة كتبه في الميزان. (57)
كتاب السهل، منه نسخة بالمتحف البريطاني رقم 7722. (58)
كتاب الصافي، منه نسخة بالمتحف البريطاني رقم 7722. (59)
كتاب الإحراق. (60)
كتاب التخليص. (61)
كتاب الإبدال. (62)
كتاب زهر الرياض.
هذه الكتب الأربعة الأخيرة ذكرها الجلدقي. (63)
كتاب الأصول، في المتحف البريطاني بالمجموعة 23418 رقم 13، وذكر بوريلوس أنه ترجم إلى اللاتينية تحت عنوان
Liber Radicum . (64)
كتاب مهج النفوس، ذكره الجلدقي في الجزء الثاني من نهاية الطلب. (65)
كتاب شرح كتاب الرحمة، ذكره الجلدقي في الجزء الثاني من نهاية الطلب. (66)
كتاب العفو، ذكره الطغرائي، وبالمتحف البريطاني نسخة رقم 8229. (67)
كتاب الراحة، ذكره الطغرائي. (68)
كتاب السر المكتوم، ذكره الطغرائي. (69)
كتاب العوالم، ذكره الطغرائي، وكذلك ذكر برتيلو مؤلفا بهذا العنوان في الطبعة التي أخرجها لكتاب الموازين، ومن هذا الكتاب نسخة في المكتبة الأهلية بباريس رقم 2606. (70)
كتاب الذهب. (71)
كتاب الفضة. (72)
كتاب النحاس. (73)
كتاب الحديد. (74)
كتاب الأسرب. (75)
كتاب القصدير أو القالي.
ومن هذه الكتب الستة نسخ بالمكتبة الأهلية بباريس رقم 2606. (76)
كتاب الخارصيني أو الخار الصيني، والخار الصيني معدن سمي في اللاتينية
Katesim
ويرجح أنه تركيب من الزنك والحديد: ويقول دوزي: إنه اسم صرف على الزنك وحده، ومنه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس رقم 2606. (77)
كتاب الإيجاز. (78)
كتاب الحروف. (79)
كتاب الكبير.
ومن هذه الكتب الثلاثة نسخ بالمكتبة الأهلية بباريس رقم 2606. (80)
كتاب نار الحجر، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس رقم 2606، وطبعه برتيلو عن نسخة بمكتبة ليون رقم 440.
كتب لم تعرف إلا عناوينها (81)
كتاب الأربعة. (82)
كتاب التصعيد. (83)
كتاب الأطيان. (84)
كتاب التنقية.
وهذه الكتب الأربعة ذكرها الجلدقي بلا تعليق في نهاية الطلب. (85)
كتاب التنزيل. (86)
كتاب المنتهى.
ذكرهما جابر نفسه في كتاب الخواص. (87)
كتاب الخمسين، ذكره جابر في كتاب الزئبق الغربي. (88)
كتاب الأدلة، ذكره جابر في كتاب الموازين. (89)
كتاب صفة الكون، ذكره جابر في كتاب الرحمة الصغير. (90)
كتاب تدبير الحكماء، ذكره جابر في كتاب الموازين. (91)
كتاب السموم.
ولقد اضطررت هنا إلى ذكر كتاب السموم بين كتب جابر التي لم تعرف إلا عناوينها مجاراة للرأي الشائع في أوروبا في حين أن هذا غير صحيح كما سيبين بعد. (4) كتاب السموم
من أشهر مؤلفات جابر بن حيان كتاب السموم؛ لأن السموم في الكيمياء وفي المادة الطبية
Materia Medica
من أشد الأشياء علاقة بعلم الطب، غير أن الظاهر أن أكثر الباحثين من المستشرقين، ومن بينهم فئة من مثل الأستاذ روسكا وهولميارد وده ساسي لم يعثروا على نسخة من كتاب السموم، غير أني عثرت في المقتطف على مقالة نشرت بالمجلد 58 ص40 و41 على شيء عن كتاب السموم نجتزئ منه مما يأتي إتماما لفائدة البحث:
ولجابر بن حيان كتاب اسمه السموم، منه نسخة بالمكتبة التيمورية بمصر يقال فيها: إن مؤلف الكتاب هو أبو موسى جابر بن حيان الصوفي تلميذ جعفر الصادق، وأن هذه النسخة نسخت بشيراز سنة ثلاث وخمسمائة خراجية، وإذا ثبتت نسبة هذا الكتاب إلى جابر بن حيان فهو إذا أقدم الكتب العربية التي وصلت إلينا؛ لأن جابرا توفي سنة 160 للهجرة على ما ذكره حجي خليفة في كشف الظنون، وذلك يطابق سنة 776 ميلادية، وفي رواية أخرى أن جابرا كان تمليذا لخالد بن يزيد وهذا توفي سنة 85 للهجرة، وقد تضاربت الأقوال في مسقط رأسه، فقيل في طوس، وقيل في الكوفة، وقيل بحران في القرن الثالث الهجري، وإنه كان صابئا.
وهذه النسخة مبدوءة بالبسملة ولكنها خلو من الحمدلة والصلاة والتسليم. وهذا يدل على أنه كان صابئيا، ولعل البسملة زيادة من النساخ.
والكتاب مقسوم إلى ستة فصول:
الأول:
في أوضاع القوى الأربع وحالها مع الأودية المسهلة والسموم القاتلة، وحال تغير الطبائع والكيموسات المركبة منها أبدان الحيوانات.
والثاني:
في أسماء السموم ومعرفة الجيد منها والرديء وكمية ما يسقى من كل واحد منها، وكيف يسقى، وأوجه إيصالها إلى الأبدان.
والثالث:
في ذكر السموم العامة الفعل في سائر الأبدان، والتي تخص بعض أبدان الحيوان دون بعض، والتي تخص بعض الأعضاء من أبدان الحيوانات دون بعض.
والرابع:
في علامات السموم المسقاة والحوادث العارضة عنها في الأبدان والإنذار فيها بالإخلاص والمبادرة إلى علاجه والحكم بالإياسي مما لا حيلة فيه.
والخامس:
السموم المركبة وذكر الحوادث الحادثة عنها.
والسادس:
في الاحتراس من أخذ السموم قبل أخذها، فإذا أخذت لم تكد تضر، وذكر الأدوية النافعة في السموم إذا شربت من بعد الاحتراس منها.
وقد قسم السموم إلى ثلاثة أنواع: حيوانية ونباتية وحجرية، فمثال الأولى مرارة الأفاعي، ومرارة النمر، ولسان السلحفاة، وذنب الإيل، والأرنب البحري، والضفدع والذراريح والعقارب والكلب الكلب، ومثال الثانية البيش، وقرون السنبل والأفيون، والبنج الأسود والشوكران، والشيلم والجوز ماثل، والكسيرة، وبزر قطونا، والقطر، والكمأة، وصمغ الشذاب والبلاذر والدفلى والخربق واللفاح واليبروج وعنب الثعلب والحلتيت، ومثال الثالثة الزنجار والزئبق والزرنيخ والنورة والزاج والشب والطلق وبرادة الحديد وبرادة الذهب.
وقد أكثر المؤلف من ذكر فلاسفة اليونان وأطبائهم كأنه اعتمد عليهم، ولا سيما في الكلام العلمي عن فعل السموم كقوله قد أطلق بقراط وجالينوس وأندروماخس، وسائر أصحاب المهنة الطبية أنه لا شيء في أجسام الحيوان من الأخلاط أكرم من الدم، وأنه قاعدة البدن. (5) تلمذته على جعفر الصادق
يقع في أكثر التراجم التي كتبت عن حياة جابر بن حيان أنه تلميذ للإمام السادس جعفر الصادق
19
80 أو 81 إلى 147ه، 699 أو 700 إلى 765م، وليس في التاريخ الزماني ما يناقض ذلك، فإن المرجح أن جابرا قد عاش ما بين سنتي 112 أو 123 إلى 195ه، 730 أو 740 إلى 810م،
20
ولكن الشك الكبير يقع في أن جعفرا قد اشتغل بالكيمياء.
نترك هذا البحث إلماما لنحقق النظر في مسألة أثار غبارها الأستاذ روسكا
Ruska
21
فإنه يقول بأن المسلمين ينقسمون إلى قسمين عظيمين، الشيعيون والسنيون، وأن الشيعة غالبهم من الفرس، ويقدسون علي بن أبي طالب، ولهم فيه معتقدات شتى، وأنهم أكثر نزعة إلى الصوفية؛ أي الباطنية الإسلامية من نظرائهم الآخرين، وإذ كان جعفر الصادق سليل بيت علي بن أبي طالب، لذلك يحترمه الشيعيون احتراما كبيرا، ويحلونه مكانة عالية من نفوسهم، ولهذا فالأستاذ روسكا يرجح أن يكون جابر، وهو فارسي، ولا يبعد أنه كان ذا نزعة صوفية
22
قد احتك بجعفر الصادق، وأنه كانت بينهما صلة وصداقة، وهذا القول هو الذي يرجح به الأستاذ روسكا أن علاقة كانت بين جابر وبين جعفر الصادق.
غير أن الأستاذ روسكا لا يقف عند هذا الحد، بل يذهب بعد هذا إلى رأي آخر، حيث يحاول أن يثبت أن جعفرا لم يشتغل بعلم الكيمياء، ويريد من جهة أخرى أن يقول بأن كتب الكيمياء المنسوبة إلى جعفر منتحلة فعلا، وأنه لم يشتغل بذلك العلم، ولم يؤلف فيه. وهو يمضي في هذا الرأي موردا كثيرا من الأسباب التي تحمله على الاستمساك به، غير أننا نورد سببا واحدا من الأسباب التي ذكرها، فهو يقول بأنه مما يبعد تصوره أن الاشتغال بعلم الكيمياء، وإن كان قد انتشر وذاع في الإسكندرية وبغداد ودمشق، قد يحتمل أن يكون قد وصل إلى المدينة، حيث كان يعيش جعفر الصادق، أحد أركان الشيعة، وإمام من أئمتها العظام، وأن يكون قد اشتغل عن الدعوة الشيعية بالزئبق والفوسفور، أو بتعليم أمثال جابر بن حيان طريقة تحويل المعادن بعضها إلى بعض، واستنادا على هذا الرأي، لا يقف عند حد الاعتقاد بأن جعفرا لم يشتغل بالكيمياء لا غير، بل يمضي معتقدا بأن كل الكتب المنسوبة إلى جابر والتي ذكر فيها أن جابرا كان تلميذا لجعفر يجب أن تعتبر مدخولة على جابر، وأنها من مختلقات العصور التالية لعصرهما.
على أن في مذهب الأستاذ روسكا كثيرا من مواضع الشك وترجيحات لا مرجحات لها، وذلك للأسباب الآتية:
أولا:
لم يستدل في التواريخ الموثوق بها أن جعفرا الصادق أمضى كل حياته بالمدينة لم يبرحها.
ثانيا:
أن قول الأستاذ روسكا في أنه لم يعرف أن المدينة كانت مركزا لدراسة علم الكيمياء إن كان صحيحا، فإن صحته لا تنافي مطلقا أن يكون الإمام جعفر قد درس الكيمياء في مكان آخر.
ثالثا:
أن علم الكيمياء لم ينتعش ويثمر إلا بين أيدي الفارسيين أولا، وأنهم كانوا يعكفون على الاشتغال به.
رابعا:
أن الصوفيين غالبا ما كانوا يدخلون المصطلحات الكيماوية في أشعارهم الباطنية.
خامسا:
ولهذا نقول بأن جعفرا إذ كان من عمد الشيعة وأئمتها الكبار، وإذ كان على اتصال بشيعيي فارس، فلهذا لا يوجد من سبب ظاهر يحول دون الاعتقاد بأنه كان يشتغل بعلم الكيمياء من طريق نظري على الأقل، إن لم يكن من طريق عملي تجريبي.
سادسا:
أن جابرا كان صوفيا كما هو مرجح من مقدمة كتاب السموم الذي ذكر قبلا، ومن ترجمة القفطي له في تاريخ الحكماء.
سابعا:
أن العادة في الطريقة الصوفية أن يتبع كل صوفي منهم شيخا له ، ولا يبعد أن يكون جابر قد تلمذ بالفعل على جعفر في الصوفية، ولا يبعد أن يكون قد سمع منه شيئا في الكيمياء.
كل هذه الحقائق والاحتمالات لا تدل، حتى ولو لم يثبت أن جعفرا كان مشتغلا بالكيمياء، على انبتات حبل الصلة بين جعفر وجابر، كما أنه لم يثبت أن جعفرا لم يكن عارفا بمبادئ الكيمياء وأغراضها.
على أن القول في ذلك عديدة وجوهه مشعبة نواحيه، وقد يحتمل أن يكون رأي الأستاذ روسكا صحيحا، وقد يكون هو الواقع، غير أن البراهين تنقصه. (6) منزلته في التاريخ
ليس من شك في أن اسم جابر بن حيان من الأسماء الخالدة في التاريخ، وسواء أكان عربيا أم فارسيا، مسلما أم صابئا، خراسانيا أم كوفيا، فإنه من مفاخر الشرق برمته، بل من مفاخر الإنسانية كلها، لهذا نود في هذه الخاتمة أن ننبه بعض الذين ينحون علينا بقولهم إننا نريد أن ننتقص العرب في مدنيتهم وعلومهم ، على أن النصفة والإقساط في القول، لا سيما لدى النظر في مباحث التاريخ، لن تتوافر أسبابهما إلا بتوافر أسباب الاستقلال في الرأي، ولهذا نختتم هذا البحث متسائلين كما سأل أرسطوطاليس إخوانه في التلمذة: «إذا اختلف أفلاطون والحق، فأيهما أولى بالمحبة؟»
23
أسلوب الفكر العلمي
نشوؤه وتطوره في مصر خلال نصف قرن
نشوء أساليب الفكر، سواء أكانت علمية أم أدبية، وتغير نزعات الفن، واختلاف السبل التي تنتحيها الآمال أو تتمشى فيها العواطف أو تثور من أجلها الانفعالات، كلها منازع لا تدل على شيء دلالتها على أن للأمم حياة كامنة، تختفي وراء الظواهر الاجتماعية التي تقع آثارها تحت حسنا، على أننا إن مضينا في بحثنا هذا مؤمنين بأن لأساليب الفكر نشوءا، وأن لنزعات النفس مناهج تتغير وتتحول، وأن للآمال التي تجيش في الصدور والعواطف والانفعالات التي تمتلئ بها المشاعر مناح خاصة، ومنازع تتبدل ولا تثبت على حال، فإنما نمضي في ذلك مقتنعين كل الاقتناع بأن للأساليب الفكرية وما إليها من مظاهر الحياة الكامنة، أجل ينقضي كحياة الأفراد، وأن نشوءها وتطورها خاضع جهد الخضوع لسنن الحياة، وإن كان من الصعب أن نعرف من حقيقة تلك السنين شيئا، أو نستبين من خوافيها أمرا.
تتكون الحياة الكامنة في الأمم من مجموع تلك «الآمال الغامضة المبهمة التي تجيش في صدور الآلاف المؤلفة من أبناء آدم، وهم عاجزون عن إقناع شهوتنا أو التعبير عن حقيقتها، والسقطات والهزائم التي تمر في عالم الحياة من غير أن يعرفها أحد أو يهتم بها إنسان، والرغبات التي تعيش في صدور الناس ممتدة في سلسلة من التواصل والتتابع غير متناهية، أو تتشكل في صورة ما من صور حياتهم، والمحاولات التي يتشبث بها الناس ابتغاء الوصول إلى حل المشكلات العملية التي يمليها الطمع عليهم، أو تبعث بها الحاجة في النفوس، وتلك الساعات الطويلة التي ينفقها محبو العلم سدى، طمعا في الوقوف على أسرار الطبيعة، جماع هذه المجهودات المخبوءة وراء أستار الحياة هي التي تكون ذلك الهيكل الذي نسميه «فكر الأمة»، ولا يطفو منه ظاهرا على سطح الحياة إلا جزء ضئيل بارز في صورة من الأدب أو العلم أو الفن أو المنتجات المادية.»
1
وإذن ففي مشاعر الناس وآمالهم وانفعالاتهم وعواطفهم، وفي أعماق تصوراتهم يجب عليك أن تتغلغل مسترشدا بمصباح «ديوجنيس»؛
2
لتفتش في تلك الأغوار القصية عن ضالتك، إذا أردت أن تتكلم في أساليب الفكر أو تعبر عن شيء من أسرار الحياة الكامنة في تضاعيف الأمم، على أنك لا محالة عاجز عن أن تبلغ من التغلغل في صميم تلك الأغوار إلى نهاية تلمس فيها الحقيقة العلمية، أو تبلغ عندها إلى الأسباب التي تحرك الجماعات وتقسرها على أن تتبع في الحياة طريقا ما.
من هنا نعلم علما حقا أن الوقوع على نقطة ابتداء نبدأ منها سفرنا في تقصي الأسباب التي تغير من أساليب الفكر أمر بعيد مناله، إن نحن بحثنا وراءه في حياة الأمم الكامنة، لهذا يجب علينا أن نرجع إلى ظواهر الحياة الملموسة لنتخذ منها نقطة ابتداء نتقصى بها شيئا عن المتجه الذي يتمشى فيه الفكر، وأن ندرس الأسباب الظاهرة التي حدت بالجموع البشرية إلى اتباع سبيل دون غيرها، أو الاستنامة لفكرة أو مذهب أو مبدأ دون أن نتصور يوما أن في مستطاعنا معرفة الأسباب الحقيقية المستترة وراء تلك الظواهر.
خصت بعض عصور التاريخ بقيام حركات فاصلة، وحوادث عظيمة امتصت كل القوى العاملة النشيطة، واندمجت فيها كل العناصر العقلية والتخيلية، حتى إنك لتجد أن تلك الحركات قد مضت مستبدة بأمرها إما لتخضع كل القوى المنبعثة في عصر ما للعمل في سبيل إبراز غرض معين، أو تثبيت فكرة بذاتها، وإما أن تلفيها وقد جرفت أمامها كل شيء إلى جو من التنازع والجلاد، يوجه بكل ما فيه من مختلف الصور والقوى إلى تزكية الحادث الرئيسي الذي تلتف من حوله قوة الفكر والعناصر، والأمثال التي يرويها التاريخ كثيرة منها تلك القرون الطويلة التي يقص أخبارها تاريخ اليهودية، والعصور الأولى أينعت فيها الكنيسة النصرانية، والزمان الذي تقشعت فيه عن المدنية سلطة اللاهوت، وزمان الإصلاح البروتستانتي، وعهد الثورة الفرنسوية.
3
في مثل هذه العصور لا يعوزك البحث أن تعنت نفسك باحثا وراء نقطة ابتداء ترتكز عليها، وتتخذها لبحثك أساسا، في حين أنك تمر على قرون أخرى من الزمان مرا سراعا، فلا تجد فيها من حادث يلتئم من حوله الفكر أو أشخاص يجذبون بقوة عقولهم، أو ثورة مشاعرهم، أو قوة انفعالاتهم، أو تأجج عواطفهم، عقول الناس حول فكرة أو مذهب أو مبدأ تتخذ منه نقطة ارتكاز ترتكز عليها، قد تعجز عن أن تجد نقطة ارتكاز ترتكز عليها في عصر برمته من عصور التاريخ.
وقد تعجز عن أن تقع على ذلك في تاريخ أمة، وقد تفوز بأمنيتك في تاريخ أمة أخرى، فهل تقع في تاريخ مصر الحديث، لا في تاريخها القريب منذ نصف قرن، بل منذ قرن ونيف من الزمان، منذ أن غزا نابليون أرض مصر إلى اليوم، على حادث التأم من حوله الفكر التئاما يكفي لأن يغير من أساليب الفكرة العلمية أو الأدبية؟
لم يترك فتح نابليون من أثر بين في تغير أساليب الفكر، فقد وطئت أقدام الجيش الفرنسوي أرض مصر وتركتها، وأهل مصر في فجوة من كهف الزمان، بل في أعمق فجواته، ما تحركت فيهم شاعرية، ولا انفجر فيهم انفعال، ولا اهتزت لهم مشاعر.
لا يعوزنا لإثبات هذه النظرية من دليل، فإن أكبر علماء الأزهر، كانوا إذ ذاك أكبر عون لنابليون على تحقيق مطامعه، ولم يهتز فيهم عرق ولا نبض لهم قلب.
السبب في كل هذا أن الحياة الكامنة أو الفكر الكامن كان إذ ذاك مفكك الأوصال مشتت العناصر، ضعيف الأثر، فلم يلتئم حول فكرة معينة أو مبدأ بذاته فينوء بقوة التئامه على تلك العقبة التي تصده عن الانصراف في السبيل التي تخطها له الطبيعة.
كذلك لا نستطيع أن نتخذ من عصر محمد علي الكبير نقطة ارتكاز قد يقال فيها أنها السبب في تغير أسلوب الفكر في مصر، سيقت الجماعات المصرية سوقا نحو غايات لم تعرف يوما أنها مسوقة في سبيلها، ولم تشعر بما ينتظرها وراء تلك الغايات من المقاصد التي كانت تجول في رءوس زعمائها، تجد هذا جليا واضحا، لا في غزوات الجيش وحده، بل في ميدان العلم والمعرفة، فإن ذلك العهد على كثرة ما أخرج من نوابغ المتعلمين الذين أوفدهم المصلح الكبير إلى أوروبا، لم يخرج واحد استطاع أن يجمع شيئا مما بددته مظالم الحكومات السابقة من قوة الفكر الكامن في المجتمع المصري حول غاية ما.
فإذا تركنا الحوادث التي انتابت مصر في أواخر القرن التاسع عشر، ورجعنا إلى الأشخاص لم نقع في طول ذلك العهد على مصري واحد استطاع أن يحرك من كوامن الفكر، ويجمع شتاتها حول مذهب أو مبدأ ما، ولكنا نقع على رجل واحد خرج من جوف آسيا ليلعب على مسرح مصر دورا نستطيع إذا ما تبينا طبيعته أن نقع فيه على نقطة ارتكاز نرتكز عليها، على أننا لا نمضي في ذلك البحث قانعين بأن ما أحدث ذلك الزعيم من أثر هو نقطة ارتكازنا، بل طبيعة نزعته في تمثيل القديم، الذي لا يزال قائما بيننا بكل ما أوتي من قوة التقليد وحكم العادة، هي التي نستطيع أن نتخذ منها نقطة ابتداء ننظر من ناحيتها في تغير أساليب الفكر العلمي في مصر، إن جاز لنا أن نقول بأن في مصر فكرا علميا، وأن له أسلوبا تغير أو تبدل.
السيد جمال الدين الأفغاني هو ذلك الزعيم، وهو لا يمتاز على غيره من زعماء المتدينين بشيء إلا بأنه أراد أن يتخذ من قوة الدين سبيلا للتأثير السياسي، والدعوة السياسية القائمة حول فكرة استقلال الشعوب الإسلامية، وإعداد العدة لمقاومة النفوذ الأوروبي في الشرق الإسلامي.
تعلم السيد جمال الدين الأفغاني منتحيا الأساليب العلمية العتيقة التي عكف عليها العرب منذ القرون الوسطى، فهو بذلك صورة مصغرة أو مكبرة لعصر من العصور البائدة في تاريخ الفكر الإنساني، وهو بنزعته السياسية أشبه الأشياء في عصره بالهياكل الحفرية التي تعيش بيننا بجثمانها وإن رجعت بتاريخها إلى أبعد العصور إيغالا من أحشاء الزمان، لهذا نرجع بأنظارنا إلماما إلى نزعات العرب العلمية التي مثلها السيد الأفغاني في القرن التاسع عشر، لنتخذ من ذلك سبيلا إلى المقارنة والاستنتاج.
والسيد الأفغاني وريث العرب بحق في علومهم وفلسفتهم، وقف من الرقي الفكري حيث وقفوا، ووقف عند النظر الغيبي، فكان في كل ما دبجت يراعته أو تحرك به لسانه مثالا حيا لما اختلط من مباحث آبائه، ولما تناثر خلال كتبهم من مختلف الأبحاث، وما تضمنت مجلداتهم من متنافر الوضع الذي اتصفت به تآليفهم، وحد النظر الغيبي الذي انتهى عنده العرب جدير بإبراز أمثال ما أبرزوا من كتب اختلط فيها العلم بالفن ليخرج من مجموعها فلسفة، هي عنوان على ما بلغ الفكر الإنساني من تهوش وانحلال في القرون الوسطى. •••
إذا كان ناموس جاذبية الثقل أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري في عالم الكون والفساد، فإن قانون «الدرجات الثلاث» الذي كشف عنه الفيلسوف الكبير «أوغست كونت» لأكبر استكشاف وصل إليه العقل البشري في الطبيعة الإنسانية، وأن متابعتنا لشرح هذا القانون لهي النواة التي تدور حولها أبحاثنا، لذلك نتابع الكلام فيه بإيجاز إتماما لفائدة البحث.
إن درس الإدراك الإنساني من كل ناحياته، وخلال كل الأزمان، يدلنا على وجود قانون ضروري يخضع له العقل، نستبينه من حقائق النظام الاجتماعي، والتجاريب التاريخية الثابتة، فإن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا، وكل فرع من فروع معرفتنا، لا بد من أن يمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة، الأولى اللاهوتية أو التصورية التخيلية، والثانية الميتافيزيقية الغيبية أو المجردة، والثالثة اليقينية الإثباتية أو الواقعة، هذا هو قانون الدرجات الثلاث. ويمكننا أن نحصر القول في هذا القانون بأن العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي ثلاث طرق مختلفة للتأمل من حقائق الأشياء، وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا أنها تتضاد تمام التضاد، من هنا ينتج ثلاثة ضروب من الفلسفة أو بالأحرى ثلاثة أساليب للتفكير في اكتناء حقيقة الظواهر كل منها تتافي الأخرى، أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق أو البحث عن مصادرها، وأما الأسلوب الثالث فيمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة الملموسة، وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية تتوسط بين الأسلوبين.
أما العقل في الدرجة اللاهوتية فإنه يبحث في طبيعة الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكاملة، يبحث في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس، وعلى الجملة يبحث في «المعرفة المطلقة»، وهنالك يفرض أو يسلم بأن كل الظواهر الطبيعية ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تختفي وراء الطبيعة المرئية.
أما في الدرجة الثانية؛ أي في الحالة الميتافيزيقية الغيبية، وهي ليست إلا صورة معدلة عن الدرجة الأولى، فإن العقل يستبدل فرض الكائنات السائدة على الطبيعة، بفرض قوات مجردة أو شخصيات محققة الوجود في نظره، في مستطاعها إحداث مختلف الظواهر، وليس ما يعني في هذه الدرجة من تفسير الظواهر إلا نسبة كل منها إلى مصدره الأول.
أما في الدرجة الأخيرة، وهي الدرجة اليقينية، فإن العقل يكون قد اطرح طريقة البحث العقيم وراء الأسباب المجردة، وأصل الوجود الكوني ومنقلبه، والعلل الأخيرة التي تعود إليها الظواهر، وألقى بجهوده في سبيل معرفة السنن التي تحكمها ، هنالك يتحد العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة، فإذا تكلمنا في هذه الحال في تفسير حقائق الكون، فلا نخرج عن إيجاد صلة بين ظاهرة من الظواهر، وبين مجموعة من الحقائق العامة التي يقل عددها تدرجا بحسب تقدم العلم اليقيني. •••
فإذا نظرت بعد هذا التحليل في ما أبرز العرب من صور الفكر، من علم أو أدب أو فلسفة أو فن، وجدت أن فيها من آثار التخلخل والتشعب ما هو جدير بأن يبرز في عصر عكف فيه الفكر على طريقة الشك الغيبي لم يعدها إلى طريقة التحليل والنقد، ذاعت بينهم مذاهب فلسفية نقلها المترجمون، وجلهم من النساطرة واليهود ووثنيي حران عن اليونانية، ولكنك لا تجد عندهم مدارس فلسفية ينسب إليهم ابتكارها، فليس لهم مدرسة تعزى إلى الفارابي أو ابن رشد أو ابن سينا مثلا، بل إن ابن رشد على الأخص لم تصبح له مدرسة تعتنق مذهبه الفلسفي الذي ذهب إليه في تفسير أرسطوطاليس، وتشيد بذكره وتذود عن حياضه، إلا بعد أن انتقلت كتبه إلى جامعات أوروبا في القرون الوسطى، فالمذهب الفلسفي ظل رأيا فرديا عند العرب، وانقلب مدرسة فلسفية في أوروبا عند بدء نهضتها العلمية، بل إن شئت فقل عند بدء عكوفها على الأسلوب اليقيني، ذلك فرق جلي بين درجتين معينتين يمر بهما العقل الإنساني، الدرجة الغيبية والدرجة اليقينية.
وقد يخطئ بعض الناس إذ يقولون: إن للسنيين أو للأشاعرة أو المعتزلين مدارس فلسفية، فإن جماع هذه وما يجري مجراها مذاهب لاهوتية استعانت بالفلسفة وببعض ضروبها دون بعض على بث أفكارها، وقد يصح أن يكون من أفرادها من غلب عليه النظر الفلسفي، فواصل بين عطاء مثلا قد نعتبره مجددا من جهة ما يدعو إليه من حرية الرأي واتباع ما يرشد إليه العقل في النظر العلمي والفلسفي والديني.
ولكن مدرسة المعتزلين، إن صح أن تدعى مدرسة بحق، ترجع في أصلها ونشأتها إلى النظر الديني المشوب بالفلسفة، أكثر من رجوعها إلى الفلسفة الصرفة، وكذلك الباطنيون «المتصوفة» فقد نقول: إنهم فلاسفة يقولون بوحدة الوجود، كما كان يقول الذين أخذوا عنهم من الفرس وأساتذتهم أصحاب الأفلاطونية الجديدة في مدرسة الإسكندرية، ولكن لم يكن لأحدهم مدرسة تنسب إليه ذاع رأيها وكان لها أثر في تطور الفكرة الفلسفية في المجردات خلال عصر من العصور.
وأنت لو نظرت نظرة أخرى في المؤلفات العلمية الصرفة عند العرب لوجدتها قليلة، اللهم إلا بعضا منها في الطب والكيمياء وخصائص النبات، وهي مؤلفات وسمت بطابع لا تراه يختلف كثيرا عن الطابع الذي وسمت به مؤلفاتهم في فروع المعرفة التي كانت ذائعة في عهدهم، كذلك إذ نظرت فيما كتبوا في النبات أو الحيوان، تجد أن المؤلف إن تحرر من الخلط بين فروع من التاريخ والأدب، لم يتخط حد الوصف، فمن الكلام في صفات النبات أو الحيوان إلى نفعه في العلاج، وهنالك بعض مؤلفين أرادوا أن يوسعوا من دائرة تآليفهم فتناولوا الكلام في خصائص النباتات السحرية أو الطلسمات ونفعها في التمائم وتفسير الغيب، بل تراهم في حين آخر قد مزجوا بين الفلسفة والفن فوضعوا الموسيقى في الفلسفة اعتمادا في الغالب على كلمة نقلت إليهم عن فيثاغورس لدى قوله: «العالم عدد، العالم موسيقى.»
هذه العقلية بذاتها هي التي ورثها السيد الأفغاني عن العرب، عقلية وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تتعده، وتنكبت كل سبيل كان من الممكن أن يسلم بها إلى الأسلوب اليقيني، ولقد كان من السهل الهين أن السيد الأفغاني يجمع ما تبدد من قوى الفكر حول ذلك الأسلوب، كما كان من المتعذر عليه، وأن يجمع قوة الفكر حول مبدأ جديد في العلم أو الفلسفة تلتئم من حوله شعب المجتمع المبددة لتدفع بقوتها نحو غاية أبعد مدى مما انتهت إليه أفكار آبائهم. لهذا نقول، ونقول بحق: إن ما استجمع السيد الأفغاني من عناصر الفكر القديم القائم على الأسلوب الغيبي قد ناء بجماعه على تلك النواة الحية التي كانت تتجمع حول الأسلوب اليقيني في أفكار الأمة فلم تقو على محوها، ولكن عاقت خطاها ولا تزال تعوقها عن الانبعاث في سبيل الحرية الصحيحة.
فأثر السيد الأفغاني في حياة الفكر في مصر، وإن شئت فقل في الشرق أثر سلبي صرف، لا يذكر في تاريخ الفكر إلا كأداة رجعية تلقت الجماعات قوة صدمتها بأسلوب حديث، هو الأسلوب اليقيني والنزعة الإثباتية، تتنكت بهما سبيل الغيب، لتتبع سبيل الشهادة.
على أن قوة ذلك الأسلوب الرجعي لا تزال قائمة بفئوسها ومعاولها، ولكنها تهدم ما تحت قدمها، وتقطع بمعولها الجذع الذي ترتكز عليه قدماها، لتنهار في النهاية وتذهب بددا، فالمدرسة القديمة القائمة بين ظهرانينا تتبع سبيل النظر الغيبي، بل غالبا ما ترجع سعيا إلى النظر اللاهوتي، ذلك في حين أن المدرسة الجديدة أخذت تبني على النظر اليقيني أساس نهضة كبرى، سوف نرى عما قليل بوادرها تنجلي لأعيننا ظاهرة من وراء حجب الغيب الكثيفة. •••
طالما سمعنا من الذين لا يقوون على إنعام النظر طويلا في مقدمات الأشياء ونتائجها، أن الثورة العربية بدء نهضة فكرية حديثة، وأن ثورة 1919 قد تعدت حد البدء بنهضة لتكون خاتمة تطور عظيم في الأفكار، لا في ميدان السياسة وحده، بل في عالم العلم وميدان الاقتصاد، على أننا لا نسوق بأنفسنا مع الذين يسوقون بأنفسهم في هذه المغامر الوعرة المتعسرة، حذر أن تغوص بنا أقدامنا في رمالها اللينة التي تبتلعنا غير شاعرين بليونتها ونعومة ملمسها، فإن مواجهة الحقائق على خشونتها لأقوم طريقا، وأهدى سبيلا. إن نظرة واحدة في الثورة العرابية كافية لأن تثبت لنا أن هذه الثورة كثورة 1919، لم تمس من الحياة الكامنة في الأمة شيئا، وأنها لم تتناول إلا ظاهر الحياة بآثار سريعة الزوال، كتلك الآثار التي تخطها يد الصبية فوق الرمال على شاطئ البحر، يكفي للذهاب بآثارها مد موجة واحد من موجاته.
لم تتناول الثورتان شيئا من تلك القواعد التي ترتكز عليها الحياة الكامنة في أغوار عقلية الجماعات، فإن اتجاه الفكرة في الثورة العرابية نحو المساواة بين ضباط الجيش، واندلاع لهيب التحطيم والهياج في الثورة الأخيرة فجأة ولا سابقة، لظاهرتان تكفيان وحدهما لإثبات ما نذهب إليه.
قامت الثورة الفرنسوية على دعاية الإنسيكلوبيذيين، ديدرو وأصحابه، لامتر وهولباخ وهلفتيوس، وعلى عقد روسو الاجتماعي ، وعلى آداب فولتير الوضاحة، بل على مجهود سلسلة من العظماء تعهدوا الفكر الكامن في طبقات الأمة المنتقاة منذ عهد ديكارت بتلك الفكرات الثابتة التي يذهب أثرها إلى أبعد غور من أغوار الحياة الخفية في نفس الأفراد والجماعات، فأخذت عناصر الثورة تتكون في الفترة ما بين 1596 إلى سنة 1879؛ أي منذ أن تنفس ديكارت نسيم هذه الحياة إلى اليوم الذي خرج فيه أهل باريس يصيحون: إلى السلاح، إلى السلاح.
استجمعت عناصر الثورة الفرنسوية في قرنين من الزمان دأبت فيها الجامعات على بث المذاهب العلمية والفلسفية، وقام بها فحول من الرجال أعطوا الجماهير أرقى المثل، كما تتحكم في رقاب الشعب المستنيم لحكم الفرد، مستبدون تعهدوه بأقسى المثلات.
وما أنت في كل ذلك، إن أردت أن تضع تاريخا صحيحا، بناظر إلى عدد المتعلمين، فمن الجائز أن يكون في مصر اليوم من المتعلمين عدد يربى على عدد المتعلمين في فرنسا عندما قامت بثورتها، أو على عددهم في إنجلترا عندما انتزع زعماء الشعب وثيقة «الماغنا كارتا» من يد الطاغية المستبد، فإن المسألة هنا مسألة «كيف لا مسألة كم»، انظر في القواعد التي قامت عليها ثورة فرنسا، ثم انظر في القواعد التي قامت عليها أية حركة من الحركات العنيفة في مصر، فإنك هنالك تستبين الفرق جليا، بين حركة أساسها نهضة أدبية فكرية تكون عناصرها، وبين حركة قائمة على لا شيء، على أن الحركتين قد تتفقان من حيث نبالة القصد وسمو المبدأ، ولكننا نقيس هنا بين الآثار التي تخلفها كلتيهما لا بين الأسباب الباعثة عليهما. •••
لقد مضينا حتى الآن نفتش في جنبات التاريخ المصري الحديث على حادث يلتئم من حوله الفكر لنتخذه نقطة ابتداء نبدأ منها، ويكون في ذاته سببا في تغير أساليب الفكر في مصر، ولا ريبة في أننا أخفقنا فيما صبونا إليه حتى الآن.
على أنك أينما وليت وجهك في تاريخ مصر الحديث وقعت على آثار نهضة أدبية علمية تشربت الروح الحديثة في البحث، وسعت جادة في سبيل المكافأة بين قوة الذكاء الكامنة في حياة الشعب الفردية والاجتماعية، وبين حاجات العصر الحديث، فهل شبت هذه النهضة بلا بذر كالطفيليات؟ أم كان لها أساس من الجهد المشترك، ودعامة من جهود الأفراد؟
إن عجزنا عن أن نقع على حادث يلتئم من حوله في الفكر في ثمانية العقود الأولى من القرن التاسع عشر في مصر، وأضفنا لذلك معتقدنا في أن الثورة المصرية في سنة 1919 لم تمس إلا ظاهر حياة الأمة لزمنا أن نسعى إلى البحث وراء السبب الحقيقي الذي قام عليه ما ندعوه «نهضة العلم والأدب»، كما يقول بعض الكتاب وإن كنا لا نجاريهم على صلاحية هذا الاستعمال إلا تجاوزا.
أما إذا رجعنا إلى نهضة الصحف والمجلات العلمية والأدبية، فإنا نقع على عصر شبيه بالعصر الذي بدأت فيه نهضة إنجلترا الأدبية في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، فإن العصرين يتشابهان كثيرا، على أننا لا نستطيع أن نمضي في هذه المقارنة، أو نخرج من صلب هذا المقال كتابا، إلا أن هذا لا يحول بيننا وبين القول بأن الفكر العلمي في مصر كان أكثر تأثرا بالمجلات منه بالجرائد السياسية، فالمجلات لها الخطر الأكبر فيما نحس من تقدم ندعوه «نهضة العلم والأدب»، المجلات وحدها هي التي أخذت بيدنا وأفسحت أمامنا سبيل الخوض في عباب الأسلوب اليقيني الحديث، وهي التي قادت دفة الفكر في مصر، وهو يجتاز بحر الأسلوب الغيبي العميق لتتكيف «النهضة» على صورة بددت سحب الحياة القديمة بما فيها من ظلمات الفكر المجرد، لتكشف لنا عن شمس الأسلوب اليقيني الذي لم يصل إلينا من أشعتها إلا قدر ضئيل.
على أنك لا تقع في كل هذا على حادث يلتئم من حوله الفكر، غير أنني أتوقع، وعسى أن يكون ذلك قريبا، أن الخطوة التي خطوناها في سبيل الخروج من ظلمات الأسلوب الغيبي إلى وضح الأسلوب اليقيني، سوف تقودنا سعيا إلى ميدان يتصادم فيه الأسلوبان تصادما يثير في جو الفكر عجاجة ينكشف غبارها عن الأسلوب الغيبي، وقد تحطمت جوانبه واندكت قوائمه، وتترك الأسلوب اليقيني قائما بهامة الجبار القوي الأصلاب مشرفا على الشرق، وقد هب من رقاد القرون، ليسير في الدرب الذي مهدت سبله للأنام نواميس النشوء والارتقاء.
4 (1) أسلوب الفكر العلمي
نقد وعتب
5
قرأت في مقتطف فبراير الماضي مقال «أسلوب الفكر العلمي»، فرأيت كاتبه الفاضل قد تعرض لأفراد وجماعات، فمر بالمرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، وعلى ذكره تحدث عن العقلية العربية أو الفلسفة العربية، كما تحدث عن حركة مصر السياسية الأخيرة، ووردت خلال ذلك قضايا كثيرة يوجب الإنصاف التاريخي وحرمة الحقيقة النزيهة مناقشتها، وذلك ما أريد التعرض لبعضه في كلمتي هذه.
وضع الكاتب العرب في الدرجة الثانية من درجات - أوغست كونت - وهي التي وصفها بأنها لا تعنى في تفسير الظواهر إلا بنسبة كل منها إلى مصدره الأول، وأنها لم تلق بمجهودها في معرفة السنن التي تحكم العالم، ولم يتحد فيها العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة، وأخيرا وصف عقليتهم بأنها «عقلية وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تتعده، وتنكبت كل سبيل كان من الممكن أن يصل بها إلى الأسلوب اليقيني»، وأن تلك العقلية في جمال الدين الأفغاني قد ناءت بجماعها على نواة الأسلوب اليقيني التي كانت تجتمع في أفكار الأمة فلم تقو على محوها، ولكن عاقت خطاها ولا تزال تعوقها عن الانبعاث في سبيل الحرية الصحيحة، إلى آخر ما أراد الكاتب أن يهول.
ولكن هذه العقلية قد أورثها جمال الدين لتلميذه الأستاذ الإمام المرحوم، الذي كتب منذ حوالي ربع قرن عن حديث السنن الكونية ما كتب، حين تفضل بمناقشة صاحب كتاب فلسفة ابن رشد في دعوى كهذه، زعم فيها أن العرب لا يقولون بالأسباب والمسببات تدينا، ولا يزال ما كتبه في حكمته ومتانته خير صورة لأسلوب الفكر العلمي، ومثالا لتلك العقلية التي نعتها الكاتب بما شاء، وهو في مناله يحسن صنعا أن راجعه أو نظر فيه، هذه العقلية التي هذبها جمال الدين يعرف لها التاريخ مكانها بحق وستدين لها الأمة يوم تعترف نفسها جيدا بسابغ الفضل على مختلف فروع نهضتها التي ينكرها الكاتب أيضا.
وهلا تعطف فوضعهم في أول مرقاة الدرجة الثالثة وقدر شيئا مما يشهد به المؤرخون المنصفون من الأجانب، أو ما يقرره أساتذة الجامعات الحديثة من أن العرب هم واضعو قاعدة «جرب واحكم»، وأنه يرى هذه الشهادات فيما ترجم من كتب أمثال «سيديو» و«جوستاف لوبون»، وما نشر في الصحف والمجلات من هذا، وهلا يشفع للقوم عنده طب تجريبي، وفلك تحقيقي، وهندسة تطبيقية، وكيمياء عملية كانت الأساس لهذا العلم الحديث، ومشاهدات صحيحة وملاحظات عميقة في العلوم الطبيعية، وتصحيح لأخطاء يونانية، وغير هذا مما يسجله التاريخ ويعترف به أهل هذه العلوم؟
وهلا يقدر الكاتب أن دارسي آثار هذا العقل العربي يشكون مر الشكوى من إمعان القوم في الأفكار وتقليب الفروض والمطالبة بالبرهان حتى ينتهي الأمر إلى بديهيته، ويرتكز على المشاهدة أو المسلمات العقلية، وأن للقوم نظما للبحث أخرجتها عقلية ناضجة لم تكن تقول هكذا خلق الله، وهكذا جرى العمل، بل كانت تدفع بقوة وشدة إلى النظر والفكر والتدبر والبحث، ولا تزال قواعدهم فيه أسلم منطقية وأمتن مما نرى الآن ونسمع، ولا أزال أنصح للكاتب أن يقيس بها أحكامه لئلا يقدم على مثل هذا الاتهام المجرد والتهكم الشنيع والحكم القاسي دون برهان ولا شبهة، ولا يعتدل حتى يعرف للقوم شيئا، ولا ينزل على رأي المنصفين فيهم.
وأنكر الكاتب أن للعرب مدارس فلسفية، وأشار إلى أنه ذاعت بينهم مذاهب نقلها المترجمون وجلهم من النساطرة واليهود ووثنيي حران ... إلخ، كأنه يرى في هذا منقصة ما، وكأن الحضارة كانت حضارة عربية الدم والجنس، وهذا ليس في شيء من الحق؛ لأنها حضارة الإسلام، نشأت في كنفه وعلى يد الأمم التي ألف بينها وأزال عنها فوارق العصبية، فتسابقت جهود أفرادها على اختلاف نحلهم وأجناسهم في سبيل العلم والمعرفة، على حين قبرت العصبية العربية في القرن الثاني بقتل الأمين، وتقلص ظلها حين كان يمتد رواق هذه الحضارة الإسلامية العربية اللسان والمزاج، فلا شيء في نقل النساطرة والوثنيين واليهود، ولا وقت عند القراء للحديث في هذا، فلا نطيل الكلام عن هذه المدارس؛ لأن الكاتب قد اعترف أن مدارس المعتزلة قد يصح أن تدعى مدارس بحق، إلا أنها ترجع في أصلها ونشأتها إلى النظر الديني المشوب بالفلسفة، كما قال عنها وعن مدارس الأشاعرة، وأن جماع هذه المدارس وما يجري مجراها مذاهب لاهوتية استعانت بالفلسفة وببعض النظر الفلسفي دون بعض، فهل له - أصلحه الله - أن يقول ما هذا اللاهوت في الإسلام، وكم مجمعا إسلاميا عقده القوم لتحرير مذهب أو بحث نظرية، وما الذي كان يتلقنه السلف الأول وهم أصدق الناس فهما للدين؟ وما الذي احتاج إليه الإسلام قرنا ونصفا قبل الفلسفة؟ ثم ما الذي استعان به بعد الفلسفة في سبيل تذليل عقبة من عقباته على نحو ما قد تكون المسيحية قد فعلت؟ إلا أن حكم التاريخ وشهادة الزمن أن الخوض في هذه الكلاميات لم يسبق الفلسفة، بل إنها أبحاث ترجع إلى الفلسفة الصرفة، التي لم يحتج إليها الدين، والكاتب يعيش في بلد إسلامي، ففي مكنته أن يعرف أن ليس في قواعد الإسلام إلا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن البدوي كان يتلقن هذه القواعد في جلسة قصيرة، وأن الفلسفة بعد ذلك خلقت كل هذا، وخاضت حتى فيما نهى عنه، وذلك عمل مدارس القوم التي كانت فلسفية صرفة، شابها شيء من النظر الديني، لا مدارس دينية شابها النظر الفلسفي.
ويقودني حديث اللاهوت الذي ذكره الكاتب إلى عبارة أخرى وردت في مقاله إذ يقول: فالمدرسة القديمة قائمة بين ظهرانينا تتبع سبيل النظر الغيبي، بل غالب ما ترجع سعيا إلى النظر اللاهوتي، ولعل هذا النظر اللاهوتي شيء مما نقله الكاتب عن «مرتز» في صدر مقاله إذ يقول: «والزمان الذي تقشعت فيه عن المدنية سلطة اللاهوت وزمان الإصلاح البروتستانتي»، فأقول للكاتب ومن رأيتهم من القوم ينحون منحاه كثيرا: إن الإسلام شيء آخر غير ما تسمعونه عن الأوروبيين من أمر اللاهوت، إن لديهم كنيسة وسلطة ورجالا يربطون ويحلون، قد وقفوا في سبيل العقل يوما ما وحرموا وحاكموا وعذبوا، على حين ليس لديكم من هذا، ولا يكاد يشبهه شيء، على حين أن لا رياسة في دينكم، ولا سلطة ولا حل ولا ربط ولا اعتراف ولا إحلال، على حين أن هذا اللاهوت لفظ لا معنى له في الإسلام؛ لأن الإسلام إصلاح عملي حيوي لا يقدس شخصا ولا يتقيد بشيء، ويحض على نظر ما في السموات والأرض، ويجعل استعمال العقل شكرا لمنحه، وعلى حين يقول المرحوم الأستاذ الإمام، تلميذ جمال الدين صاحب العقلية إياها، أن الكتاب الكريم لا يعرض لتقرير نظريات العلوم لئلا يقف في سبيل العقل ويحد قواه، مع أنه يستثيره ويستنهضه في تعميم إصلاحه، فلئن شكا القوم سلطة اللاهوت وعدوا الزمن الذي تقشعت فيه سلطته عن المدنية فاتحة عصر جديد، فلا تشكوا منهم وأنتم الأصحاء، ولا تقفوا في مثل خطأ الأتراك الذين سمعوا حديث السلطتين فذهبوا يقيمون للإسلام بابا وخليفة صاحب سلطة روحية، وأرى هذا الخطأ يبدو في مظاهر مختلفة، ولكن هذه العجالة لا تتسع لها فإلى فرصة أخرى، وحسبنا هذا إلماما وإشارة إلى ما نريد.
وأخذ المؤلف على القوم قلة المؤلفات العلمية الصرفة، ولا أرجع به إلى نقل ولا تذكير بأن الإحصاء يظهر أن ما ترجم الغرب في نهضته عن الشرق أكثر مما أخذ عنه الشرق إلى عهد قريب. لا أنقل شيئا من هذا فهو في المجلات مذكورا والكاتب يقدرها قدرها، ولا أذكره بما يبذل الغربيون من جهود ويرصدون من أموال لجمع هذا الشتات، ولكني أقول له: إن من كتب القوم ما لم تقع عليه عيوننا ولا سمعت به آذاننا، وإنه يحسن بنا قبل النفي أن نتريث وأن نقدر أنه قد يكون في الدنيا ما لم يصل إليه علمنا، وأن عوادي الدهر قد سطت على أكثر ما بقي لنا، وأننا حتى الآن لا نعرف صورة ما عن الحياة العلمية لإسلامنا، وخير لنا أن نبني أولا، وأن نتذكر أن نهضة الغرب قامت على أساس متين عريض من إحياء القديم وبعثه، وهاهم أولاء رجال الغرب يتخصصون في دقائق الفروع بل في توافه الأمور، فحبذا لو كانت لنا بهم في بدء نهضتهم، وفي رقي مدنيتهم أسوة ما، فندرس فروع حضارتنا، ونرود مجاهل تاريخنا، ومبهمات آدابنا، ونستخرج دقائق ميراثنا، بدل أن نضع الحضارة العربية، وجهد أجيال، وعمل قرون في نقطة مداد نخط بها حكما عاما شاملا، وعبارة مطلقة رهيبة، على حين تسمع بألم شكوى طلبتنا المصريين هنا من خجلهم أمام أساتذتهم - غير المستشرقين - في مختلف العلوم حين يسألونهم عن أشخاص وآراء لسلفهم لم يسمعوا بها لحظة ما، وحين يلفتهم أستاذ التشريح إلى اسم علمي يراه ليس عربيا، فيظهر بعد يسير من البحث أنه كذلك، وعلى حين يختار لهم أساتذتهم الأجانب مواضيع رسائلهم النهائية أبحاثا عربية ويدلونهم على مراجعها في محفوظات لديهم أو على حين لا نعرف من تاريخنا إلا ما يجود به علينا باحثوهم ومستشرقوهم، فحبذا لو بنينا قبل أن نهدم في رفق؛ فلعل في الأنقاض ما قد يسلم لنا في بناء الجديد.
ورمى الكاتب القوم بأنهم يمزجون الفن بالعلم «حتى أنهم وضعوا الموسيقى في الفلسفة بناء على كلمة نقلت إليهم عن فيثاغورس»، وهكذا لم يتلطف في الوخز مع أن الموسيقى علم وفن، وإنما كان فلاسفتهم يدرسون العلم، ولهم فيه نظريات لا تزال اليوم حديثة، ولصفي الدين عبد المؤمن البغدادي كتاب مخطوط - يوجد هنا في برلين - ليس إلا مناقشة نظريات علمية صرفة يعجب به الإخصائيون من الألمان وغيرهم، كما أن لهم أبحاثا نفسية في علاقة الأنغام بالألوان، وعلاقتها بالأراييح - الأزهار - وهو ما يعتبر بحثا جديدا شيقا، ويدرسه في جامعة برلين أستاذ الموسيقى وعلم النفس البروفسور ڨون هورن بوستيل
Von Horn Postil
وللكندي الفيلسوف رسالة مخطوطة في الموسيقى - توجد أيضا في برلين - تناول فيها الأبحاث الشيقة، وقد أعجب بها الأستاذ الألماني لاخمن واشترك مع الشاب المصري الفاضل الدكتور محمود الحفني الذي أتم دراسة الموسيقى ببرلين في إحياء هذه الرسالة وتفسيرها، ولا يزالان يعملان على إحياء غيرها من نفيس هذه الآثار. وأما فن الموسيقى أو الموسيقى العملية فقد دعوها صناعة الغناء، وذكر ابن خلدون في مقدمته فضل هذه الصناعة بين غيرها من الصنائع، فلم يكن فلاسفة العرب ملحنين ولا مغنين ولا أصحاب صنعة، كما لم يكن زرياب وإسحق ومعبد وشيعتهم فلاسفة. وما يرى كاتبنا الفاضل في أن الأوروبيين قدوتنا وسادتنا يتابعون القوم في هذا الخلط، ويدرسون الموسيقى في قسم الفلسفة في جامعاتهم، كما هو الشأن هنا في برلين؛ إذ يدرس الطالب الموسيقى العلمية والفلسفة وعلما آخر يختاره، ويعطى بعد ذلك لقب دكتور في الفلسفة، فلعل مشايعة السادة لقومنا في الخطأ تخفف من حدة الكاتب عليهم فلا يكونوا معتمدين على كلمة نقلت إليهم.
ملحق ثان: حول أسلوب الفكر العلمي
6
قرأت بكثير من الإمعان والعجب معا ذلك المقال الذي نشره المقتطف في صدر باب المراسلة والمناظرة في العدد الماضي، والذي تناول فيه كاتبه نقد مقالي أسلوب الفكر العلمي، ولست أعلم إلى أي حد ذهب تأثير الفكرات التي أوردتها في ذلك المقال من نفسه، غير أن الظاهر من أسطر مقاله أن الأثر كان بالغا، على أنه مهما كان يقيني فيما كتبت ثابتا، ومهما كان اعتقادي في صحة ما أرى في أسلوب الفكر العلمي عند العرب راسخا، فإني لا أتوقع مطلقا أن أقنع به رجالا عكفوا على أساليب المدرسة القديمة.
لقد وقف الفكر العربي عند حد النظر الغيبي الممسوس بشيء من الشك في حقيقة الأسباب التي كانت تعزى إليها الظاهرات، وكذلك في مقدرة الفكر الإنساني نفسه على معالجة مشكلات ما كان لنا أن نعيب عليهم أنهم عجزوا عن حلها، ولكن نقرر وبكثير من الاقتناع أن طريقة نظرهم فيها لم تكن لتؤدي بهم إلى الوصول إلى حلها، أفينكر ناقدنا مثلا أن العرب قد بدءوا نظرهم العلمي والفلسفي من حيث نريد اليوم أن ننتهي؟ أينكر أنهم بدءوا بالنظر في الماهيات ابتغاء الوصول إلى غايات الفلسفة والعلم، وأنهم أغفلوا النظر في الظاهرات «الأعراض» وتعليلها لينتهوا منها إلى معرفة ما هي حقيقية الأشياء؟
نمضي قليلا في المقارنة بين الأسلوب الغيبي الذي عكف عليه العرب أو المسلمون أو كما شئت فادعهم، والأسلوب اليقيني الذي وضعه باكون وجرت عليه الفلسفة في العصور الحديثة، خذ مثلا موقف الأسلوبين إزاء الرياضيات؛ فإن العرب كانوا يعتقدون كما اعتقد غيبيو الحكماء، وعلى رأسهم أفلاطون أحد أساتذة العرب الأكرمين، أن دراسة العدد ليس لها من فائدة عملية سوى رياضة العقل على البحث والاستبصار والوصول من طريق هذا البحث إلى معرفة حقائق الموجودات، وتجريد النفس من أدران المادة والتعالي بالفكر إلى ما بعدها، بل إنهم لم يجعلوا لدراسة علم الحساب أو الهندسة من فائدة عملية ما أو إحراز كسب مادي في ضرب من ضروب المعاملات كالتجارة أو الصناعة أو الحاجيات الأولية التي تحتاج إليها الجماعات في العمران، تلك الحاجيات التي لولاها لما كان لدراسة هذه العلوم من وزن يذكر في كل عصور التاريخ، أما لورد باكون فعين لهذه العلوم قدرها بما ينتج من المنافع المادية التي كان يعتقد الأقدميون أنها مرض الإنسانية العضال، وشأن العرب في الهندسة شأنهم في علم العدد، فقد قالوا مجاراة لأفلاطون أو لمن وصلت إليهم كتبه من تلاميذه أو المتخرجين في مذهبه: إن المشتغلين بعلم الهندسة يجب ألا يتذرعوا بها لإحراز المنافع المادية وإلا نبا بهم القصد عن إصابة الغاية منها؛ لأن اشتغال العقل بالماديات يصرفه عن إدراك كنه الموجودات؛ أي ماهياتها أو التوصل إلى معرفة الحقيقة المحضة والخير المطلق، أما المحدثون أصحاب الأسلوب اليقيني فإنهم قالوا بأن الهندسة ليس لها من فائدة إلا بقدر ما تنتج من فائدة مادية في حياتنا العملية، ذلك في حين أنهم لم ينكروا تأثير العلوم الرياضية على الآداب وضروب المعقولات بتة، فوضعوا لآثارها حدودا معينة، إذ قالوا بأن تأثير العلوم الرياضية من الوجهة المعنوية عرضي صرف، وكذلك نجد أن الفرق بين الأسلوبين كبير لدى النظر في علم الفلك، فقد كان القدماء وعلى الأخص المسلمون يعتقدون أن معرفة حركة الأجرام السماوية وكيفية هذه الحركة ليست بذات شأن كبير، ولم يحثوا على الاشتغال بالفلك لما ينجم عنه من المنافع كمعرفة الفصول والمواقيت؛ بل لما ينتج عنه من رياضة النفس على معرفة الحقائق المطلقة، أما الأسلوب الحديث فله في الفلك مآرب أخرى، مبناها المنفعة المادية المنحصرة في استكشاف المستحدثات.
كتب أرسطوطاليس في علم الحيوان وله مباحث عميقة في انقلابه الجنيني؛ وكتب العرب ومنهم الجاحظ في كتابه الحيوان، ومنهم الدميري في كتابه حياة الحيوان «والأكمة في كتابه التذكرة»، ومنهم القزويني في كتابه عجائب المخلوقات، فهل لناقدنا أن ينظر في هذه الكتب ويقارنها بكتاب أرسطوطاليس، وكان من الواجب ألا تغيب عنهم مفصلات ما كتب، ليحكم بعد ذلك علينا أو لنا؟ وليسائل نفسه: لماذا أصبح منطق أرسطوطاليس بين يدي العرب في المنزلة الأولى بعد القرآن، كما كان بين يدي اليعاقبة والنساطرة في المنزلة الأولى بعد التوراة والإنجيل؟ هل ينكر أن السبب في هذا أن المنطق - وعلى الأخص نواحيه الجدلية - أكبر مرض للعقل إذ يكب على الأسلوب الغيبي وأكبر عون لفلسفة الغيبيات في سبيل القضاء على الأسلوب اليقيني؟
أما قاعدة «جرب واحكم» فليس العرب أول من وضعها ولا الإسلاميون أول من اعتنقها؛ فإن أبيقورس وديمقريطس أول من علق عليها في تاريخ الفلسفة على ما بلغ إليه علمي، وليظهر لنا ناقدنا أي باحث من الإسلاميين في الفلك لم يخلط الفلك بالتنجيم وكشف الطوالع؟ وأي كيماوي منهم لم يعكف على تحويل المعادن إلى ذهب؟ وليبين لنا على أية قاعدة حاولوا أن يخرجوا بالعلوم التي ذاعت بينهم من حيز النظر إلى حيز التطبيق؟ فلعلنا على جهل بهذا، ولعله يزيدنا من لدنه علما.
ليس من الصعب أن يتفوه المرء أو يكتب كلمتي «جرب واحكم»، ولكن من الصعب أن يطبق هذه القاعدة، فلو أن مجرد التفوه بشيء مرقاة إليه لأصبح الكلام ثمينا ولأصبحت الكتب أغلى قيمة مما نرى، ولكان الأجدر بها أن تكتز وأن تشترى بأغلى الأثمان كما يقول تيوغينيس، ولكن الواقع نقيض ذلك، فإن «جرب واحكم» شيء عرفه العرب عن اليونان، ولكنهم مع الأسف لم يتخذوا هذه القاعدة أساسا لأبحاثهم العلمية، وقد يكون هناك شواذ، غير أن هذه الشواذ لا حكم لها، ولكني أستطيع أن أقول بكثير من التعيين أن لا شواذ أيضا.
ألم يكتب الرازي في تحويل المعادن إلى ذهب أشياء لا يقبلها العقل ولا تجيزها التجربة ؟ ألم يكتب جابر بن حيان كتاب البدوح في طلسمات تسهل على الوالدات الوضع إذا تعذر عليهن؟ وهما بعد أكبر من عرف العصر العربي من الكيماويين؟ وهل من شيء في هذا العالم هو أحوج إلى التجربة وإلى التخلص من موحيات الأسلوب الغيبي من علم الكيمياء؟ ولماذا أذهب بالناقد بعيدا فما عليه إلا أن يقلب صفحات «تاريخ الحكماء»، وهو من الكتب المعتمد عليها في تاريخ الفلك عند العرب بتحقيق الأستاذ «نلليتو»، ليرينا أي فلكي ممن ذكرهم لم يأت في أول ترجمته أنه «الحاسب المنجم» حتى إذا ما رجعت إلى كتب «الحاسب المنجم» وقعت على أشياء هي أدنى إلى زجر الطير وضرب الحصى ونعيب الغربان وضرب السقاء، منها إلى أي شيء في عالم المعرفة الإنسانية.
والظاهر من كل ما كتب الناقد أنه أخطأ فهم ما نعني بالأسلوب العلمي اليقيني؛ فإنه ترفق في النقد، ولم تأخذه حدة؛ إذ توسل أن نجعل العرب في أول مراقي الدرجة الثالثة؛ أي الدرجة اليقينية من درجات «كونت»؛ ذلك لأن الأسلوب العلمي فكرة أو قاعدة يهتدي بها الإنسان إذ يمضي باحثا وراء الحقائق، إنها ليست شخصا ولا رمزا ولا تمثالا، بل هي طابع تطبع به المدنية، ونحلة ينتحلها الفكر، بحيث تصبح تلك النحلة عامة شاملة، فإذا فرض وظهر في العرب من جرب وحكم، أو إذا فرض وظهر فيهم من استكشف وقرر، فإنما ذلك عمل فردي ذاتي لا يدل على أن ذلك كان للمدنية طابعا، أو كان للفكر العام نحلة وديدنا.
وبعد فلنرجع به إلى السيد الأفغاني، فإننا على ما نحمل له في قلوبنا من الاحترام، لا نبرؤه من العكوف على الأسلوب الغيبي، وهل أتى ناقدنا ذكر رسالة الرد على الدهريين؟ هل أتاه ذكر النقد الذي وجه به إلى«داروين»، معلم القرن التاسع عشر، محاولا أن ينقض مذهبه في النشوء، فلم يجد من قول يدفع به حقائق العلم إلا قوله أن مذهب «داروين» يفضي بالبرغوث لأن يكون فيلا وبالفيل لأن يكون برغوثا؟ وإذا سألته لماذا؟ أجابك: لأن لكليهما خرطوما! ولا أذكر له غير ذلك من تلك الرسالة على ما فيها من فاحش الخطأ وفاضح الخلط، تاركا لناقدي الحرية الكاملة في أن يقدر إلى أية درجة من درجات قانون كونت يبلغ أسلوب الأفغاني في تقرير حقائق العلم.
أما الموسيقى فجائز أن تكون قد أصبحت علما أو فلسفة في العصر الحاضر، ولكنها لم تكن كذلك في زمان العرب، بل كانت مجرد فن لا غير، وهذا ليس ببعيد؛ فإن كثيرا من العلوم الحديثة لم تكن منذ زمان قصير إلا نظريات أو مجرد فكرات ناحية الغيب فيها تربي على ناحية الشهادة.
ولست أعرف من أية طريق تبادر إلى ذهن الناقد أني أعيب على العرب أو على الإسلاميين نقل النساطرة واليهود ووثنيي حران لمذاهب الفلسفة من قبلهم، أليس هذا ما يرويه التاريخ؟ فلماذا يحمل كلامي على محمل النيل من العرب أو الإسلاميين إذا أنا قررت ما يرويه التاريخ؟ وكذلك هو يقول - أصلحه الله - «وما الذي احتاج إليه الإسلام قرنا ونصفا قبل الفلسفة» كأنه يعتقد خطأ أن الفلسفة اليونانية لم تذع بين العرب إلا في العصر العباسي، وما أحيله على شيء يصلح به خطأه إلا أن يقرأ تاريخ انفصال اليعاقبة والنساطرة عن الكنيسة الرومانية، وشيئا وجيزا من اتصالهم بالشرق، وعلى الأخص بالعراق وسورية ومصر وفارس قبل ظهور الإسلام، ليعرف إن كان العرب قد عرفوا الفلسفة من العالم السرياني وهم بعد نصارى ويهود ووثنيين، أم إنهم لم يعرفوها إلا في العصر العباسي.
أما ذكر اللاهوت فالحق أني لم أقصد به سوى ما يعني من كلمة
Theology
ولا أظن أن الناقد ينكر أن المسلمين قد امتازوا بكثرة المذاهب الثيولوجية، وما ذلك عنه ببعيد، على أن في رده لكثيرا من البعد عما أقصد من اصطلاح اللاهوت، فإنه تساءل: كم مجمع اجتمع في الإسلام لتحرير مذهب أو بحث نظرية؟ كأنه يعتقد أن فكرات اللاهوت لا تقوم إلا حيث تكون مجامع كمجمع نيقية أو إفسوس أو خلقيدونية، وأظن أنه كاف أن يتذكر أن مسألة خلق القرآن وقدمه قد استنفدت من جهود المسلمين بقدر ما استنفدت طبيعة المسيح من الجهد عند النصارى، وأي كبير فرق بين مجمع إفسوس وبين مجالس المأمون التي كان يعقدها للبحث في مسألة القرآن، وهل هو مخلوق أم قديم؟ وأي كبير فرق بين طرد النساطرة من الكنيسة وبين جلد الإمام أحمد بن حنبل وسجنه وإهانته إزاء استمساكه برأيه في قدم القرآن؟ وبعد فليظهر لنا ما هو الاعتزال، وما هي القدرية، وما هي الجبرية، وما هي المرجئة، ومن هم الأشاعرة، ومن هم السنيون؟ وما هي بقية الفئات المعروفة؟ إن لم تكن فئات قامت لتقرير مذهب أو بحث نظرية.
وما أريد أن أذهب معه في البحث لأكثر من هذا، ولكن ذلك لا يحول دون أن أسأله: متى وفي أي عصر أزالت مدنية الإسلام عن الأمم الإسلامية فوارق العصبية؟ نترك كل شيء آخر لنسأله: هل أزالت مدنية الإسلام فوارق العصبية بين قبائل العرب في الأندلس، وهي لم تطأ إسبانيا إلا وهي على خلاف، ولم تفارقها إلا وهي أشد خلافا في سبيل السيادة والملك انتصارا للعصبية مما وطأتها؟ فإذا كانت الفوارق العصبية لم تزل من بين العرب أنفسهم وهم بعد في غمرة من حروب الفرنجة، فكيف بنا نعتقد أن فوارق العصبية قد زالت من بين الشعوب الإسلامية كما يدعي الناقد؟
ذلك ما رأيت أن أبعث به إلى ناقدي على صفحات المقتطف لعله لا يرمينا بعده بالتعصب للجديد لأنه جديد، ولا بالنيل من القديم لأنه قديم، ولكن هو الحق نسعى في سبيل الوصول إليه في هوادة وتريث، لا في ثورة واعتساف، والسلام.
العرب والبحث العلمي: رد
7
ورد على الخاطر مقالة في أسلوب الفكر في مصر، أنحى بها الفاضل أسماعيل بك مظهر على أسلوب العرب فيما كتبوه، وسماه أسلوبا غيبيا على الإطلاق، وعلى العكس من ذلك فقد بت في أن اليونان الأقدمين هم أرباب الأسلوب اليقيني وناشرو لوائه لبعض أقوال لهم في الاستقصاء والتجربة وتحكيم العقل.
وكنت أود ألا يغرب عن بال الفاضل حينما كتب مقالاته أن كل شيء في هذا الكون نسبي كما يقولون ، وأن إرسال أحكام كهذه مطلقة لا يخلو من الشطط دائما؛ مثاله أن لدي من «خلط» علماء يونان في كثير من العلوم ما يملأ مجلدا ضخما، وعلى العكس لدي أقوال كثيرة لعلماء أوروبيين عظام يثبتون بها أن كذا وكذا من مؤلفات العرب فيها ما يدهش من الأفكار العلمية المبنية على استقراء وتجارب مجردة عن كل وهم سابق، فهل يجب أن نستنتج من ذلك قاعدة مطلقة تكون معاكسة لما قرره الكاتب المحترم في مقالاته؟ أو هل يجب أن نجاري بعض العلماء الأوروبيين فنحكم على كل من تقدمنا ونقول أن الأسلوب اليقيني لم ينشأ إلا البارحة؟ لست أرى هذا ولا ذاك؛ أي لست ممن يرتئون وضع قواعد مطلقة في أمور كهذه، فاليونان ساروا في بعض أبحاثهم العلمية على الأسلوب اليقيني وحادوا عنه في بعض آخر.
وكذا أجدادنا العرب، وقد يكون اليونانيون أقرب إلى الأسلوب اليقيني من العرب إجمالا، ولم يتفرد العرب أو الإسلام باتباع الأسلوب الغيبي، فلا غضاضة إذن عليهم، بل على العكس كانت علومهم المستمدة من علوم اليونان والفرس والهنود منارا ينير باقي الأقوام في هاتيك العصور المظلمة مهما كان فيها من الحشو الذي لا تقره عقولنا اليوم، أقول: عقولنا اليوم وأنا على يقين من أنه سيأتي حين من الدهر يرى أبناء المستقبل فيه أننا نسير الآن على غير هدى في كثير من تجاربنا العلمية، وأننا نخبط خبط عشواء في قواعد مادية أوصلنا إليها الاستقراء العلمي المحض، وسببه التباس كثير من الغوامض علينا مما سيتبين في المستقبل القريب أو البعيد.
أتذكر أنني عندما كنت أدرس في أوروبا ضحكت بضع مرات مع معلمي من أنفسنا على أثر إخفاقنا في تجارب كنا نجربها في النبات والحشرات، ولكم ظن العلماء أن أسلوبهم في تجاربهم العلمية سيوصلهم إلى الغاية بلا ريب فأخفقوا وتخبطوا تخبطا ضحكوا منه هم أنفسهم أو ضحك غيرهم منه فيما بعد، ولا يجوز برأيي الحكم على العرب وحدهم بأنهم أصحاب أسلوب غيبي حكما مطلقا مهما كان في كتبهم من الأمور التي هي أقرب إلى الشعوذة والتنجيم منها إلى الحقائق الراهنة، فالعرب وهم تلامذة اليونانيين قام فيهم عدد غير قليل ممن اتبعوا الأسلوب اليقيني فأثبتوا حقائق ستظل فخرا لهم إلى الأبد، وخلاصة الرأي أنه يجب أن نقول بأن العرب كانوا كاليونانيين والرومانيين يتبعون الأسلوب الغيبي في بعض أبحاثهم، واليقيني في بعض آخر، ومن البديهي أننا لا نعني الفلسفة وحدها بل جميع العلوم والفنون التي كانت معروفة.
وإما أن نحكم على الأقوام الغابرة جميعا حكما صارما فنقول: إنهم أصحاب أسلوب غيبي على الإطلاق، وإن الأسلوب اليقيني لم يوجد إلا في عهد إسحق نيوتن وده كارت أو أقرب من ذلك؛ أي في عهد أوغست كونت، وفي الحالة الثانية يشمل الحكم اليونانيين بلا ريب، أما إذا خصصنا العرب بالحكم دون اليونانيين والأقوام القديمة فلا يفسر ذلك إلا بأن الشعوبية شر بلوى أصابت العرب منذ سادوا إلى اليوم.
حول أسلوب الفكر العلمي
8
سيدي الأستاذ محرر المقتطف
قرأت للأستاذ الشهابي نبذة قصيرة في باب المراسلة والمناظرة أدلى فيها برأي في أسلوب الفكر العلمي قال فيه بأنه كان من الواجب علي أن أذكر أن كل شيء في العالم نسبي، وأحب لو أني لاحظت هذه الحقيقة قبل أن أحكم حكما مطلقا في مسألة نسبية، ولست أدري كيف تكون مسألة نسبية تلك التي تتناول الحكم في طابع من المدنية صبغ به عصر من عصور التاريخ؟ فإذا قلنا مثلا بأن العصر الحديث هو عصر الإنتاج الميكانيكي، فهل يدل ذلك على أنه عصر عدم كل أنواع الإنتاج حتى الإنتاج العقلي؟ كلا بل معناه أن طابع المدنية الحديثة هو الإنتاج الميكانيكي، أليس ذلك حكما مطلقا؟ أليس هو حكما صحيحا؟ وإذا قلنا بأن أسلوب العرب العلمي قد طبع بطابع الغيب، فليس معنى هذا أنهم عدموا كل قوة على اتباع أسلوب الشهادة، ولكن معناه أن الأسلوب الغيبي شاع حينئذ، فأصبح للعرب طابعا.
على أن لنا على هذا الرأي برهانا آخر، وهو برهان تاريخي، فإن الثابت أن وراثة العرب العلمية قد انتقلت إليهم من طريق مدرسة الإسكندرية أكثر من انتقالها إليهم من أي طريق آخر، لا في الفلسفة وحدها، بل في الطب والكيمياء، وعنها أخذ العرب تلك الأساليب الغيبية التي خلطت بين الطب والفلك، وبين الفلك والكيمياء، فهم في الواقع ورثة فورفويوس الصوري في المنطق، وأخلاف ابن ناعمة في الإلهيات، أو بالأحرى خلفاء أفلوطين الإسكندري الذي ترجم عنه ابن ناعمة كتاب الإيثولوجيا، وتلاميذ الإسكندر الأفروديسي في الفلسفة وفي القول بحياة الأفلاك السماوية، والعقل الفاعل والعقل المنفعل، إلى غير ذلك من الأشياء المبهمة الغامضة التي لا مبعث لها إلا قوة التصور وحدها، ولا منبت لها إلا الأسلوب الغيبي.
ثم نعود بعد ذلك إلى اليونان، وأظن أن الأستاذ لا ينكر أن كل كتاب العصر الحديث منهم الأعلام جومبرتز ووندلبند وماهافي وجلبرت موري وأردمان وزيللر وهوفدنج قد أجمعوا على أن الشعب اليوناني القديم أقدر شعب حملته الأرض وأظلته السماء من حيث القدرة على التفكير العلمي وعلى الحليل والنقد.
وأظن أنه لا ينكر أنه ما من علم حديث إلا ونجد له بداياته مطوية في ثنايا ما خلف الشعب اليوناني من آثار، فإذا كان أساتذة العصر الحديث قد اعترفوا بما كان للشعب اليوناني من تفوق على شعوب الأرض من بدء الخليقة إلى اليوم، فهل يعد ذنبا وجريمة أن عددت العرب مع الشعوب التي تفوق عليها اليونان من حيث الكفاءة العقلية، بما فيهم الألمان والأنجلوسكسون والشعوب اللاتينية في العصر الحاضر، والمصريون والكلدانيون والهنود وغيرهم في العصور الغابرة؟
وبعد فلست في مقام أنصر فيه العجم على العرب ولا علماء الغرب على علماء الشرق لأكون في نظر الأستاذ من الناصرين لمبدأ الشعوبية.
على أني لم أفز حتى اليوم ببرهان أو دليل يقنعني بأن رأيي الذي رأيت في أسلوب الفكر العلمي غير صحيح، وأني على الرغم من كل ما قيل لا أزال أعتقد حتى اليوم أن أسلوب البادية في العلم والفلسفة كان أسلوبا غيبيا صرفا.
العرب والأسلوب العلمي: رد
9
سيدي الفاضل رئيس تحرير المقتطف حفظه الله
قرأت ما كتبه الأستاذ الفاضل إسماعيل مظهر في جزء ديسمبر 1926 من المقتطف الأغر ردا على ما ذكرته في الجزء السابق حول أسلوب الفكر العلمي عند العرب.
للأستاذ أن يطنب بالشعب اليوناني القديم ما يشاء؛ فهذا الشعب حري بذلك، وله أيضا أن يفضله مع من ذكر من الكتاب وغيرهم على كل الشعوب الحاضرة من حيث القدرة على تحليل الحادثات الكونية ونقدها وعلى التفكير العلمي، فأنا لا أريد أن أجادله في رأيه ما دام هذا الرأي لا يتعلق بالعرب وحدهم، لكنني آخذ على الكاتب قوله: «وإني على الرغم من كل ما قيل لا أزال أعتقد حتى اليوم أن أسلوب أبناء البادية في العلم والفلسفة كان أسلوبا غيبيا صرفا»، فهذه الجملة تحتاج إلى إيضاح، ومعناه يجب أن نتساءل؛ أولا: هل العرب أصحاب أسلوب غيبي كان لهم طابعا أم لا؟ ثانيا: إذا حكمنا بأن أساليبهم العلمية كان الغيب طابعها فهل انفردوا وحدهم بهذا الطابع أم شاركتهم فيه الشعوب الأخرى التي عاصرتهم أو درجت قبلهم؟
أجمع الفلاسفة منذ أيام أوغست كونت إلى اليوم على أن الفلسفة والعلوم المعروفة لم تتجرد من الأساليب الغيبية إلا منذ عهد باكون وده كارت في الفلسفة، وكبلر وغاليليو في العلوم، فجميع الأقوام سواء في تعليل حوادث الكون؛ أي بجعلها خاضعة لإرادة الأصنام أولا فالآلهة فالإله الأحد، فالعلل الكامنة بها المنفردة عنها، على التتابع، إلى أن عدل العقل البشري أخيرا عن كل ذلك وانصرف عن البحث في أصل الكائنات وغايتها ومدبرها إلى النظر في النواميس الطبيعية التي تسير حوادث الكون بموجبها، ومنذ ذلك الحين أخذت العلوم تتسع وتتقدم.
فقد ذكر أصحاب الفلسفة اليقينية، وخصوصا أوغست كونت في غير موضع من مجلداته الستة، أن اليونانيين لم يتبعوا أسلوبا يقينيا محضا إلا في الرياضيات ومن أعظم رجالهم فيها أرخميدس وإقليدس، ثم في فلسفة أرسطو.
أما باقي الفلاسفة والعلماء اليونانيين الذين بحثوا في الفلسفة والنبات والحيوان والزراعة والطب وغيرها، فقد كان يغلب الأسلوب الغيبي على أبحاثهم، وأما باقي الشعوب التي لها مدنية تذكر في التاريخ القديم وتاريخ القرون الوسطى فمعظم أبحاثهم العلمية والفلسفية هي غيبية ، بحيث إنه إذا أريد عدم البحث في النسبية، وأريد الحكم في الطابع الذي طبعت به أيام هذه الشعوب فلا يمكن نعته بسوى أنه غيبي.
يتضح من ذلك أن ما ذكرته في عدد المقتطف الأسبق حول هذا الموضوع لم يتغير، ومفاده أنه إذا أريد اتخاذ قاعدة مطلقة عن الأسلوب العلمي الذي كان أكثر انتشارا في الشعوب القديمة فالغيب طابع الجميع بلا استثناء لا طابع العرب وحدهم.
وبعد فأنا على اتفاق مع إسماعيل مظهر إذا سلم بهذا الرأي؛ أي بأن العرب لم يتفردوا بكونهم كانوا ذوي أسلوب علمي طبع بطابع الغيب، بل إن كل الشعوب المتمدنة التي عاشت قبلهم ومعهم يجب وسمها بهذا الطابع، وأن الأسلوب اليقيني لم ترجح كفته حتى صار طابعا للعلوم إلا في المدنية الأوروبية الحديثة، أما إذا أصر الأستاذ على رأيه في إفراد العرب بهذا الأسلوب فمن المتعذر أن نتفق وقد تدوم مناظرتنا إلى أن نلتقي في العالم الثاني.
أسلوب العرب العلمي
10
سيدي محرر المقتطف
نشرتم للأستاذ مصطفى الشهابي في مقتطف يناير الماضي كلمة وافق فيها على ما أرى من رأي في أسلوب العرب العلمي أن الغيب قد وسم على جبين آثارهم العلمية طابعا خالدا، على أني لا أريد أن تمر هذه الفرصة من غير أن أعبر للأستاذ عن رأيي في أن الأسلوب الغيبي قد شاع في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، على الرغم مما جاء به نيوتن وباكون وديكارت من قبل ذلك، أبادر إلى نشر هذه الحقيقة لأني أود من صميم قلبي أن ألتقي والأستاذ في عالم الشهادة؛ فإننا إذا لم نلتق فيه، فالراجح أننا لن نلتقي في عالم الغيب كما أشار الأستاذ في نهاية كلمته الأخيرة، والسلام.
معتقد أبي العلاء المعري
في الدين والخالق
ما كنت لأكتب في أبي العلاء المعري شيئا لولا أن لي في مذهبه فكرة قد أكون مسبوقا بالبحث فيها، وإن كنت لم أقرأ حتى اليوم بحثا تناول معتقد أبي العلاء انتحى فيه ذلك المنحى الذي أنحوه لدى النظر في عقيدته، والحقيقة أن الناس مختلفون في أبي العلاء هل هو متدين؟ ومن ثم يوجب عليه تدينه أنه يعتقد بوجود الله، أم أنه إلهي صرف يعتقد بوجود الله على اعتبار أنه علة العلل وصرف حالات هذا الكون ومبدعه ومدبره، ومن ثم يجحد الأديان، مستقلا أمر الاعتناء بالإنسانية في جانب الله، فإن من الفلاسفة الإلهيين من يقول بأن أمر العناية بحالات الإنسانية فوق هذه الأرض وبمنقلبه بعد الموت، إنما هي أشياء لم تخرج عن كونها تصورات باطلة سيق فيها الإنسان بمقتضى غريزته وبقدر جهله بحالات العالم الطبيعية الحافة به، وأن الله - سبحانه وتعالى - خلق العالم وبرأ الأحياء على مقتضى نواميس في علمه أن تظل كما كانت، وكما هي كائنة، وكما ستكون، وسبق في علمه أن تكون هذه النواميس أبدية أزلية لا تتغير ولا تتبدل، فهو على هذا الرأي مصرف الكليات ومدبر الكون في مجموعه، وعلى ذلك يكون أمر العناية بسعادة الإنسان فوق الأرض وخلاصه بعد الموت، أمورا جزئية فعلها مناقض لما سبق في علمه القديم أن يكون. أذكر لبعض الفلاسفة رأيهم هذا، وأذكر أنني أمضيت وقتا ليس بالقليل مع أحد مشهوري الأدباء المعروفين نتصفح ما كتب أبو العلاء لنستخلص من آثاره كل شيء يدل على اعتقاده بوجود الله وبفكرته في الدين، فوقفنا على كثير من الآراء المتناقضة وألوان من مختلف النزعات في أبيات تظهر فيها عقيدة أبي العلاء في وجود الله ظهورا جليا واضحا لا تشوبها شبهة، ولا تحف بها ريبة، غير أنك لا تلبث أن تجمع كل ما قال أبو العلاء مما يدل على اعتقاده بوجود الله ثم تذكر قوله:
قلتم لنا إله قديم
قلنا صدقتم كذا نقول
زعمتموه بلا مكان
ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء
معناه ليس لنا عقول
حتى تحف بك الريبة في حقيقة عقيدته في الله - سبحانه وتعالى - فهو يسلم بأنه - سبحانه وتعالى - حكيم، ولكن عقله يأبى عليه أن يسلم بأنه بلا زمان أو مكان! فكيف كل هذا؟ كيف يمكن أن نعتقد بأن الله حكيم، وأنه علة العلل ومبدع الأشياء، ثم في الوقت نفسه يشارك المعلولات في صفاتها من الحد بالزمان والمكان؟ السبب في ذلك يمكن تعليله.
ارجع معي أيها الباحث المتريث برهة إلى النظر في حالات جسمك الطبيعية، وسايرني هنيهة في بحث طبيعي منطقي نخرج منه بنتيجة تعلل لنا السبب في أن أبا العلاء يسلم بأن الله حكيم، ثم لا يستطيع أن يسلم بأنه بلا مكان ولا زمان.
أنت إنسان تبصر وتلمس وتسمع وتذوق وتشم، وليس فيك من صفات تدل على وجودك غير هذه الصفات التي اصطلح على تسميتها بالحواس الخمس، وأنت في هذه الآونة تقلب بين يديك كرة من الحديد الأصم، هي مادة اصطلحت على تسميتها حديدا، سائل نفسك بعد ذلك كيف يمكن أن تعرف أن هذه الكرة خارجة عن حيزك؟ تعرف ذلك لأنك تراها وتلمسها وتسمع رنينها إذا ألقيتها على الأرض، وقد تذوقها إذا وجدت لها عندك طعما، وقد تشمها إذا كانت تنبعث منها رائحة، فإذا فرضت أنك فقدت حاسة البصر فإنه يتعذر عليك أن تراها، وإذا فقدت حاسة اللمس تعذر عليك أن تشعر بها، وإذا فقدت حاسة السمع استعصى عليك أن تسمع رنينها إذا ما أصابت جسما صلبا تلقى عليه، إذن يترتب على هذا أنك لا تعرف لهذه الكرة من وجود خارج عن حيزك إلا من طريق حواسك، وإذن فكل ما تدرك من وجود الكرة راجع إلى إدراكات كائنة فيك، وليست خارجة عن حيزك، وعلى هذا يتعين عليك القول بأن فقدان الحواس يمنع عليك أن تدرك للكرة وجودا حقيقيا خارجا عن حيزك، مع أنك مع كل هذا لا تستطيع مطلقا أن تعتقد بأن الكرة ليست خارجة عن حيزك وعن وجودك المادي؛ ذلك لأن عقلك قد ركب عن أن يمضي معتقدا بأنها خارجة عنك بعيدة عن وجودك، وأن لها وجودا آخر غير وجودك، على هذا جبل الإنسان وعلى هذا تركب عقله، فإذا اعتقد شخص ساعة بأن الكرة في حيزه داخلة في وجوده وأخذ يؤدي عمله سائرا على هذا الاعتقاد، فعندها نقول بأن ميزان العقل قد اختل وتفككت ألفته؛ ذلك لأن العقل ألفة، لا بل لن تسلم إلا بأن الكرة تشغل من المكان حيزا خارجا عن حيز جسم الإنسان الشاعر بوجودها من طريق حواسه، هذا أمر سلم به كل المشتغلين بالعلم الطبيعي كما سلم به كل المناطقة، فلنتركه هنيهة إلى بحث آخر يمت إليه بآصرة قريبة.
في الفلسفة الحديثة اصطلاح وضعنا له «الفكرة الناسوتية» ترجمة، ولست أعلم مقدار انطباق هذه الترجمة على الواقع، غير أني أستعمل الاصطلاح هنا ترجمة لكلمة «إنثروبومورفزم»؛ أي الفكرة الفلسفية القائلة بتزويد الله - سبحانه وتعالى - بشيء من الخصائص الإنسانية والصفات البشرية، على أن مضينا في الاعتقاد بأن الله لن تخرج صفاته - تجلت عن الشبائه - عن أشياء تتحيز في أذهاننا حسب نماذجنا العقلية لأمر فيه من الخرق بقدر ما نقول بأن الشمس تدور حول الأرض أو أن اثنين واثنين لا يكونان أربعة أو بقدر ما ننكر وجود المحسوسات ، أمر يتنافى لدى أول وهلة مع اعتقادنا بأن الله مخالف للحوادث بمقتضى أنه علتها الأولى، غير أننا مع كل هذا لا نستطيع أن نكون في موجد الأشياء فكرة غير مصبوبة في قالب تصوره لنا نماذجنا العقلية؛ لأن هذا يخرج عن طوق الذوات الفانية.
خذ لك مثلا «إسبينوزا» فإنه أبعد الناس عن الاعتقاد بأن الخالق مكون على نموذج عقله، ولذلك قال بأن الله عبارة عن «امتداد وفكر» غير أن دكتور «مارتينو» لم يلبث أن نض فكرته قائلا: من أين أتى له أن الله امتداد وفكر إلا من النظر في حالاته الطبيعية؟ ذلك لأن الامتداد والفكر أمران هما أخص ما تتصف به الأجسام والعقول، وعلى هذا فقس بقية ماذهب إليه فلاسفة مثل هيجل وسبنسر وغيرهم.
فإذا رجعت بعد هذا إلى فكرة أبي العلاء، وجدت أن الرجل شاك لاأدري في المحسوسات، حسي في الظواهر الطبيعية، توحي إلية ألفة عقله بأن الله حكيم؛ ذلك لأنه يقيس الحكمة في الله مطبقا إياها على خصائص عقله، ولكنه ينكر أنه بلا زمان ولا مكان؛ لأنه لا يستطيع أن يحتفظ بألفة عقله في الوقت الذي يمضي فيه معتقدا بأن هنالك شيئا خارجا عن الزمان والمكان، في حين أن حالات جسمه الطبيعية وحواسه التي يدرك من طريقها ما هو خارج عن حيزه، لا توسع مجال الاعتقاد في شيء خارج عن حد الزمان والمكان، أو بطريقة أوضح عن حد الحركة؛ لأن الزمان والمكان شيئان أولهما قياس الحركة من جهة المتقدم والمتأخر، وثانيهما سطح لا يعرف إلا من قياس وضع الأجرام ولا يدرك إلا من حركتها.
إلى هذا وحده أعزو السبب في تسليم أبي العلاء بأن الخالق حكيم، وإليه أعزو نكرانه بأنه بلا زمان ولا مكان، فإذا أضفت إلى ذلك قول المناطقة بأن العلة الكاملة يجب أن يوجد معها معلولها عرفت كيف أن أبا العلاء إنما يستند في قوله هذا إلى المنطق، فإذا قيل بأن الله - سبحانه وتعالى - بلا زمان اقتضى ذلك القول بأن معلوله؛ أي الكون لا بد له من إحدى حالتين: فإما أنه قديم، وإما أنه حادث، فإذا كان قديما قيل لك بأنه مشارك للعلة في عدم الحد بالزمان، وإذا كان حادثا قيل لك بأن علته كانت ناقصة ثم كملت، وهكذا دواليك تدخل في بحث لن تعرف له من نهاية، إذا ما أردت أن تذهب في بحث أبي العلاء من ناحية معتقده في الله لأبعد من قولك بأنه كان لاأدريا في المجردات والنظر الغيبي، حسيا لدى نطره في نظام الطبيعة، لا يرضى عن حقيقة إلا إذا قاسها على حالات جسمه الطبيعية وإلا إذا أتته من طريق الحواس أو إذا وافق القول بها ألفة عقله، والدلائل على شك أبي العلاء في التقاليد كثيرة، نكتفي منها بقوله:
جائز أن يكون آدم هذا
قبله آدم إثر آدم
وقوله:
قال قوم ولا أدين بما قا
لوه أن ابن آدم كابن عرس
جهل الناس ما أبوه على الد
هر ولكنه مسمى بحرس
في حديث رواه قوم لقوم
رهن طرس مستنسخ بعد طرس
وقوله:
يقولون أن الجسم ينقل روحه
إلى غيره حتى يهذبها النقل
فلا تقبلن ما يخبرونك ضلة
إذا لم يؤيد ما أتوك به العقل
بل نذهب في عقيدة أبي العلاء إلى شيء أكبر من هذا، نذهب إلى أنه كان جاحدا للأديان متشككا فيها، أما شعره فيدل على كثير من الشك ومطاوعات اللاأدرية الممسوسة بأثر المرونة الفكرية إلى حد بعد بعيد، ومن طبيعة الشك أن يترواح فيه الإنسان بين شيء ونقيضه، على أنك تجد أنه إن ذكر الدين بخير مرة، فإنه إنما يذكره بذلك الخير ليصارحك من بعد ذلك بجحوده له، وبأنه لا يعتقد أن بارئ الكون ومدبر أمره قد يعنى بالحيوان الناطق عناية من يشفع إليه بالرسول تلو الرسول ليهديه الصراط السوي، لهذا يتلخص ما نريد أن نقول في عقيدة أبي العلاء في أنه كان جاحدا للأديان معتقدا بالله اعتقادا ينزل إلى نموذج مستمد من أحط ناحية من نواحي الطبيعة البشرية هي ناحية إدراك الحس، ولهذا لا يستطيع أن يتصوره بلا زمان ولا مكان، وإن أردت شواهد على جحوده الأديان فإليك بعض ما قال:
ومتى ركبت إلى الديانة غالها
فكر على حسن الضمير دسائس
والعقل يعجب والشرائع كلها
خبر يقلد لم يقسه قائس
متمجسون ومسلمون ومعشر
متنصرون وهائدون رسائس
وبيوت نيران تزار تعبدا
ومساجد معمورة وكنائس
والصابئون يعظمون كواكبا
وطباع كل في الشرور حبائس
فهو إذن يقول بأن الشرائع تقليد، وهو بقوله هذا إنما يفسر حقيقة تلك الفكرات التي تدس على حسن ضميره؛ أي على وراثته التقليدية التي يحاول دائما أن يرضيها إذا ما فكر في أمور الدين، وهو يقول بأن المجوس والمسلمين والنصارى واليهود والصابئين لم تهذب أديانهم من نفوسهم ولم تزك من طبيعتهم، ولذلك تراهم في الشرور سواء، وأنهم شرع في حكم الطبع البشري الرسيس في الدنايا، وتلك آية من آيات جحوده للأديان، فإذا كان الدين شرع للهداية ثم عجز في رأي أبي العلاء عن تأدية وظيفته، وأن الناس بعد اتباعهم مراسيم الشرائع لا يزال طبع البشر غالبا فيهم! فعلام الدين وعلام الشرائع؟ وعلى أي شيء يبقى العقل من كل هذا ؟ ثم ارجع إلى قوله:
إن هللت أفواهكم فقلوبكم
ونفوسكم دون الحقوق مهلله
آليت ما توراتكم بمنيرة
أن ألفيت فيه الكميت محلله
لا تأمنوا برق الغمام فإنما
تلك السيوف من القضاء مسلله
قال افتكار في الحوادث صادق
جعل الصعاب من الحذار مذلله
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
ويهود حارت والمجوس مضلله
وعلى هذا يكون:
اثنان أهل الأرض؛ ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل له
هنا يتجلى لك أن أبا العلاء كان كما يقول المتأخرون «ديئست» وهذا معتقدنا فيه؛ أي أنه كان جاحدا للأديان معتقدا بالله، فعنده أن أهل الأرض اثنان أولهما ذو عقل لا يسلم عقله بأن معلولا يمكن أن يوجد بلا علة، ولذا فهو يعتقد بالله؛ أي بعلة العلل وبارئ الأشياء، وآخر ذو دين يجمع بين المتناقضات - في رأي أبي العلاء - ولذا يكون بلا عقل. ثم عد إلى قوله:
دين وكفر وأنباء تقص وفر
قان ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها
فهل تفرد يوما بالهدى جيل
فالدين والكفر والنزاع فيهما والأنباء التي تقصها كتب التنزيل عن الأولين والفرقان والتوراة والإنجيل إنما هي في نظره أباطيل يدان بها، وأنه لم يتفرد جيل واحد من أجيال الإنسانية بالهدى الذي يراه أبو العلاء، وما هو ذلك الهدى؟ هو ترك التقاليد الدينية التي لم يقسها ولم يفندها عقل مستقل، ثم معرفة الله - سبحانه وتعالى - كل إنسان بقدر ما تحتمل عقليته، وإلا فلو اتبع جيل هدى جيل غيره لأصبح بمقتضى تنافر وجهات النظر من الأباطيل كما يقتضي تسلسل الفكرة عند أبي العلاء. ويقول:
إله قادر وعبيد سوء
وجبر في المذاهب واعتزال
وبالكذب انسرى وضح وليل
ولم تزل الخطوب ولا تزال
ولولا حاجة في الذئب تدعو
لصيد الوحش ما اقتنص الغزال
فهو بذلك يعتقد في إله قادر برأ الأشياء وبرأ عبيد سوء ذهبوا إلى جبر واختيار في المذاهب واعتزال، ولا يدلك على فكرته في ذلك مثل قوله:
إن كان من فعل الكبائر مجبرا
فعقابه ظلم على من يفعل
والله إذ خلق المعادن عالم
أن الحداد البيض منها تجعل
سفك الدماء بها رجال أعصموا
بالخيل تلجم بالحديد وتنعل
لا تمس نار في الضمير فراشة
فضغائن الصدر الحريق المشعل
هو إذن ممن يقولون بالاختيار في أفعال الإنسان، وهو إذن يعتقد بأن الله لا يريد الشر وإن كان يعلمه، وأن فعل الشر على ذلك من اختيار الإنسان ومن نتاج شهواته وانفعالاته، بل ومن مخترعات عقله، فالله عندما خلق المعادن كان يعلم أن السيوف المهنده الباترة تصنع من صنف منها، ولكن من الذي سفك الدماء بها؟ سفكها بها رجال اعتصموا بظهور الخيل المطهمة وألجموها الحديد ليردوا جماحها ويسيروها حسب إرادتهم.
يعتقد أبو العلاء أن الله خير محض لن يأمر بفعل الشر؛ لأن الخير المحض لا يصدر عنه إلا خيرا محضا، فكيف يمكن أن يعتقد إنسان ينزه الله - سبحانه وتعالى - بأن تصدر منه إرادة شر ويكون في يقينه بأن الله خير محض مخلصا لنفسه ولضميره مرضيا لألفة عقله؟ الله يعلم الشر أنه شر، ولكنه لا يجعل ارتكابه على إنسان قدرا مقدورا كما يقولون، وإلا لتنافى مع بديهة العقل أن يستحق مرتكب الكبائر عقابا، أو فاعل الخير ثوابا؛ لأن الإنسان في تلك الحال لا يكون إلا آلة مسيرة حسب مشيئة الأقدار لا تستحق من مثوبة ولا عقوبة، بهذه الفكرة يقول أبو العلاء، وعليها يوافقه كثير من متنطسي الباحثين.
ولعله تتاح لنا فرصة أخرى نوفي فيها هذا البحث حقه، ونقارن بين فكرة أبي العلاء الفلسفية وبين فكرة عمر الخيام، فإن ذلك يظهرنا على شيء من طبيعة الفكر الإنساني وكيف تنتقل الفكرات من جيل إلى جيل متدرجة في أشكال من التغيير والتفاوت لا نهاية لتنوع صورها.
برقين 1926
القصد والغاية
في الطبيعة وما بعد الطبيعة
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مسيرك قل لنا في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار؟
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء
سوى هذا الفضاء به تدار؟
وموج ذا المجرة أم فرند
على لجج الدروع له أوار؟
منذ أن ترامى أول شعاع أرسله الفكر فشق في ظلمات القرون الأولى للفلسفة طريقا إلى خفايا العالم المجهول، تساءل الإنسان: لماذا خلق العالم؟ وأية غاية سبقت في حكم القدر ليخرج هذا الكون قائما على ما نرى فيه من نظام؟ إن أردت أن تقع على جواب ينقع غلتك ويرأب بقوة أدلته ما تصدع من يقينك، فأجب: لا أدري؟ كن لاأدريا إزاء هذا اللغز الوعر ولا تحفل بما ينقل إليك من التقاليد، أما إذا سئلت: أهنالك من قصد في خلق العالم؟ وهل من غاية لأجلها خلق الإنسان؟ فأجب إجابة الأدريين، وقل: نعم، لا بد أن يكون من وراء هذا النظام الشامل قصد كامن وغاية مخبوءة لا أعرف من ماهيتها شيئا؛ فإن هذا النظام إذ يدل على قوة تدبره على مقتضى الحكمة، فلا بد من أن تكمن وراء ظواهره غاية هو سائر في نظامه نحوها، متجه بكل ما فيه من النشوء والارتقاء إلى بلوغ سمتها القصي والانتهاء عند ذروتها العليا.
انقسم الناس منذ أن بزغ فجر الفلسفة في بلاد اليونان، التي وصل إلينا من آثارها العقلية ما نعتبره أكبر ميراث ورثه العقل البشري عن القرون الأولى، إلى فريقين: فمنهم من قال بأن وراء النظام الظاهر قوة تدبره بحكمتها وتحوطه بعنايتها، وأن هذه القوة لا بد من أن تسير بالعالم إلى قصد وتسوقه إلى غاية، نستدل عليهما بما هو مبثوث في أطراف هذا العالم من نظام لا ينتابه خلل، ولا نلحظ في نواحيه من شيء لا يدل على أن له موجدا، ويقول هؤلاء: إن الإنسان إنما يقيس حالات العالم الخارجي على حالات نفسه، فكما أن الشبح المنعكس من عدسة زجاجية على حائط ليس سوى صورة مكبرة من ذلك الشبح الكائن في العدسة، كذلك النظريات الخاصة بهذا العالم، كما يقول العلامة كروزيار: ليست سوى صورة مكبرة من نظريات العقل الإنساني تسبك عادة على نماذج تستمد من تجاريبنا الذاتية، وعلى هذا لا يستطيع أن يكون في العالم فكرة منطقية على حقيقته المطلقة، غير مقيدة بحدود العقل والذاتية البشرية، هذا مثال الأول.
ومن الفلاسفة من يقول بأن هذا العالم قد صدر عن العماء الصرف على الرغم مما يظهر فيه من نظام، وأن القصد في العالم غير بين، والغاية لا يمكن أن تدرك من بضعة نظم يسير العالم على مقتضاها، ولا يمكن للعلم أن يدرك منها شيئا بطرقه الموضوعة، إلا من طريق الحس الإنساني، ولما كان العلم لا يعتمد إلا على الحواس وحدها، ولما كانت الحواس لا تنقل إلى العقل سوى تجاريب لا تدل طبيعتها على أن في خلق العالم قصدا، أو أن في خلق الإنسان غاية، فلن نستطيع أن نسلم بقصد وغاية تكمنان وراء الظواهر إلا إذا ثبت لنا ذلك من طريق الحواس، إن العالم كتلة موات من المادة والحركة، وإن الحياة والفكر وكل خصائص الإنسان ليست سوى أعراض مختلفة لتفاعل المادة والقوة التي تحرك دقائقها، وهذا مثال الفريق الثاني.
كل فريق من هذين الفريقين بما لديه فرح فخور، فمن أي الفريقين تريد أن تكون؟ تابعني قليلا ونقل معي خطاك في بحث قصير يمكنك أن تكون لنفسك من بعده فكرة مستقلة، إذا عنيت بعض العناية بتفهم الحقائق التي يقوم عليها.
خلق العقل الإنساني مقسورا على أن يعتقد ببضعة حقائق أولية لا يمكن بدونها أن تحتفظ بألفته التي ينحصر فيها كل معنى من المعاني التي تفضله عن بقية الخلق الأدني منه في الطبيعة نسبا وأحط مكانة، لهذا ترى الناس منصرفين في حياتهم وهم على شعور تام بأنهم يملكون شيئا يكمن بين جوانحهم يسمونه القوة المدركة، وأنهم يحوزون شيئا آخر يدعونه حس الجمال والموسيقى والشعر، وأن هذه الضروب المتنوعة من الحس الكامن إنما تظهر لهم كأشياء أولية ظاهرة بجانب ذلك الشيء الغامض المبهم الذي يسمونه الإرادة الخفية التي لا يستطيع إنسان اكتملت ألفة عقله أن يمضي معتقدا بأن ليس لها وجود حقيقي، لهذا نسوق مباحثنا لنخلص منها بنتيجة تظهرنا على أن القصد والغاية تكمنان وراء كل الظواهر الطبيعية.
ينكر الماديون أن للإرادة وجودا حقيقيا، ولماذا؟ لأنهم إن سلموا أن للإرادة وجودا حقيقيا لما استطاعوا أن يخلصوا مطلقا من النتائج التي تترتب على هذا القول، ولما أمكنهم أن يخرجوا من قولهم هذا إلا معتقدين مع الإلهيين بأن للعالم خالقا مدبرا حكيما تبدو إرادته، وتظهر حكمته جلية في نواحي الكون، ولذا تراهم يقولون بأن الإرادة ليست إلا عرضا لاهتزاز دقائق المخ المادية، على الضد مما يقول به المثبتون للقصد من خلق العالم إذ يمضون معتقدين بأن الإرادة ليست إلا الانتقال من حركة عقلية إلى فعل طبيعي، فإذا أردت أن تمشي مثلا فإنك إنما تنفذ حركة المشي إذ تقوم في عقلك إرادة تحملك رغما منك على أن تتبع هواها.
من هذا ندرك أن الماديين والإلهيين يختلفون من حيث الاعتقاد في السببية الصحيحة التي تقوم عليها الإرادة، يقول الأولون: إن السبب الحقيقي في الإرادة ينحصر في اهتزاز دقائق المخ المادية التي تنتج كل الصفات العقلية، ويقول الإلهيون: إن الإرادة عبارة عن خاصية من الخاصيات التي يتصف بها العقل الإنساني ، ولذا فهي لا تعود إلى سبب منه تستمد، وإنما لها وجود حقيقي قائم بذاته.
فإذا تابعنا الماديين وأنكرنا أن للإرادة وجودا حقيقيا، وأنها ليست سوى عرض من أعراض السببية الحقيقة التي هي عند الماديين عبارة عن اهتزاز دقائق المخ المادية، لم يحل بيننا وبين إنكار كل الخاصيات العقلية الأخرى حائل، وعلى نفس الدلائل التي ينكر بها الماديون الوجود الحقيقي للإرادة نستطيع أن ننكر كل الخصائص والقوى والمدركات الإنسانية الأخرى، نستطيع أن ننكر وجود الجمال والموسيقى، بل لا نقف عند هذا وحده، فنمضي من ثم إلى إنكار أن هنالك فرقا حقيقيا بين منازع الفكر والعواطف، ونقضي من هذه السبيل على الفضائل ومضاداتها من الرذائل، على اعتبار أن هذه الأشياء ليس لها من وجود حقيقي، بل نقضي على كل قضايا العقل الإنساني ولا نترك من ورائنا بعد هذا في الحياة البشرية برمتها من شيء يستحق أن يكون له قيمة صحيحة اللهم إلا كتلة مواتا من المادة والحركة.
إلى هذا المزلق الوعر يسوقك الماديون، يسوقونك أمامهم سعيا إلى حيث تفقد ألفة عقلك، وتقف حائرا أمام ما تحس به بين جوانحك إحساسا صحيحا.
تناجي نفسك، إني خلقت مقسورا على أن أعتقد أن دقائق المادة تتجاذب وتتدافع لأني إذا أردت أن أكسر حجرا، وكذلك إذا أردت أن أضغطه، فإن جواهره ودقائقه تقاوم إرادتي في كلتا الحالتين، ذلك في حين أني لا أدرك كيف أن دقيقتين من المادة تتجاذبان في حين أنهما تتدافعان، وكذلك أعتقد أن في الفضاء أثيرا يحمل إلى شبكية عيني الضوء، وينقل إلى صماخ أذني مختلف الأصوات، في حين أني لم أر الأثير ولم أتناوله بتجربة تثبت وجوده من طريق الحواس. إرضاء لطرائق العلم، يهمس في روعك وحي العقل بأن لا تعتقد بغير هذا وإن امتنع عليك حسيا إدراكه؛ يهمس في روعك بأن للعالم المادي المحيط بك وجودا حقيقيا على الرغم من أن الفلاسفة قد ينكرون وجوده كحقيقة ثابتة، وعلى هذا تتدرج من الاعتقاد بالعالم الخارجي، إلى الاعتقاد بعالمك الكائن في تضاعيف فطرتك ، تعتقد بأن هناك فرقا حقيقيا بين الفضيلة والرذيلة، وبين سمو المدارك الروحانية وبين إسفاف النزعات السفلى، تدرك أن الأنانية وحب الذات شر، وأن الغيرية وإنكار الذات خير؛ وعلى الجملة تدرك أن هنالك فروقا كائنة في عالم العقل بين منازل الفكر والعواطف.
بذلك تناجيك نفسك ويهمس في روعك عقلك، فإذا رجعت إلى الماديين وألفيتهم يرجعون بهذه المعاني جماعها بلا تفريق بينها إلى اهتزازات دقائق غير مختلفة بعضها عن بعض أي اختلاف ما، ولا تدرك من تلك الفروق شيئا مطلقا، فلا يصبح من شيء هو أثبت في يقينك من الاعتقاد بأنهم إنما يلزمون أنفسهم الحجة بحكم المنطق بأن هذه المعاني لا يختلف بعضها عن بعض اختلافا حقيقيا.
ثم ارجع بعد هذا ثانية إلى الإرادة؛ فإنك تجد نفسك مقسورا على الاعتقاد بوجود حقيقي لها على الرغم من معتقد الماديين بأنها ليست سوى عرض يلازم اهتزازات دقائق المخ المادية، فإذا اعتقدت بهذا وشعرت بأن ألفة عقلك تتطلب منك سببا يعود إليه نظام العالم المادي، وإذا كان كل ما في مستطاع اختبارك أن يصل من علم بالسبب الأول والعلة الأولى ينحصر في الفعل العقلي لإرادتك، التي هي رغم مزاعم الماديين عبارة عن الانتقال من الحركة العقلية إلى الفعل المادي؛ أصبح من المحتوم، مادمت قد قسرت على فطرتك التي فطرت عليها، أن ترجع بمقتضى ألفة عقلك ومقتضيات تكوينه وخصائصه إلى الاعتقاد بأن هذا الكون معلول لإرادة عاقلة؛ أي إلى خالق، وليس لك أن تبحث بعد ذلك في أن لهذه الإرادة العاقلة التي تدبر العالم وجودا حقيقيا يثبته العلم من طريق الحواس؛ كما أنه ليس لك أن تبحث من طريق العلم المعتمد على الحواس الكائنة فيك؛ ولا تخرج عن حيزك، عن دليل يثبت لك وجود العالم المادي، أو يظهر لك كيف تتجاذب دقائق المادة وتتدافع! وإنما كل ما تدرك وتعلم أنك جبلت على ألا تستطيع أن ترد على عقلك ألفته، وأن تحتفظ بنظامه الذي خلقت مقسورا على الاعتقاد بصحة ما يوحي إليك به، إلا إذا مضيت مؤمنا بوجود خالق ذي إرادة حرة يدبر العالم على مقتضى الحكمة البالغة من سمو المعاني مبلغا لن تدركه قواك البشرية المحدودة.
نعود بعد هذا ونكرر ثانية أن الإنسان مقسور على أن يقيس حالات العالم المحيط به على حالات نفسه، وأنه لا يستطيع أن يدرك علة العالم إدراكا صحيحا كاملا، وإنما كل ما في مستطاعه محصور في أن يدرك أن للعالم إرادة تدبره كما تدبر إرادته حركاته وأفعاله في الحياة.
وما دمنا قد سلمنا بأن للعقل ألفة ونظاما، وما دامت الإرادة خاصية من خصائص العقل، فيترتب على هذا أن حكمة القصد في الأعمال الإرادية لا تصدر إلا عن عقل اكتملت ألفته، ولا ترجع في مصدرها إلا إلى ألفة العقل، أما العقل الذي اكتملت ألفته فتصدر عنه إرادات تسير الأشياء على مقتضى الحكمة.
وبحسب ما يكون في العقل من ألفة ونظام تكون نسبة الأفعال قربا أو بعدا عن مقتضى الحكمة المدركة بقدر الطاقة البشرية، وعلى هذا النهج تقاس دائما إرادة القوة المدبرة للكون، كما أن تسلسل الفكرة على هذه السبيل يقتضي أن نعتقد بأن القصد والغاية أمران لن ينفك عنهما عقل اكتملت ألفته.
غير أن هذه الفكرات في مجموعها لا تسلم، كما يقول أبو العلاء المعري من خطرات تدس على حسن الضمير وعلى ألفة العقل نفسه، تحيط بك هذه الفكرات وتتساورك منتزعة منك قوة اليقين لتلقيك في غمرات الشك والحيرة إذا ما أزمعت أن تفكر في القصد والغاية التي من أجلها خلق الإنسان؟ وغالبا ما يفكر الإنسان في هذا مقسورا عليه بمقتضى طبعه مدفوعا إليه بحكم غرائزه، وإنا لا ننكر أن وقوف الفكر إزاء هذه الأشياء وأمثالها موقف اللاأدرية الصرفة أسلم سبيلا، وآمن عاقبة من أن يمضي في التأمل منها فتكتسحه إلى حيث المهواة السحيقة يتردى فيها إلى أعماق الجحود والإلحاد، غير أنك إن أمكنك أن تنصرف عن التفكير في القصد والغاية التي من أجلها خلق كل شيء فكيف تستطيع أن تخلص من التفكير في القصد والغاية التي من أجلها خلقت أنت الكائن المفكر المعتقد في صحة عدد من الحقائق التي تحوطك بنتائجها، وعلى الأخص إذا اعتقدت وكنت في ذلك محقا، أن فكرك الخفي وخطرات نفسك القصية هي أعظم دليل يقوم عندك على وجودك في وسط عالم لن تبلغ فيه إلى نهاية تفكيرا أو عملا!
يخرج الإنسان إلى هذا العالم جرثومة حية ينبذها القدر نبذا فلا تلبث أن تكتمل بشرا سويا، ثم لا يلبث أن يذهب به الفناء منحدرا به من جوف الأزل البعيد إلى جوف الأبد اللامتناهي، تفكر فلا تعرف من أين أتى ولا إلى أين ذهب، وأنت كما تأملت من هذه الحالات لا تجد في العالم كله من سلوى تسليك عن التفكير في نشأتك ومنقلبك بعد الموت، إلا متاعب في الحياة لن تستطيع أن تقطع من عمرك مرحلة، طالت أم قصرت، من غير أن تعتقد أنه كان من الحكمة أن تظل حيث كنت قبل أن تولد، مكفيا هموم الحياة الدنيا بعيدا عن أحزانها.
علام كل ما في هذه الحياة؟ علام الحب والبغض؟ علام الألم واللذة؟ علام العسر واليسر؟ ولأي شيء وضع لكل شيء نقيضه ونصب لكل أمر ضده؟ ولأي شيء خلق كل شيء؟ ولأية حكمة سبقت مشيئة الغيب أن يكون الأمل في نفسك أعرق أصلا من اليأس في الحياة؟ تقول الفلسفة الحقة: لا أدري، وكفى بلا أدري للفكر عاقلا عن الانبعاث مع التأمل في فلوات مجدبة لا تبلغ منها إلى نهاية.
غير أنك إذا تركت الفلسفة ورجعت بعدها إلى مباحث العلوم الحديثة وقعت فيها على شعاع يضيء سناه بعض ما يكتنف هذه الحياة من ظلام تشتد حلكته من حولك، كلما تأملت في حالات حياتك والقصد منها.
وضع الفلاسفة في كل الأجيال أمثالا من فضائل الأخلاق تحتذيها النفس المهذبة لتكمل بها ناسوتيتها العليا، من هذه الأمثال إنكار الذات والغيرية، وهي فضائل تظهر واضحة في سلوك الأفراد إزاء بعضهم البعض وإزاء المجموع الذي هم تابعون له وللهيئة الراعية التي تقوم عليها صوالحهم في الحياة، غير أن اتباع ما تقتضي به هذه الفضائل في الاجتماع الإنساني أمر اختياري قد تفعله أو لا تفعله مختارا غير مجبر، هذا على الرغم من أن للعقل والآداب في كلتا الحالتين حكما يختلف باختلاف الظروف، ولكن العلم الحديث قد أثبت في أواسط القرن التاسع عشر أن الإنسان وكل الحيوانات العليا مقسورون على ضرب من الغيرية أثر الجبر فيه ثابت لا يتبدل، وأثر الاختيار فيه معدوم البتة.
إذا تصفحت الأساطير التي تضمنتها مجلدات التاريخ الطبيعي في القرون الوسطى حتى أوائل القرن التاسع عشر، لما وقعت على شيء يمكن أن يدل من طريق علمي على أن هنالك من قصد في خلق الحياة فوق هذه الأرض، بل إنك لم تكن لتستطيع أن تفقه لأي الأسباب وضع نظام الأحياء في سلم من الارتقاء كان يظهر لأعين الباحثين جليا واضحا، وإن عجزوا عن تعليل السبب فيه قرونا، حتى قام العلامة شارلز داروين ووضع نظريته في الانتخاب الطبيعي في أواسط القرن الفارط.
لقد كان لهذه النظرية، نظرية النشوء والارتقاء بالانتخاب الطبيعي وحفظ الصفوف الغالبة في التناحر على البقاء، من الأثر في كل فروع العلوم الحديثة ما لا يمكن أن تبلغ منه بفكرة صحيحة حتى تقف على تاريخ تقدم العلوم وتطور الفكرة فيها منذ ظهر العلامة كاسبار فردريك وولف الجرماني 1759 حتى ظهور كتاب أصل الأنواع 1859، وما ترتب على ذيوع نظرية العلامة داروين من الآثار الجلى على أنه مهما كان لهذه النظرية الفذة من أثر في العلوم الحديثة، فإني أعتقد، وأعتقد بحق، أن آثارها في المباحث الفلسفية لا تقل عن أثرها في العلوم، واعتقد فوق هذا أنه ما من شيء في هذه النظرية أبعد مدى في التأثير على العقل الإنساني من ناحية فلسفية صرفة في إثبات القصد في علاقة بعض الأحياء ببعض، ذلك القصد الذي يبدو واضحا دالا على أن نظام الكون الطبيعي الثابت الراجع في أصل منشئه إلى فعل إرادة مدبرة يكمن قصدها وتختفي غايتها وراء الظواهر إنما هو نظام شامل لا ينفلت عن قطره شيء حتى الأحياء العليا والدنيا بما فيها الإنسان ذاته.
لقد كان لمباحث داروين في علم الحياة أثر قلب الفكرة القديمة في نظام الأحياء المرفولوجي «أي الخاص بالصورة والتركيب»، فإن علماء الحيوان والباحثين في التاريخ الطبيعي كانوا يعتقدون أن اللون وحسن الصورة وجمال التركيب وما إلى هذه الأشياء التي كانوا يقفون عليها لدى بحثهم صور الحيوانات التي يتناولونها بالوصف، ولا يعلقون عليها بشيء مما يمكن استقراؤه فيها من عظات الطبيعة البالغة، ليست سوى أشياء لم تتصف بها الصور الحية إلا إرضاء لحس الجمال، أو إقناع شهوة الالتذاذ والمتعة بها في الإنسان، وكان اعتقادهم أن الخالق لم يحدث في الأحياء كل صور الجمال، إلا ليرضي الحيوان الناطق المدرك لحقيقة شيء لا يدركه الحيوان الصامت، وعلى هذا الاعتقاد ظلوا عاكفين طوال قرون عديدة. على أن فكرة القصد الفلسفية مصبوبة في هذا القالب لم تستمكن من عقول الباحثين في علم وظائف الأعضاء والتشريح استمكانا ينزل منزلة العقائد العلمية الأخرى.
على أنه كان من المألوف في القرون الوسطى حتى أواخر القرن الثامن عشر أن يعكف بعض الباحثين على التأمل من حالات غامضة مبهمة تتناول مسألة المكافأة بين المخلوقات بعضها نحو بعض، وبينها وبين البيئة التي تعيش مكتنفة بآثارها، وظلت هذه الفكرة السامية تساورها الشكوك والريب حتى وضع داروين نظريته المعروفة في النشوء والارتقاء، فطبقها من بعده الباحثون على فكرة القصد في نظام الطبيعة تطبيقا مقتطعا من حالات اتخذت فيها الحيوانات الراقية في سلم المراتب الحيوانية أمثالا تؤيدها، فإن نظرية داروين تقوم على معتقد بسيط ثابت في أن كل عضو أو جزءا من عضو، وأن كل الخصائص الظاهرة والباطنة في العضويات، لا بد من أن تعود بالنفع إما على ذلك الكائن بالذات، وإما أنها كانت ذات فائدة لسلف من أسلافه الغابرين، وأنه ما من خاصية من الخصائص العديدة والغرائز المختلفة في طبائع العضويات قد استحدث فيها لمجرد النفع أو إرضاء لشهوة الجمال واللهو في كائنات أخر غيرها، وعلى مقتضى ناموس الانتخاب الطبيعي يكون السبب في وجود التراكيب المختلفة في الكائنات راجع إما لأنها مفيدة لها ولذلك تنتخب للبقاء ثابتة في تضاعيفها؛ وإما لأنها كانت مفيدة لأسلافها ولذلك انتقلت موروثة في الأعقاب.
هذه الفكرة الأولية في تطبيق نظرية القصد الفلسفية على الكائنات الحية وعلى الطبيعة استتباعا، مضافا إليها فكرة أن الكون آخذ في النشوء ضارب في الارتقاء بقسط وافر، تزيح عن العقول بعض ما كان يكتنفها من ظلام لدى التفكير في القصد من الخلق وفي الحياة برمتها وفي الموت الذي يتلو الحياة ذاهبا بالأحياء في طريق واحد، فإذا ثبت أن ذلك الطريق يسلم إلى الخلود، فهنالك تحل مشكلة القصد في الطبيعة حلا نهائيا، وإذا ثبت أن ذلك الطريق يسلم إلى الفناء الصرف، ظلت تلك الغيامة الكثيفة تظلل العقل الإنساني أزمانا لا نقدرها.
برقين 1926
أحمد شوقي
ودلالة شعره على نفسيته
1 «محمود جاسر»
ليس بنا من حاجة لأن نستوحي آلهة الشعر، وأن نقدم لها القرابين والتضحيات لتتدلى من سماء الأولمب الأعلى، وتهبط إلى حضيض هذا العالم تاركة جو ذلك الخيال الشعري إلى مادية هذه الدنيا المعكوسة الصور المنحوسة في المبتدأ والخبر، والتي لا يمكن أن يميز فيها بين المؤثر والأثر إلا بكد الأفهام والعقول، لتهمس في آذاننا همسة جافة إذا ما أردنا أن نستدر علمها بشاعرية شوقي قائلة فيه من رقة ابن هانئ، ومن حكمة زهير، ومن خلاعة أبي نواس أقدار متخالطة وحلقات متشابكة، فبأية من هذه الصفات رميت أصبت ناحية من نواحي شوقي، فإذا رميت بها جملة أصبته في مجموع كيانه.
ولأية حاجة نستوحي آلهة الشعر، أو أن نجهد النفس في الاستعلاء في سماء ذلك الأولمب، أو أن نبتهل ضارعين إلى الآلهة ليهبطوا إلى عالمنا الأرضي لنستجدي منهم العلم، وشاعرنا شوقي من أعرق أهل هذه الدنيا بها صلة، وأقربهم لها نسبا وأشدهم بها لحمة، شاعر هو أكبر شعراء العالم العربي في هذا العصر، تفرد بإمارة الشعر فهو أميرها غير الموروث حتى الآن في إمارته، وسيد دولة البيان الحاكم فيها بأمره، المنزه عن الشبائه أن يكون له فيها شبيه، غير أنه على الرغم من كل هذا شاعر أرضي الشاعرية دنيوي الخيال، لم ينزع إلى المثاليات إلا لحاجة يقضيها في السياسة أو مأرب يناله في الدولة، فمدح من غير حاجة به إلى المديح، واستجدى به من غير حاجة إلى الاستجداء، وأية شاعرية لم تفسدها السياسة؟ وأي خيال طمت عليه مآرب الدولات المتراوحة حظوظها بين هبات القدر ولم ينزل إلى حضيض الشهوات؟ ومن ذا من الشعراء من عالج في شعره السياسة وسلم من سقطات الوهم؟ ومن ذا منهم من أخذت بأطوافه مآرب الحكم وأفلت من كبوات الهم والضجر؟
على مقربة من شوقي وبين جنبات الشرق شاعر آخر، نبت في تلك البلاد الفسيحة التي كانت عندما غزاها الآريون لأول مرة في تاريخ الدنيا رحابا متسعة مترامية الأطراف تكسوها غابات، لم يلبث الغزاة أن انتفعوا بها وجنوا ثمراتها، فاتخذوا منها ملجأ يتقون به حرارة الشمس المحرقة وهجمات الرياح الاستوائية القاتلة، كما وجدوا فيها مرتعا خصيبا لماشيتهم، ونارا يوقدونها للتوسل وتقديم التضحيات، ومواد يبتنون بها القرى والأكواخ؛ لهذا كانت المدنية التي غرس بذورها الفاتحون وليدة تلك الغابات القديمة وبين جنباتها الرحيبة أينعت وآتت أكلها. وفي صميم هذه البيئة وذلك الوسط الطبيعي تلونت المدنية بلون خاص وطبعت بطابع وحده، ولقد حوطت تلك المدنية بحياة الطبيعة الرحبة وتغذت بلبانها واتشحت بردائها، فكان لها بمختلف مظاهرها وتباين نواحيها أكبر علاقة وأمتن آصرة، وفي هذه البيئة نشأ الشاعر السماوي، شاعر الوجدان والخلود، شاعر الفناء في اللانهاية، شاعر النسك والزهادة، هنالك نشأ طاغور.
ولو أنك حاولت أن تقارن بين الشاعرين أو أن تقف موقف الوساطة بينهما لأعوزتك الحيلة للتوفيق، ولأعيتك الحيل أن تجد بينهما وجها من المشابهة في أية ناحية من نواحي شاعريتهما. وكيف يكون موقف من يريد التوفيق بين شاعرية تفيض بوحي الآلهة، وأخرى تفيض بوحي الملوك والأمراء؟ وكيف يستطاع التوسط بين خيال يستمد موحياته من اللانهاية، وآخر يستمدها من نهايات كلها زائلة، بل كلها أحلام؟ إنما الفرق بين الحالتين كالفرق بين شعاع من نور وقبس من نار.
وبعد فهل أنت تعرف طاغور؟ أما إذا كنت لا تعرفه فاقرأ له وصف نفسه إذ يتمثلها في ثوب ناسك جالس على باب كهف منعزل عن الحياة المدنية، فيقول:
إن تقسيم الليالي والأيام وكذلك الشهور والأعوام لم يصبح من شأني. لقد تعطل عندي مجرى الزمان الذي ترقص فوق أمواجه الدنيا وكأنه الهشيم أو الأغصان اليابسة. في هذا الكهف
2
المظلم أعيش وحدي غارقا في طيات نفسي، والليل الأبدي هادئ لا يتحرك كبحيرة في جبل تفرق من ذات أعماقها القصية. الماء
3
تنضح به الصدوع
4
ومنها يتساقط. وفي بركة الماء الراكد
5
تسبح الضفادع القديمة،
6
إني أجلس أرتل تعويذة اللاشيء. إن أطراف الدنيا تنكش أمامي خطا وراء خط، والنجوم المنحوتة من قطع الزمان المضيئة كأقباس النار تنقرض وتفنى.
أما الافتتان فلي، ذلك الذي يزودني به الإله شيفا، إذ يستيقظ بعد فترات يقضيها في الأحلام ليجد نفسه وحيدا منفردا في فناء اللانهاية.
أنا حر: أنا الواحد العظيم المنفرد بذاتي.
عندما كنت لك عبدا أيتها الطبيعة أثرت بعض أجزاء قلبي ضد بعض وبعثتها في حرب دموية انتحارا في سبيل الدنيا، وسلطت علي الشهوات التي ليس لها من غاية إلا أن يأكل بعضها بعضا، وإنها تلتقم كل ما يسعه فمها، فأمضتني ألما وفرقا. لقد عدوت تائها مجنونا أتبع ظلي! لقد قذفتني بما بعثت علي من وميض لذائذك الخلب إلى خلاء الشهوات. أما ميولي القاسرة - وهي حبائلك وأشراكك - فقد أسلمت بي إلى قحط بغير نهاية، حيث استحال الغذاء ترابا والماء بخارا.
حتى إذا ما صبغت دموع دنياي وأصبحت عندي رمادا؛ أقسمت قسمي لأنتقمن منك ولأصبن عليك غضبي. أنت يا جماع الظواهر الكاذبة المسئمة، يا مبعث الخداع الدائم. لقد احتميت بالظلام سكن اللانهاية، وحاربت أشعة الضوء
7
الخداعة يوما بعد يوم حتى أفقدتها سلاحها، وتركتها هامدة خائرة القوى تحت قدمي.
والآن بعد أن تحررت من المخاوف والشهوات، وبعد أن انكشف عن بصري الضباب، وبعد أن أشعت قوى عقلي بريئة وضاءة، فلأخرجن إلى عالم الكذب والبهتان مرة ثانية، ولأجلسن على ذات قلبه، غير ملموس ولا بمزحزح عن مكاني.
هذا هو طاغور، أما شوقي فلا أظن أنه يغيب عن ذهنك قوله:
صوني جمالك عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني
وهل يغيب عنك وصفه لحادثة في ليلة ساهرة كانت بطلتها غادة ذات مقام رفيع إذ يقول:
قالت لأترابها
مومئة بالعنم
من ذلكن الف
تى العربي العلم
يبيت ليلته
ساكرا لم ينم
قلن تجاهلته؟
ذلك رب القلم
شاعر مصر الذي
إن خفي النجم لم
فهل يمكننا بعد هذا أن نتورط في وساطة بين شاعرين عقد لأحدهما لواء الزعامة في عالم التوحيد، وللآخر لواء الزعامة في عالم الوثنية؟ نربأ بأنفسنا أن نضعها في هذا الموضع، وأن نسومها طلب المحال فتطمع في غير مطمع.
أما المفاضلة فلا نتلكأ فيها، نعقد لشوقي لواء الإمارة في العالم العربي، ونرفع لطاغور لواء الزعامة على كل البقاع التي تكسوها الشمس من كرتنا الأرضية، وكفى الشرق فخرا أن تكون له في بداية القرن العشرين دولة للشعر، يقودها في العالم العربي شوقي، وفي العالم كله طاغور.
قد يعز على الكثيرين من النقاد ألا نجعل شوقي أنبغ من هوميروس في الوصف، وأمتع من دانتي في الرواية، وأعرف من شكسبير بحقائق الحياة الإنسانية، وأمتن من ملن في اللغة، وأعرق من جوتة صلة بالفلسفة، بل قد يعز عليهم ألا نضع شوقي في صف وحده أو ألا نغرسه على قمة هرم نجعل لبناته شعراء الدنيا كلها، ولقد أصبح هذا الزعم عند البعض إيمانا ومعتقدا ثابتا، ولست أدري لماذا؟! ألأن شوقي نسج على منوال القدماء فحاذاهم ولم ينزع إلى غير ما نزعوا إليه من الطرائق؟ أم لأنه أحيا موات الأساليب القديمة، ثم مزجها بقليل من مميزات العصور الحديثة فخرجت أشعاره مزيجا من القديم والحديث، وخليطا من سليقة البداوة وطراوة الحضارة، قد تجد لها أمثالا كثيرة في شعراء الدولة العباسية، وعلى الأخص من خالط منهم الأمراء والمترفين؟ اللهم إنا لا نستطيع أن نجاري المغالين من مغالاتهم، ولا أن نفرط مع المفرطين في المدح فنخرج من شوقي صورة غير موجودة، ونتكلم في شخصية لا حقيقة لها في الخارج.
يقولون : إن شوقي قد أفرغ الشعر في قالب جديد، ويقولون: إنه مجدد في الأساليب تجديده في القوالب الشعرية، ولو إن القائلين بالحقيقة الأولى لم يشوهوها بالزعم الثاني لكان في قولهم كثير من الحق والصواب، على أنه حق ينطبق على كل شاعر من شعراء العصور القديمة والحديثة، فلكل شاعر نزعة تفرغ الشعر في قالب ما، وهذه النزعة راجعة إلى الاستعداد الفطري الذي يكون من الشاعر شاعرا، ومن الكاتب كاتبا، ومن العالم عالما، وإذا كان من المتعذر أن تتماثل النزعات والميول الفطرية، استتبع هذا أن يكون لكل شاعر من الشعراء قدرة خاصة على إفراغ الشعر في قالب قد يقال: إنه جديد، وشوقي لم يعد هذه القاعدة.
أما التجديد في الأساليب فزعم لم يستطع أحد من النقاد إثباته لشوقي حتى الآن، وليس أدل على هذا من أن أفخم قصائده وهي الأندلسية، ونهج البردة، وقصيدة كارنارفون قد نسج فيها على قصائد قديمة؛ نالت في الأدب القديم مكانة جعلت لقصائد شوقي وقعا في النفوس جديدا، وحلاوة تمازجت فيها الذكريات، فمن حنين إلى عظمة القديم، مصبوبة في قالب لا تخرجه إلا شاعرية شوقي وحده، إلى شغف في الإيقاع على أوتار الحديث على صورة ما يصل إليها إلا من هام برقة ابن هانئ واستوقفته روعة زهير.
لقد أجدبت اللغة العربية جدبا نسبيا في ذلك العصر الذي تقدم عصر النهضة الحديثة التي ندعوها غالبا بنهضة محمد على، فإن عصر المماليك لم يكن ذلك العصر الأدبي الذي يصح أن يقال فيه: إن اللغة أو الصناعات الأدبية قد كسبت فيه جديدا مبتكرا، على الرغم من كثرة المؤلفات التي ظهرت خلال ذلك العهد المظلم، فإنها مؤلفات غالب ما عنيت بالفقه وكثر ما أكبت على تدوين التراجم، فإن كتاب صبح الأعشى، وكتاب مسالك الأبصار، وقاموس لسان العرب، وهي من مفاخر ذلك العصر، لا يمكن أن تعد كتب تجديد بالمعنى الصحيح، على الرغم من قيمتها الأدبية كمراجع أو معاجم عظمى، وفي حدسي أن قيمة هذه الكتب وأمثالها مما خرج في عصر المماليك لا تزيد قيمته الآن عن موسوعات إرش وجروبر العظمى، أو معلمة لينيوس في التاريخ الطبيعي، وقيمتها في اللغة العربية كقيمة الموسوعة في الألمانية، أو المعلمة في اللاتينية، إذن فعصر المماليك كان عصر إنتاج، ولكنه لم يكن عصر تجديد أبدا.
على أني أخشى أن يكون حكمي على الحركة الأدبية في عصر النهضة العلوية شبيها بحكمي عليها في عصر المماليك من حيث الشعر، فإنه كان ولا شبهة عصر إنتاج؛ ولكنه ليس بعصر تجديد، إذا أردنا أن ننظر في النهضة من ناحية الشعر وحده، وأغضينا الطرف عن حركة التجديد التي قامت حول الترجمة في ذلك العصر، وهي حركة نعتقد أنها من أثمن ما أخرج محمد علي من الآثار العظمى، كان لنا حكم قد يراه البعض قاسيا، والبعض معتدلا، ففي طوال القرن الماضي لم يظهر في مصر سوى شعراء أربعة البارودي وصبري وشوقي وحافظ، قد يمكن أن نعتبر بحق أنهم الذين يمثلون دولة الشعر فيه، وهم في مجموعهم صور مختلفة ونماذج متباينة من شعراء العصور القديمة، وأكثر ما فيهم من الصفات آثار مستمدة في غالب الأمر من شعراء العصر العباسي، لهذا كان ظهور شوقي في هذا العصر حادثا جديدا لا باعتبار الآثار الابتكارية الخالدة التي بثها في تضاعيف الشعر العربي، بل باعتبار أنه أخصب إخصابا كبيرا بعد عصر طويل كادت تجدب فيه ملكة الشعر في العالم العربي، وفي مصر على الأخص. على أن إخصاب شوقي له نواحيه المتعددة، غير أن أظهر تلك النواحي، وأبين ما فيها من الآثار قدرته الكاملة على الوصف، فهو وصاف ماهر، ومصور يبز الكثيرين من أهل صناعته قديما وحديثا، ففي الشعراء المعاصرين من يبزه في المديح، وليس بقليل منهم من شبب بما لم يبلغ إليه شوقي، ولكن ليس منهم من يستطيع أن يجاريه في مضمار الوصف والتصوير. •••
كنا نود ألا يجري القلم سريعا، وكنا نود أن نبحث شوقي في هوادة وتؤدة، وأن نبحث على الأخص ما يدعيه له الكثير من النقاد إذ يقولون: إنه مبتكر في المعاني والأساليب، والحقيقة أنه لم يبتكر شيئا جديدا، ولم يغن دولة الشعر العربي بطريقة جديدة تضع بين القدماء والمحدثين فاصلا كما فعل هوغو في الشعر الفرنسوي أو بيرون وتنيسون في الشعر الإنجليزي، في حين أنه أقدر شعراء هذا العصر على مثل هذا الابتكار، فإن إلمامه باللغة الفرنسوية وبآداب الفرنسويين كبير حتى إننا نعجب كيف أن قليلا من المعاني التي نظن أنها من ابتكاراته، كقوله في توت عنخ آمون وهو يخاطب الشمس:
تعينين الموالد والمنايا
وتبنين الحياة وتهدمينا
إنما هي مستمدة من الشعر الإنجليزي، ومن خيال شيلي الشاعر المعروف. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى نقص آخر قد نراه أنكى من النقص الأول، فإن أكثر قصائد شوقي المشهورة بين الناس عبارة عن أبيات لا يجمع بينها من شيء إلا أن شوقي نظمها، فالقصيدة عند شوقي عبارة عن حلقات منفصلة غير متصلة، وليست كلا واحدا متلائم النواحي مترابط الأجزاء، وفي استطاعة كل أديب أن يرتب أكثر قصائده ترتيبا جديدا بحيث يمكنك بعده أن تقرأ القصيدة عكسا وطردا من غير أن يلتبس عليك معنى واحد من المعاني التي رمى إليها الشاعر، ومن غير أن يستبهم عليك أنها من صناعة شوقي بل ومن روحه، فالفكرة عند شوقي غير متصلة، بل إن شئت فقل: إن في كل بيت من أبياته فكرة وفي كل منها معنى، غير إن أعجب العجب أن هذه الفكرات وتلك المعاني في مجموعها لا تكون كلا متلائم النواحي متصل الأجزاء، ولست أدري بأي شيء نسمي هذه الظاهرة: أهي نبوغ وعبقرية، أم لازمة من لوازمه، إن لم تكن ضرورية لرفعه فوق مستوى الشعراء، فلا أقل من أن نعتبرها من خاصياته الغريبة.
وأغرب ما في شوقي ضعف الكثير من مطالع قصائده، وأنت إذا أردت أن تحلل مطالع الكثير من نظمه ما استطعت أن تمضي في حكمك عليه كنابغة الشعراء في هذا العصر من غير أن يستوقف نظرك مطالع آية أخرى في الروعة والجلال، على أن الفارق بين ما يروعك جماله وبين ما يروعك قبحه كبير ، لهذا نمضي في هذه المقارنة قليلا لنظهر هذه الصفة إظهارا جليا.
قارن مثلا بين قوله:
قفي يا أخت يوشع خبرينا
أحاديث القرون الغابرينا
وقس ما في هذا المطلع من روعة على قوله:
أبا الهول طال عليك العصر
وبلغت في الأرض أقصى العمر
فيا لذة الدهر لا الدهر شب
ولا أنت جاوزت حد الصغر
فإن ضعف المطلع هنا لا يقاس بجانب ما في هذين البيتين من تناقض غريب لا سبب فيه إلا العجز عن مسايرة مقتضى الحال، فكيف أن أبا الهول قد بلغ في الأرض أقصى العمر، وكيف أنه لم يتجاوز بعد حد الصغر؟
ثم أذكر قوله:
قم ناد أنقرة وقل يهنيك
ملك بنيت على سيوف بنيك
بجانب قوله:
الله أعلم والقبور
النفس تخلد أم تبور
وانظر كيف أنه نسب العلم إلى القبور؟ بل كيف جعل علم القبور مساويا لعلم الله بخلود الأنفس أو بوارها؟
أو قارن قوله:
صداح يا ملك الكنار
ويا أمير البلبل
قد فزت منك بمعبد
ورزقت قرب الموصل
بقوله:
يا ناشر العلم بهذي البلاد
وفقت، نشر العلم مثل الجهاد
أو قوله:
ريم على القاع بين البان والعلم
أفتى بسفك دمي في الأشهر الحرم
بقوله:
سل يلدزا ذات القصور
هل جاءها علم البدور
أو قوله:
يا راكب الريح حيي النيل والهرما
وعظم السفح من سيناء والحرما
بقوله:
الدهر جاءك باسط الأعذار
فأقبل فأمر الدهر للأقدار
أو قوله:
الله أكبر كم في الفتح من عجب
يا خالد الترك جدد خالد العرب
بقوله:
يا بارك الله في عباس من ملك
وبارك الله في عمات عباس
أو قوله:
في الموت ما أعيا وفي أسبابه
كل امرئ رهن بطي كتابه
بقوله:
لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف
على أنك لا تستطيع أن تمضي في هذه المقارنة بعيدا من غير أن تجد أن عدد مطالعه الضعيفة قد أربى كثيرا على عدد ما يستهويك جماله وتستوقفك روعته.
على أن لدينا هنة أخرى لا يجب أن نغض الطرف عنها أو أن نسدل عليها من التفريط سترا، فالحق أن قليلا من قصائد شوقي ما يتسق فيها النفس اتساقا كاملا، وليس لهذه الظاهرة في شعر شوقي من سبب إلا تموج المعاني في مخيلته تموج الأثير في الفضاء، وعدم استقرار مشاعره على صورة واحدة زمنا طويلا، لهذا تجد أن المعنى قد يتسق ويقوى في موضع، ثم لا تلبث أن تجد ذلك البناء، وقد انهار فأصبح حضيضا، فلو أن مشاعر نابغتنا كانت قد أعطيت من قوة الاستمرار ما يتساوى مع قوة اللغة، والقدرة على صبها في تلك القوالب الغريبة، لأخرج لنا شوقي في هذا العصر خير ما خرج من الشعر العربي في كل العصور.
ومن أجل هذا تجد أن لشوقي مقطوعات قصيرة تتخلل قصائده لا يشق له فيها غبار أسلوبا ومعنى، وعندي أن هذه أخص مميزاته، وإني أفضل مقطوعاته هذه على قصائد برمتها من غيره، وإن اتصل فيها النفس وروعي الاتساق أشد مراعاة.
يدلك هذا على أن بين جنبي شوقي روحا ثائرة ونفسا متأججة، ولكنها ثورة أشبه بثورة الرياح إذ تهب فتية هوجاء، ثم لا تلبث أن تمر عليك ناعمة، أو نار الهشيم إذ تتأجج مندلعة الألسن في لحظة، وتصبح رمادا في أخرى، والصناعة بين يدي شوقي إنما تخضع لجماع هذه الصفات الفطرية الطبيعية، فحيث تشتد ثورة نفسه تسمو معانيه وتقوى شاعريته، فإذا خبت نارها هبطت المعاني والشاعرية معا إلى منزلة لم ينزل إليها الكثيرون من شعراء هذا العصر، وحيث تتأجج نفسه بحادث يمس مشاعره تلمس النار سارية بين أبياته بل بين كلماته، فإذا هدأت العاصفة ونامت، طوى عليها وعلى الشعر سترا من ميوعة الفطرة ولين الطبع، ينزل بشعره إلى المستوى الذي لا يحسده عليه الكثيرون من أهل صناعته.
إليك مثلا واحدا تقيس عليه في كثير من قصائد شوقي، بل انظر كيف يكون تأجج العاطفة تفيض بالسحر إذ هي مندلعة الألسن بنيران الأمل الوثاب إلى الغايات والمثل، ثم انظر كيف تنطفئ شعلتها فتموت ويموت معها الشعر.
قال في مطلع قصيدة مشروع ملنر:
اثن عنان القلب واسلم به
من ربرب الرمل ومن سربه
ومن تثني الغيد عن بانه
مرتجة الأرداف عن كثبه
ظباؤه المنكسرات الظبا
يغلبن ذا اللب على لبه
بيض رقاق الحسن في لمحة
من ناعم الدر ومن رطبه
ذوابل النرجس من أصله
يوانع الورد على قضبه
زن على الأرض سماء الدجى
وزدن في الحسن على شهبه
يمشين أسرابا على هينة
مشي القطا الآمن في سربه
من كل وسنان بغير الكرى
تنتبه الآجال من هدبه
جفن تلقى ملكا بابل
غرائب السحر على غربه
على هذا يكون شعر شوقي إذ تلتهب نفسه بالعاطفة، فإذا ما انطفأت ولما ينته من نظم قصيدته، ينزل من هذه السماء العليا إلى قوله:
أمر عليكم أو لكم في غد
ما ساء أو ما سر من غضبه
لا تستقلوه فما دهركم
بحاتم جود ولا كعبه
نسمع الحق ولم نطلع
على قنا الحق ولا قضبه
ينال باللين الفتى بعض ما
يعجز بالشدة عن غصبه
فإن أنستم فليكن أنسكم
في الصبر للدهر وفي عتبه
إلى قوله:
يا رب قيد لا تحبونه
زمانكم لم يتقيد به
ومطلب في الظن مستبعد
كالصبح للناظر في قربه
اليأس لا يجمل من مؤمن
ما دام هذا الغيب في حجبه
شوقي شاعر كثير الألوان متعدد الصور، فله في القومية جولات نكبرها، وفي الدين خطرات يقف الأديب عندها وقفة طويلة، وله في الخلاعة مرقصات كاد يبز فيها أبا نواس، شاعر الخمريات في عصر العباسيين، وله في غير هذه المواقف أشياء لا نعرض لشيء منها الآن حرصا منا على فراغ هذه الصحيفة أن نملأ منه أكثر مما نستحق في هذا الموطن، على أني لست من الذين يقولون: إن لشوقي شخصياته المتعددة، فهل هو في قومياته أبين أثرا منه في خمرياته؟ وهل هو في دينياته أبرز شخصية منه في الوصف؟ أما إذا كانت الطبيعة قد خصت شوقي بشيء من هذا فإنها قد خصته بالقدرة على النواح على المجد الزائل من المدنية الشرقية بعد أن اندك قائمها وغاصت في ثرى الزمان قوائمها، فإنه إن بكى مجد المصريين، أو ناح على مدنية العباسيين، أو رثى دمشق الشام أو طليطلة الأندلس، فإنه إنما يبكي الشرق ممثلا فيما كان له من مجد زال، ومدنية جاءت عليها الأزمان فدالت ودرست آثارها، فهو شاعر الشرق الباكي عليه النائح على مجده القديم في أي لون تكون ذلك الشرق وفي أية ناحية كان، وبأية صبغة اصطبغ.
والحق أن لشوقي في ذلك مواقف كانت قدرته الفطرية على الوصف أكبر عون له على تصوير مشاعره فيها تصويرا كاد يخرج به عن تلك الدائرة التي لم تتسع إلا لغير ما خلق له شوقي، دائرة السياسة مصروفة إلى تلك الفكرة القديمة، فكرة الجلاد بين الشرق والغرب، لا ليكونا متكافئين، بل ليسود أحدهما على الآخر، ولتكون السيادة في الدنيا للأول دون الثاني.
ولم يكن لشوقي من بد وهو مغمور في بحر السياسة اللجي منذ نظم الشعر وهو في صباه، من أن يشيد بذكر الخلافة، وأن يشبب بالاستقلال، تلك أشياء كان مقسورا على أن يجعلها المحور الذي تدور من حوله أشعاره، وهو في هذا إلى ناحية الدعاية السياسية أدنى منه إلى وصف المشاعر التي كانت تنطوي عليها نفسه، وما ظنك بشاعر يشب في بيت محمد علي وتحت كنفه وهذا البيت تابع لدولة الخلافة؟ لم يكن له من بد أن يشيد بذكر الخلافة، وأن ينصرها على أوروبا كلها، حتى إذا هدم ركنها وزالت دولتها أصبحت وأحلام الشاعر القديمة في غلاف واحد من النسيان مطوية مع ذكريات الماضي، لا تستحق رثاء ولا نواحا، وما ظنك بشاعر يشب في كنف عباس الثاني فيجد أميره في صراع دائم مع المحتلين لبلاده وعلى رأسهم سياسي شديد المراس يقود الحكومة، وآخر جندي عنيد يقود الجيش؟ لم يكن له من بد أن يتغنى بالاستقلال والجلاء، خدمة لأغراض السياسة لا خدمة للشعر، ولا إرضاء للشاعرية.
إنما أرضى شوقي شاعريته في تشبيبه بالشرق والشرقيين، وهو في هذه الناحية أصح نزعة منه في كل منازعه الأخرى، فهو بحق شاعر الشرق العربي لغة، وشاعر الشرق كله عاطفة ووجدانا.
أما إذا أردنا أن نستطرد في بحث شوقي بحثا يرضي نزعة العصر الحديث في النقد فإنا لا شك ننبو عما قصدت إليه السياسة الأسبوعية من هذه الأبحاث، لهذا نجمل القول، وجملته أننا أرضينا في هذه الأسطر نزعة العصر الجديد، ولعلنا نكون قد أرضينا شاعرنا الكبير بأن صورناه كما نراه صورة حقة لا خيالا بعيدا عن الحقيقة التي نقدسها ويقدسها هو من قبلنا، والسلام.
مهيار الديلمي
دلالة شعره على نسبيته
لئن كان في الأمثال القائمة اليوم من حولنا في ميدان الأدب ونهضة الثقافة، كما يقولون من مثل يصح أن يدل على شيء من الإفراط في احتذاء الأساليب التي رسمها لنا أدباء القرن الماضي، أو من التفريط في دراسة نبغاء لا تعرف لأي سبب من الأسباب ظلوا مهملين طوال العصور، فإن إغفال اسم مهيار الديلمي لمن أخص تلك الأمثال، وكذلك لا تعرف لأي سبب من الأسباب عكف الأدباء على دراسة بعض شخصيات بائرة، غير أنها على جدبها وبورها خصت في كل عصور الأدب العربي بأقصى ما بذل الأدباء والباحثون من عناية بالبحث والاستقصاء، وهل تجد أن اسم مهيار بين الأدباء والشعراء بأسعد حظا من ابن الرومي؟ وكلاهما شاعر فحل، وكلاهما عبر عن نزعات قامت من حوله ورسم في الشعر الجزل صورا استحالت إليها نفسيته، وما هي إلا صورة الحياة الصحيحة تجلت في أوضاع لغة، كلاهما كان عنها غريبا، وكلاهما استوعبها استيعابا يدل على نبوغ أصيل وعبقرية موروثة؟
لا نعرف من هذا إلا أن في الحياة سرا كامنا يحرك ظواهرها على مقتضى ظروف نعرفها، ولكنا لا نستطيع أن ندرك من مؤثراتها شيئا، لماذا يكون أبو نواس سمر الأدباء في كل عصر، ولماذا يظل المتنبي قبلة المتأدبين في كل آن ولا يذكر اسم مهيار أو اسم ابن الرومي مرة، إلا بعد أن يذكر شعراء أقل منهما في الأدب منزلة، وأدنى منهما في الشعر مكانة كديك الجن وصردر وأبو الشمقمق، ألوفا من المرات؟ السبب في هذا تكاد تلمسه إذا أنت نظرت في الفرق بين شعر تجود به سليقة مستمدة من خيال آري، وآخر تخرجه سليقة تستمد من خيال سامي الأصل، والفرق بين العقل الآري بكل توابعه، مباين جهد المباينة للعقل السامي، فالفرق بينهما جلي في المدنية التي أخرجها كلاهما، كما هو بين في صور الدين والشعر والموسيقى وبقية الفنون، فإن أخص ما يمتاز به العقل الآري حب التنويع والقدرة على الجمع بين المتناقضات، ففي دين فارس الآرية، وفي عصرها الوثني تجد أن الأصل في العالم عنصران عنصر النور، وعنصر الظلام، يمضيان متعاقبين، وأحدهما يمثل الخير والآخر يمثل الشر، في حين أنك لا تجد في الأديان السامية من شيء سوى التوحيد المطلق من كل قيد اللهم إلا فكرة الوحدة الآخذة بأطراف العقل من كل جهاته، وهكذا الحال في الفنون على اختلاف صورها وعلى تشعب مناحيها، تجد أن فكرة الجمال قد اتحدت في العقل الآري بفكرة الألفة اتحادا تاما، في حين أن العقل السامي لم يدرك إلا فكرة الجمال، وعجز عن أن يكون من بين الأجزاء المفردة الجميلة بحق وحدة فيها ألفة تلتئم وما في أجزائها من جمال.
أتخيل أن هذا سبب من أخطر الأسباب التي من أجلها لم يستسغ العقل السامي شعر مهيار ولا شعر ابن الرومي، على أنك لا تقع في ظاهر شعرهما على شيء ينفر منه الأدب أو تأباه الديباجة العربية، ولكن لسبب خفي لا تستطيع أن تقول ما هو؟ غير أنه في غالب الأمر ما ذكرنا من الفرق بين منتجات العقل الآري، ومنتجات العقل السامي، إذ تعكس كلتاهما على النفسيات المختلفة صورا لا نستطيع لدقتها أن نحدد أثرها في الأنفس والعقول تحديدا تاما.
وكذلك الحال إذا نظرت في الفلسفة التي أنتجها العقل الآري، والفلسفة التي أنتجها العقل السامي، فإنك تجد مثلا أن أحط صور الغيبيات التي أنتجها العقل الآري، لا تطاولها أرقى الصور الغيبية التي أنتجها العقل السامي في الفلسفة، وكذلك الحال في العقل السامي، فإن أحط صور التوحيد التي أنتجها العقل السامي لا تطاولها أرقى الصور التي أنتجها العقل الآري في الدين، ولأي من الأسباب لم يعش دين المسيح - عليه السلام - في بيئته السامية الأصلية؟ لأنه بثالوثه المعروف مناف لأوضاع العقل السامي ولخصائصه، بقدر ما هو ملائم لنزعات العقل الآري، لهذا نزح إلى أوربا ليعيش هنالك، في ثنايا العقل التيوتوني المستمد من العقل الآري وراثة ومنزعا. •••
أما شاعرنا الذي نريد أن نتكلم فيه اليوم فهو مهيار بن مرزويه الكاتب الفارسي الديلمي، ومهيار ومرزويه اسمان فارسيان أصيلان في الفارسية عريقان في العجمة، فلا مطعن إذن في نسبته الفارسية لا من ناحية التاريخ، ولا من ناحية النسب.
كان مجوسيا وأسلم، ويقال: إن إسلامه كان علي يد الشريف الرضي أبي الحسن محمد الموسوي، وهو شيخه وعليه تخرج في نظم الشعر، كما يقول مؤرخو الأدباء: وإنه وازن كثيرا من قصائد أستاذه، وتوفي سنة 428 من الهجرة، وأسلم على الحقيق سنة 394ه، فكأنه عاش ستة وخمسين عاما قبل أن يدركه الأجل المحتوم، وعندي أنه لم يسلم إلا بعد أن أدرك من العمر مدى عنده استطاع أن يختار بين الأديان، وأن يوازن بينها ليختار له دينا، كما سترى عندما نتناول قصيدته التي نظمها بعد إسلامه منوها بالكثير من حالاته وخصائص نفسه.
لشعر مهيار ديباجة وحدها، وفيه من متانة التركيب وحسن السبك ما لا تجده في كثير من شعراء عصره الذين انتموا إلى البيئة التي حوته، غير أن طول نفسه في قصائده قد يضيع عليه شيئا من قوة الانسجام وحسن السبك وجمال النسق، ولذا فأنت لا ترى مهيارا في قوة شاعريته الصحيحة بقدر ما تراه في مقاطيعه القصيرة، وهي قليلة قد تبلغ حد الندرة في ديوانه الكبير، ولنأت هنا بمثالين من مقطوعاته، أحدهما في الوصف، والآخر في الفخر لنستدل بهما على أن مهيارا في مقطوعاته لا يدانيه إلا شاعرنا صبري في المحدثين: قال مهيار في وصف النيلوفر:
ساهرة الليل نئوم الضحى
ريانة والأرض تشكو الظما
رائحة في السرب لم تقتنص
ظباؤه إلا بأمر الدجى
ملتئم فوها وإن لم يكن
في شفتيها ما لها من لما
حية ماء ناقع سمها
وناقع سم الأفاعي الصفا
تعطيك منها ألسنا عدة
مجتمعات كلها في لها
وأنت إذا تأملت هذا الوصف وأطلت فيه التأمل وقعت على نزعة مهيار، فهو في وصفه للنيلوفر لم يتناول أخذه بالنفس وجمال زهره أو أريجه أو غير ذلك مما يتناوله شعراء العرب في وصفهم، بل وصف النيلوفر وصف شاعر تغلب في عقله نزعة الاستقراء والاختبار والمشاهدة، وهي نزعة من أخص ما طوى عليه العقل الآري من النزعات، وأما المقطوعة الثانية فيقول فيها مفاخرا:
أعجبت بي بين نادي قومها
أم سعد فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي
فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي نسبا يخفضني
أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى
ومشوا فوق رءوس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهمو
وبنوا أبياتهم بالشهب
وأبي كسرى؛ علا إيوانه
أين في الناس أب مثل أبي
سورة الملك القدامى وعلى
شرف الإسلام لي والأدب
قد قبست الملك عن خير أب
وقبست الدين عن خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه
سؤدد الفرس ودين العرب
وهذا من بالغ الفخر الذي تتجلى فيه نفسية ذلك الشاعر الكبير وعظمته، وهي إن بلغت من الدلالة على عزة نفسه ونزعته القومية وأثر الدين، فإنها لتدل على أنه لم يلجأ إلى المديح إلا مماشاة للروح التي سادت في عصره، تلك الروح التي كان يلجأ إليها الشعراء لجوء الحاجة طورا ومتابعة لقضاء المآرب السياسية طورا آخر، على أن قوم مهيار الذين سادوا الدهر فتى ومشوا فوق رءوس الحقب، لقوم لم يسعد قوم غيرهم بفخر كفخر شاعرهم الأعجمي أرومة، العربي لغة ومنزعا، فأين من هذا قول المتنبي مثلا:
أحارب خيلا من فوراسها الدهر
وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
بل أين منه قول شاعرنا البارودي:
إذا استل منا سيد غرب سيفه
تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
فإن الخيل التي من فوارسها الدهر، والسيوف التي تتفزع الأفلاك إذا ما استلت، ليست بشيء إلا خيال الشاعر العبقري مصوغا في الكلام، ولكن القوم الذين سادوا الدهر، ومشوا فوق رءوس الحقب هم قوم من المستطاع أن تظهر كيف سادوا الدنيا، وبقية العالم في ظلام، وكيف مشوا فوق رءوس الحقب؛ إذ كانوا حتى في زمان المدنية العربية سادة الفكر الإنساني، وهم بعد مغزوة أرضهم، منكسة أعلامهم. •••
الظاهر من شعر مهيار، ومن كثير من حالات حياته أن إسلامه كان صادقا، وأنه أخلص لدينه المنتحل إخلاص أهله لدينهم الوثني القديم، فلست ترى في كل شعره موضعا واحدا يدل على حنينه إلى دين آبائه الأولين، بل ولا خطرة فكر يفيض بها بيت من أبياته بحيث يمكن أن تستدل منه على أن كوامن نفسه قد تحركت ساعة واحدة بحنين لوثنيته الأولى، ذلك دليل على أنه أسلم للإسلام مقتنعا راضي النفس مرتاح الضمير لأن يتبدل الوثنية بالإسلام، على الضد من كثير ممن أسلموا إسلاما ظاهرا كابن المقفع مثلا، فإن الروايات عن إسلامه كثيرة والقصص من حوله متشاكلة وجوهه، فقد روي أنه مر يوما ببيت نار من بيوت الزرادشتيين فتمثل بقول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
أما في شعر مهيار فلم أجد شيئا من هذا بل ولم أقع على رواية تدل على نزعة نفسه إلى الوثنية ناظما أو متمثلا بقول غيره: وإن في قصيدته التي نظمها لما أن من الله عليه بالإسلام، ولما أن صرفه الله عما كان يتردد في صدره من ميل إلى النصرانية كما يقول مؤرخوه لبلاغا وعظة واسترسالا، وإن دل على شيء فإنما يدل على صفاء النفس وراحة الضمير والدعوة الرشيدة لمعتقده الثابت، وهي قصيدته التي يقول فيها:
دواعي الهوى لك أن لا تجيبا
هجرنا تقى ما وصلنا ذنوبا
قفونا غرورك حتى انجلت
أمور أرين العيون الغيوبا
نصبنا لها أو بلغنا بها
نهى لم تدع لك فينا نصيبا
وهبنا الزمان لها مقبلا
وغصن الشبيبة غضا قشيبا
فقل لمخوفنا أن يحول
صبى هرما وشبابا مشيبا
وددنا لعفتنا أننا
ولدنا إذا كره الشيب شيبا
وبلغ أخا صحبتي عن أخيك
عشيرته نائبا أو قريبا
تبدلت من ناركم ربها
وخبث مواقدها الخلد طيبا
حبست عناني مستبصرا
بأية يستبقون الذنوبا
نصحتكم لو وجدت المصيخ
وناديتكم لو دعوت المجيبا
أفيئوا فقد وعد الله في
ضلالة مثلكمو أن يتوبا
ومن هذه القطعة وحدها تقع على عدة صور استحالت إليها نفسية مهيار قبل إسلامه، وتستدل على حالات كثيرة نعددها هنا استيفاء لشيء من مستفيض البحث إذا نحن أردنا أن نتابع الكلام في مهيار بما يستحق من الإجلال، وبما يشغل من مكانة في عالم الأدب.
أولا:
أنه تابع الهوى وجرى وراء موحيات الشهوة أشواطا.
ثانيا:
أنه كشف له عن الغيب حتى انجلى لعينيه فأبصرتا ما كان خافيا، وشهدتا ما كان غيبا، ولعل في هذه الإشارة دليلا على أنه اشتغل بالتصوف حينا قبل أن يعتنق الإسلام، وليس بغريب أن يشتغل فارسي يتلقى عن الشريف الرضي الأدب والعلم بالتصوف، وأن يجاري أهل الباطن في طرقهم المتشعبة، أما إذا صح هذا، فإننا ننسب أغلب ما في شعره من رنة الحزن وعميق الهم إلى اشتغاله بطرق المتصوفين.
ثالثا:
أنه نصب للبحث وراء تلك الأمور والزمان في إقباله؛ أي في شرخ شبابه وفتوته، ومن هذا يستدل على أنه لم يسلم إلا بعد أن قضى طور الشباب، فإذا كان قد أسلم وهو في الثلاثين من عمره، وكان إسلامه في العام الذي نظم فيه هذه القصيدة 394، ووفاته في عام 428ه فكأنه عمر إلى منتصف العقد التاسع، وأنه لم يمت إلا في الخامسة والثمانين.
رابعا:
أنه أرشد قبل إسلامه حتى لم يبق لدواعي الهوى في نفسية من نصيب.
خامسا:
أنه بقي عهدا يتراوح بين عقيدتي الإسلام والنصرانية، وأنه ما من سبب رجح عنده كفة الإسلام إلا اشتغاله بآداب العرب ومعاشرته للمسلمين، وتمكنه من أسباب اللغة العربية التي هي لغة القرآن، نواة الإسلام الحية الباقية على الدهور.
لا تجد في شعر مهيار من صفة ظاهرة جلية تعبر عما استحالت إليه نفسه من الصور إلا صفة النواح على الدهر وعلى صروفه، ونظره في الحياة نظر الزاهد فيها الكاره لها، غير أن زهده في الحياة غير مشوب بشيء من التشاؤم، فلا هو من طابع أبي العلاء، ولا هو من صفاء الخيام، بل هو في زهده عن الحياة وبعده عن الصورة المألوفة لشعراء عصره نسيج وحده.
والظاهر أن الدهر قد نال من مهيار بما ينال به من النبغاء ذوي العبقرية، إذا هو ناء عليهم بخصاصة أو عضهم بناب من الفقر أو خصهم بسوء الحظ، وسد في وجوههم كل باب فتح لغيرهم من أمثالهم، ولكثير ممن هم أقل منهم في الأدب قدرا وأحط منهم في العلم مكانة، ولهذا تراه في شكواه من الزمان ومن أهله مثال الصبر والشجاعة، ومثال الأمل الحي الذي تفيض به الأنفس الكبيرة التي لا تعرف من اليأس إلا اسمه، وكثيرا ما يبقى أملهم حيا بين جنوبهم حتى يطوى مع أبدانهم في أكفان الأبدية، لهذا نجتزئ ببضعة قطع من شعره تدلك على حقيقة نفسه، وعلى أمله العريض في الحياة، قال:
فما بالي أرى الأيام تنحى
علي مع المشيب وهن شيب
عذيري من سحيل الود يحوي
حقيبة رحله فرس نجيب
وفى لي وهو محصوص وأضحى
غداة ارتاش وهو علي ذيب
ومحسود علي تضيق عني
خلائقه وجانبه رحيب
لطيت له فغر بلين مسي
ورب كمينة ولها دبيب
توق عضاض مختمر أخيفت
جوانبه وفي فيه نيوب
فإن الصل يحذر مستميتا
وتحت قبوعه أبدا وثوب
أنلني بعض ما يرضي فلو ما
غضبت حماني الأنف الغضوب
ومن هذا يرد عنان طرفي
إليك إن استمر بي الركوب
سترمي عنك بي إبلي بعيدا
وتنتظر الإياب فلا أءوب
وقال في قصيدة أخرى:
على أي أخلاق الزمان أعاتبه
وما هو إلا صرفه ونوائبه
تفرى أديمي وهي بتر شفاره
وجافت جروحي وهو صم مخالبه
ندوب تقفي هذه بعد هذه
وداء إذا ما باخ أوقد صاحبه
شغلت يدي حينا بعد ذنوبه
وزدن فقد تاركته لا أحاسبه
طرحت سلاحي وانتزعت تمائمي
وضاربه ينحي علي وسالبه
ببيض من الأيام هن سيوفه
وسود من الليلات هن عقاربه
أدامجه حتى يراني راضيا
مرارا وأعصي مرة فأغاضبه
وله شكوى بالغة في قصيدة مطلعها:
دعها تكن كالسلف من أخواتها
تجري بها الدنيا على عاداتها
ولعله كتبها في بدء عام جديد، وفيها يقول:
ما هذه يا قلب أول عثرة
قذفت بك الأطماع في لهواتها
هي ما علمت وإن ألمت لفضلة
من ثقل وطأتها وحد شباتها
كم خطوة لك في المنى أزليقة
لم تنتصر بلعا على عثراتها
وذخيرة طفقت يداك تضمها
والدهر خلفك مولع بشتاتها
ووثيقة ألجأت ظهرك مسندا
بغرورها فسقطت في مهواتها
ومن هذه القصيدة هذه الأبيات المشهورة:
إن كان عندك يا زمان بقية
مما يضام به الكرام فهاتها
صبرا على العوجاء من أقدارها
لا بد أن تجري على ميقاتها
ولعلها بالسخط منك وبالرضى
أن تستقيم طريقها بحداتها
أما مراثيه فأقربها إلى مراثي أبي العلاء ديباجة وأمتنها عبارة، وأكثرها انسجاما، فمرثيته في أستاذه وصديقه ورفيق حياته الشريف الرضي، وهي من أمتن مراثي العرب ومطلعها:
أقريش لا لفم أراك ولا يد
فتواكلي غاض الندى وخلا الندي
خولست فالتفتي بأوقص واسألي
من بز ظهرك وانظري من أرمد
وهبي الدخول فلست رائد حاجة
تقضى بمطرور ولا بمهند
خلاك ذو الحسبين أنقاضا متى
تجذب على حبل المذلة تنقد
فإذا تشادقت الخصوم فلجلجي
وإذا تصادمت الكماة فعردي
يا ناشد الحسنات طوف قاليا
عنها وكاد كأنه لم ينشد
عادت أراكة هاشم من بعده
خورا لفأس الحاطب المتوقد
وفيها يقول:
أنفقت عمرك ضائعا في حفظها
وعققت عيشك في صلاح المفسد
كالنار للساري الهداية والقرى
من ضوئها ودخانها للموقد
من راكب يسع الهموم فؤاده
وتناط منه بقارح متعود
ألف التطرح فهو ما هددته
يسري فواق البيد غير مهدد
يطوي المياه على الظما وكأنه
عنها يضل وإنه للمهتدي
صلب الحصاة يثور غير مودع
عن أهله ويسير غير مزود
عدلت جويته على ابن مفازة
مستقرب أمم الطريق الأبعد
يجري على إثر الضراب كأنه
يمشي على صرح بهن ممرد
يمشي الوهاد بمثلها من مهبط
وربى الهضاب بمثلها من مصعد
قرب قربت من التلاع فإنها
أم المناسك مثلها لم يقصد
رأبا به حتى تريح بيثرب
فتنيخه نقضا بباب المسجد
واحث التراب على شحوبك حاسرا
وانزل فعز محمدا بمحمد
وقل انطوى حتى كأنك لم تلد
منه الهدى وكأنه لم يولد
ومنها:
ولئن غمزت من الزمان بلين
عن عجم مثلك أو عضضت بأدرد
فالسيف يأخذ حكمه من مغفر
وطلى ويأخذ منه حد المبرد
لو كان يعقل لم تنلك له يد
لكن أصابك منه مجنون اليد
وإني أجتزئ من هذه القصيدة بهذه الأبيات، ولو طاوعت قلمي لجرى بها كلها، فليس فيها موضع تفضله على سواه، وليس فيها من معنى أو تركيب، أو سياق يقف في سبيل ذوقك الأدبي، وهي من ألفها إلى يائها على هذا النحو من قوة السبك وحسن البيان. •••
ومهيار نسيبه قليل، وتشبيبه أقل، ولعل صروف زمانه قد صرفته عن التغني بالحسان والتشبيب بهن، على أن له في هذا المجال جولات يبز بها كثيرا من الشعراء نذكر له شيئا على سبيل الاستدلال، قال:
سلمت وما الديار بسالمات
على عنت البلى يا دار هند
ولا برحت مفوقة الغوادي
تصيب رباك من خطأ وعمد
بموقظة الثرى والترب هاد
ومجدبة الحيا والعام مكدي
على أني متى مطرتك عيني
ففضل ما سقاك الغيث بعدي
أميل إليك يجذبني فؤادي
وغيرك ما استقام السير قصدي
وأشفق أن تبدلك المطايا
بوطأتها كأن ثراك خدي
أرى بك ما أراه فمستعير
حشاي وواجد بالبين وجدي
وليتك إذ نحلت نحول جسمي
بقيت على النحول بقاء عهدي
وما أهلوك يوم خلوت منهم
بأول غدرة للدهر عندي
سل الأيام ما فعلت بأنسي
وعيش لي على البيضاء رغد
وفي الأحداج من رشأ حبيب
على ثوبيه من صلة وصد
يماطل ثم ينجز كل وعد
ولم ينجز بذي العلمين وعدي
وبعد، فهذا مهيار بن مرزويه الديلمي ما إن نصفه لك بوصف أو ننعته لك بنعت، وما إن نصور لك صورة من نفسيته، فإن شعره وديباجته لأوثق في الأدب من أن يحيط بهما قلم كاتب مثلي، وإنهما لأعرق في الأدب من كثير مما يجري على ألسنة المتأدبين في هذا العصر، فهل هذا الجيل يكون من مهيار ومن شعره وأدبه الجم أوفى حظا وأوفر نصيبا من أسلافه الأقربين؟
بشار بن برد
صورة منه ومن حالات عصره
1
الشعراء أبين الناس نفوسا وأجلاهم باطنا، ولهذا ترى أنهم أكثر أبناء آدم تعرضا لنقد الناقدين، على أنهم بعد من طينة آدم وحواء، وليسوا بأكثر من كل الناس إسفافا، ولا أعلى منهم في الآداب مكانة، فهم طبقة خاصة تمتاز بموهبة ما، موهبة فنية لا تخرج في حكمها عن بقية المواهب التي تمتاز بها بقية الطبقات من مجموع الحيوان الناطق، والحقيقة أن نفسية الشعراء نفسية مفضوحة في شعرهم بينة في خطرات نفوسهم، جلية واضحة، بل تكاد تكون ملموسة دون غيرها من نفسيات الناس، ولولا عجز الشاعر عن ضبط هواجس نفسه، وفقد الإرادة عن كتمانها والترسل بها شعرا، لكان أبعد الناس عن صفة الشاعرية، فعجزه هذا سر من أسرار قدرته الشعرية، وضعف إرادته سبب أول من الأسباب التي تسوقه إلى تصوير ما في نفسه، ظانا أنه إنما يعبر عن حقائق العالم وعن نفسيات غيره من الناس بما يصور من خطرات لا تقوم إلا في نفسه وحده.
كنت أسير يوما مع صديق أديب على شاطئ النيل ذات أصيل، وقد فاض النهر في آخر شهر آب، وانعكست على صحفته النحاسية أشعة الشمس الذهبية، فوقف صديقي أمام النهر المتدفق المنساب في جوف الطبيعة انسياب الأمل العريض في نفس أمضها الفراق، وقد بهت من عظم ما يرى، فما لبث أن أخذ كتابا كان معي وكتب على أول صفحة منه:
الله أنت وأنت الله يا نيل
مني لشخصك تعظيم وتبجيل
يبدو جمالك ملء النفس قاطبة
فيأخذ النفس تكبير وتهليل
ولم يك صاحبي من المشتغلين بصناعة النظم، ولم أعرف عنه أنه شاعر، بل هو ناثر من كبار الناثرين، وإن كانت في نفسه نزعة إلى الشعر، فإنما هي نزعة تلوح ضئيلة بجانب حب البحث والاختبار، ولعله يقرأ اليوم هذا، ولعله يذكر هذه المناسبة فيستجمع في مخيلته مرأى النيل ومشهد أمواجه المتلاطمة الآخذ بعضها برقاب بعض، ولعله يكمل ما بدأ منذ عشر من السنين، فيخرج قصيدة بليغة في وصف النهر الفائض، بل في وصف ما فاضت به نفسه من الصور المتخالطة.
وبعد، فهل رأيت في خطاب ذلك الصديق إلى النيل، كيف كشف عن نفسه كيف جعل النيل في منزلة واحدة مع الله، وكيف بدا جمال الطبيعة ملء نفسه ممثلا في النيل، وفي ذلك الظرف الذي انعكست فيه أشعة الشمس عند الأصيل على صفحة النهر النحاسية الجميلة، فأخذ ذلك الجمال على نفس الصديق أطرافها، وملأ جوانبها فلم يترك في نفسه من مكان خال ليسع أية فكرة أو معتقد أو مذهب أو صورة أخرى، وإن وحدة الوجود التصوفية لم تترك في العالم من شيء عند شاعرنا الأديب إلا الله والنيل، ولا شيء غيرهما، وما من ريبة في أن هذه الخطرة التي فاضت بها نفس الصديق في تلك الآونة قد فضحت سرائر نفسه وأظهرتها على حقيقتها الكامنة دون مظهرها الخارجي، فنمت عن أن تلك النفس لو حوطتها عقائد الوثنية لكانت أثبت فيها من كل ما خلق الفكر من صور الدين فوق هذه الأرض.
ولو أنك نظرت معي في ملامح صديقي مما ارتسم على وجهه من مظاهر الحب الشديد والعطف مشوبين بشيء من الانقباض والحيرة، لاعتقدت بأن تلك الحيرة وذلك الانقباض لا يدلان على شيء دلالتهما على تنازع بين التقاليد الوراثية في النفس إذ تتناحر جادة في سبيل أن تملك كل منها أطراف النفس تحت تأثير ظرف من الظروف، وكأن الطبيعة ما خطت على وجه ذلك الصديق مسحة من الحزن تراها نامة من حقيقة نفسه بلا شعر حتى وبلا حديث - على الرغم مما يلوح في كلامه وحركاته من مظاهر المرح والجذل - إلا لتفضح سر نفسه وإن جهد نفسه في إخفائه، وما لاح على وجهه في تلك اللحظة التي أخذ يخاطب فيها النيل من شيء، وما زاد على صفاته من صفة إلا انفعال ممسوس بكآبة شديدة ازدادت معها مسحة ذلك الحزن العميق الذي خطته يد القدرة على محياه.
على هذا النسق يدل الشعر دلالة صحيحة على حقيقة نفسية الشاعر، فإن الشعر هو الصوت الصارخ الخارج من أعماق النفس، بل ومن أعمق أغوارها، ليسبك في اللغة عنوانا حيا على النفسية التي بعثته من قرارة الوجدان إلى عالم الخطاب.
ومهما يكن من تأثير روح العصر على الشعر والشعراء، ومهما يكن من أمر حاجات الحياة وتأثيرها في الشاعرية إذ تقلبها في بعض الأحيان إلى صناعة للنظم تبدو جلية واضحة في المديح وغيره من صور الشعر قضاء لحاجات ما تحركت لها الشاعرية ولا فتنت بها النفس، فإن الشاعر لن يفلت من القدر مطلقا، ولابد من أن تعثر في شعره على خطرة أو مقطوعة قصيرة أو مناجاة يرسل بها إلى الله أو إلى الطبيعة أو إلى شيء أو معنى مبهم قد يشعر به ولا يستطيع التعبير عنه، ما تنم في الدنيا عن شيء إلا عن دخيلة فطرته وعن نواتها التي التأمت من حولها كل عناصر نفسه.
إن أدل صور الشعر على نفسية الشاعر إنما هو شعر الانفعال، الشعر الذي يبعثه انفعال خالص في النفس غير مشوب بشيء من حزم الإرادة ولا وازع العقل، ولا تكلف من ناحية الصناعة، فإذا أردت أن تبحث في مجموعة ما أخرج شاعر من قصيد لتستدل بشيء منه على نفسيته، فإنما يجب عليك ألا تتعمد التغلغل وراء معانيه الخفية، ولا أن تغوص وراء تشبيهاته، بل يتعين عليك أن تبحث في أي المواضع من شعره بعث انفعاله وتجرد عن إرادته في ضبط معانيه وعرى عن عقال عقله ليسير وراء ما يريد أن يخرج من معنى معقود على غرض يريد الوصول إليه، وإني لأتخيل أن هذه القاعدة لا تخطئ إذا أمكن تطبيقها بما يقتضى لذلك من الحيطة والحذر وطول الأناة والصبر على البحث وقوة الملاحظة.
ولو أنك ثابرت على إتباع هذه القاعدة ورضت نفسك على التزامها لبان لك أن تطبيقها على الشعر الجاهلي أيسر منه في الشعر المخضرم، وأنها أبعد ما تكون يسرا في التطبيق على الشعر من بعد ذلك، فإن الخلق الجاهلي ما كان يعرف إلا الانفعال لشيء يملك جوانب النفس حتى في أخطر ناحية من نواحي الشعر العربي، ناحية المديح والهجاء، أما هذه الناحية فقد فسدت في عصور المدنية كل فساد حتى شوهت جمال الشعر، اللهم إلا من ناحية الصناعة والانسجام، فإن المديح والهجاء من قبل ما كان ليفيض بأحدهما خيال شاعر من الشعراء إلا تحت تأثير انفعال يدل دلالة واضحة، وقد تكون غير ذلك، لا على نفسية الشاعر وحده، بل على بضع صفات حقيقية يتصف بها الممدوح أو المهجو.
فلما ضغطت حاجات المدنية والترف على النفسية الشعرية، وحوطتها عوامل الجشع الاجتماعي بمؤثراتها خرجت بمواضع المدح والهجاء عن أن تكون شعرا يدل على الواقع، إلى صناعة يستدر بها الشاعر أكف الأغنياء والأمراء بالحق والباطل، ففسدت صورة من صور الشعر كانت من الممكن أن تظل نبعا فياضا بالدرس لمن يريدون أن يكتبوا في أشخاص الذين اشتهروا من العرب في عصور مدنيتهم، وأنت بعد تقلب ما كتب الشعراء في أمير أو وزير، ثم ترجع إلى المدونات التاريخية، فلا تقع إلا على صورة تختلف تمام الاختلاف عن الصورة التي يطبعها في مخيلتك الشعر المقول فيه، ثم إنك لا تجد المدونات إلا على صورة من النقص لا تزودك بسنادة قويمة يمكن الاعتماد عليها في بحث تاريخي أو تحليل نفسي، فإن سطوة أهل الجاه قد حالت دون حرية الأقلام في تقرير الحقائق، حتى إنك لتجد مدونات التاريخ قلما تتكلم في أشخاص الزمان الذي كتبت فيه إلا محشوة بالمديح شأن الشعر، ثم تجدها تتكلم في أشخاص زمان سابق بشيء من الاستقلال في الرأي، ولكن الشك يساورك فيها كل مساورة؛ لأنها على الأقل صورة منقولة للكاتب أو للمدون على ألسنة من تلقفها من الرواة، وقد تكون صحيحة، ولكن من المحتمل أن تكون خطأ وافتراء.
كل هذه الأسباب يجب أن تجتمع في ذهن الكاتب إذا أراد أن يكتب في بشار بن برد، مستعينا بدرس شعره على معرفة نفسيته وتحليلها، وأنت تعرف بشارا وتعرف عصره، عصر قريب من بدء انقلاب تاريخي عظيم، لا في تاريخ الإسلام والمدنية الإسلامية وحدهما، بل في تاريخ الدنيا، استتب الأمر للعباسيين في بغداد وبدأت موارد الإمبراطورية الإسلامية العظمى تزود العاصمة الجديدة بكل ما تستطيع من صنوف الترف والانغماس في شهوات إن لم تبلغ في عصر بشار مبلغها في عصر الرشيد أو المأمون مثلا، فإنها صورة تكفي إذا قستها بأخبث صور الفساد الروماني؛ لأن تولد في ذهنك فكرة أن المدنية الإسلامية أينما حلت وكانت قد حملت معها بزور إنحالها، وقد نبتت تلك البذور في كثير من أطوار تلك المدنية، ولكنها ظلت دائما كامنة دفينة في أعماقها، منقولة عن البادية إلى الحاضرة مرتكزة على أساس من الصفات النفسية، ما كانت البيداء إلا سدا منيعا حال دون ظهورها بذلك المظهر الذي تجلت به في بغداد في أوائل العصر العباسي وأوسطه، وانتهى بتغلب شعب جديد كانت السهول مباءته والجبال والأحراش مثابته.
إنك لا تستطيع أن تتغلغل في حياة بغداد الاجتماعية إلا من طريق كتب الأدب، وما ترويه تلك الكتب مشعب الأطراف كثير الوجوه متعدد القصص، على أنه في مجموعه لا يحوط نفسك بشيء ولا يولد في ذهنك من فكرة إلا فكرة الإكباب على الملذات والمبالغة فيها والافتنان في حيازتها بكل طريق مستطاع سواء أرضيت به شريعة الآداب أم نفرت منه، ولا أريد أن أذهب بالقارئ بعيدا ولا أطوف به في مجاهل كتب الأدب الكثيرة، فإن كتاب ألف ليلة وليلة ما هو إلا صورة تكاد تكون صحيحة في فلسفة الحسيات التي تملكت فكرة الناس وأذلت أعناقهم في بغداد في أزهر أيامها بالمدنية الإسلامية، بل يكفي أن تطوف بسوق النخاسين في بغداد لتطبع في ذهنك صورة صحيحة من مدنية ذلك العصر، هي أشبه الأشياء بتلك الصورة التي تصورها لنا صفحات التاريخ عن آخر عهد مر بمدينة بومبي قبل نكبتها.
قال كاتب عربي: ولقد شهدت سوق الجواري في مدينة بغداد، وقد أقيمت في الموضع المعروف بسوق النخاسين، فرأيت فيهن الحبشيات والروميات والجرجيات والشركسيات والعربيات من مولدات المدينة والطائف واليمامة ومصر ذوات الألسنة العذبة والجواب الحاضر، وكان بينهن من الغانيات اللاتي يعرض بما عليهن من اللباس الفاخر الذي لا غاية بعده، بما يتخذن من العصائب التي ينظمنها بالدر والجوهر ويكتبن عليها بصفائح الذهب كلاما يحلو لأهل الطرب، فرأيت على بعض العصائب: «وضع الخد للهوى عز»، ورأيت على بعضها: «من كان لنا كنا له»، ورأيت في صدر جارية هلالا مكتوبا عليه:
أفلت من حور الجنان
وخلقت فتنة من يراني
وقرأت في عصابة أخرى:
ألا بالله قولوا يا رجال
أشمس في العصابة أم هلال «وبعض الغواني المترفات كن يتحلصن سرا من حيث لا يردن المقام، ثم يأتين السوق متواريات عن عيون الرقباء إلى أن يقع سوقهن على أحد من الناس ومواليهن غير عالمين، فيتصرف النخاسون في بيعهن مثل تصرف التجار ببضائعهم.»
هذه الصورة على ضئولتها كبيرة الأدلة على روح ذلك العصر، تلك الروح التي ما كانت تقود خطوات المدنية القائمة فيها إلا إلى الانحلال والفساد، وهل هي إلا صورة روما في آخر عصور مدنيتها حيث كان الرجال يعدون السنين بعدد النساء اللائي اتخذوهم عشيقات، وحيث كان الأبناء لا ينسبون إلى آبائهم، بل إلى أمهاتهم، فيقال ابن فلانة لا ابن فلان!
ذلك الجو الذي حوط بشار بن برد، ما كان ليخرج لنا من الشعر إلا ما وصل إلينا عن بشار، وما كان ليزودنا بشيء من مورد البحث إلا بكل ما يمكن أن يستدل به على عناصر الفساد الذي أخذ يدب في جسم الدولة العباسية في بغداد منذ أول نشأتها إلا قليلا.
ولا تجد في ذلك الجو المعتم إلا مفاسد وشهوات ضالة مضلة، ما كانت لتؤثر في شيء بقدر تأثيرها في الروابط الاجتماعية التي تكون الأسرة، وهي ساندة البناء الاجتماعي، وأول ركيزة في قيام المدنيات؟
ولعمرك لو أردت أن تبحث في نظام الأسرة إذ ذاك وتمشيت من ثم إلى البحث في أخلاق المرأة التي تريد، وما أرادت في كل الأزمان المتمدينة إلا أن تستقل برجل تهبه من عواطفها بقدر ما يهبها من عواطفه، ويخصها من حبه بقدر ما تخصه من حبها ، ألا ترى معي بحق أن نظام الأسرة كان بائرا، وأن رابطة المجتمع القائم عليها كانت مفصومة، وأن الحياة إذا ذاك كانت عبارة عن نسيج مفكك الأوصال، لم يرأب صدوع الاجتماع فيه نظام مدني، ولم يقم فيه للمرأة من وزن، اللهم إلا بمقدار ما ترضى في الرجل من شهوات هي أحط ما أخرجت الطبيعة من فاسد عناصرها في الحياة؟ وهل من المستطاع أن تتكون أسرة متلائمة العواطف متناسقة الآداب، وقد تحكمت فيها الإماء اللواتي كن لا يعشن إلا متطفلات على شهوات الرجال، متضاربة مراميهن، متنافرة مصالحهن، متناثرة حول الشهوة رغباتهن، متضائلة بجانب الرذيلة فضائلهن، مركزة حول البغض والحسد أفكارهن، قريبات من الإثم، بعيدات عن التقوى، هائمات جامحات شاردات، ما من حاجة لهن في الحياة، وما من مطمع في الدنيا سوى إرضاء أفسد ما انطوت عليه نفس الرجل من الصفات؟ وأنت بعد، هل تجد للرجل من مجال ينمي من صفات الرجولة فيه إلا معهده المنزلي؟ فكيف به وهو لا يرى إلا صور الخنوثة قائمة من حوله، تزكي فيه مواضع الفساد ، مقصية به عن مواضع العفة والشرف، نازلة به إلى الحضيض، هابطة به إلى الدنى والمفاسد، سالبة منه شرة الرجولة، قاتلة فيه صفات الذكورة الصميمة؟
هذه الصورة تتحيز في ذهني وتظل شديدة الأثر فيه كلما فكرت في عصر بشار بن برد، وكلما فكرت في العصر العباسي من ناحيته الأخلاقية، على أنك إن فكرت في العصر العباسي من حيث الأدب لوجدت فيه مناقص وكمالات شأن كل الأعمال الإنسانية، على أن أنقص ما أراه فيه نزعة الأدباء إلى المنابذة بالألقاب والأنساب، وجنوحهم إلى المفاضلة بين الشعراء أو الكتاب، وهي ظاهرة أقل ما فيها أنها تدل على انصراف عن الأدب الحقيقي على الوجه الأكمل إلى أشياء لا تضر إن تركت، ولا تفيد إذا ذكرت، بل أنها فوق ذلك من مواضع الضعف في فنون الأدب، وفي الصناعات الأدبية، قال الرواة: إن أحسن الناس ابتداء في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
وحيث يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وفي الإسلام القطامي حيث يقول:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل
ومن المسلمين بشار حيث يقول:
أبى طلل بالجذع أن يتكلما
وماذا عليه لو أجاب متيما
وبالفرع آثار بقين وباللوى
ملاهي لا يعرفن إلا توهما
وما أعتقد أن بشارا والقطامي إلا من الناسجين على وتيرة امرئ القيس، فكلاهما في حسن ابتدائه خاطب الطلول البوالي، وإنك لتجد في النواح على الطلول رنة حزن في النفس عميقة، وهي على ما تبعث من الحزن في النفس لا تولد فيها إلا الذكريات، ذكريات المنازل الخاوية والصور الذهنية الحية بما يتخللها من الانفعالات الشديدة الأثر، والدليل على أن بشارا والقطامي قد نسجا على منوال امرئ القيس أن أمتع بيت قاله بشار قد ظل زمانا يجهد نفسه لينظمه على نسق بيت امرئ القيس المشهور.
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
فقال بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
على إن هذا البيت لا يخلو من نقد؛ فإنه أقل من سيوفه؛ لأن «أسياف» جمع قلة، ويقولون: إن بشارا أغزل الشعراء حيث يقول:
أنا والله اشتهي سحر عيني
ك وأخشى مصارع العشاق
ولو قالوا بأنه أجبن المحبين وأحرص العشاق على حياته لكان ذلك به أولى، على أنني لا أجد في مباحث الأدب من مبحث هو أعق لفضيلة الإقساط في القول من المفاضلة بين الشعراء أو الموازنة بينهم أو الوساطة فيما اختلفوا فيه من مذاهب الشعر، فأنت تجد أن لكل شاعر من فحول الشعراء صفة قلما يدركه فيها شاعر غيره، وأنه نسيج من الشاعرية وحده غير قائم على أساس مستمد من تقليد أو تشبه بغيره؛ لأن الشاعرية سليقة موروثة في النفس ولن تتماثل الشاعريات إلا إذا تماثلت الصفات الموروثة، وهذا أمر بعيد مناله متعذر وقوعه.
وإنا لا تحوطنا شبهة مطلقا في أن شاعرنا الذي نتكلم فيه اليوم نسيج من الشاعرية وحده، وأن في شاعريته مزيجا من الصفات الموروثة لم تتهيأ لشاعر غيره، كما أن بقية فحول الشعراء لكل منهم صفات لا يشاركهم فيها بشار ولا غيره من أهل هذا الفن المطبوعين عليه.
على أنه تعترضنا في بحث بشار من ناحية الشاعرية ومن ناحية دلالة شعره على نفسيته موانع كثيرة:
أولها:
أننا لا نستطيع أن ندرس حقيقة العصر الذي عاش فيه من ناحية النظام الاجتماعي دراسة تولد في أذهاننا صورة غير الصورة التي وصفناها من قبل، وإنها لصورة آثارها كثيرة الذيوع فيما وصل إلينا من شعر بشار.
وثانيها:
أنه لم يصل إلينا من شعر بشار إلا نتف ومقطوعات قصيرة، ولم يصل إلينا من شعره قصيدة كاملة، على أنني أعتقد أن ما وصل إلينا من شعره كاف لدرس قوة شاعريته والاستدلال بها على حقيقة نفسه.
ولن أشك بجانب هذا في أن شعر بشار لو وصل إلينا كاملا، كما وصل إلينا شعر المتنبي، أو أبي العلاء المعري أو غيرهما من الشعراء، لكان لنا منه مورد كبير في دراسة عصره والاستدلال به على حالات قامت في ذلك العصر، فإن ما وصل إلينا من آثار بشار الأدبية على قلتها ، تدلنا دلالة واضحة على أن ذلك الشاعر الكبير كان قد اندمج في جوه اندماجا تاما، وامتزج دمه بعناصر المدنية التي قامت من حوله، فهو صورة من ذلك العصر، صورة أقل ما فيها من الدلالة على الروح التي ذاعت فيه، أنها خارجة من نفس شاعر ملء نفسه الشاعرية، صورة مفضوحة في الشعر غير موشاة بشيء من صناعة الكلام ولا مغشاة بجمال النثر ولا ببيانياته ولا خطابياته، ولا محلاة بالصناعات البديعية التي لجأ إليها كتاب ذلك العصر.
وبعد فأنت لا تبعد عن روح العصر العباسي بقدر ما تلجأ إلى الصناعات النثرية التي ذاعت فيه، فإنها لا تعطيك من صور ذلك العصر إلا صورة مكذوبة قد تستدل منها على شيء من رقي اللغة أو انحطاطها، وقد تستدل منها على شيء من جمال الأساليب أو فسادها، ولكنك لا تلجأ إليها للاستدلال بها على روح ذلك العصر الحقيقية، إلا وتكون لجأت إلى أوهن ناحية من نواحي التنقيب في عصر هو أبعد العصور عن تزويدك بمراجع يصح أن تتخذ دعامة للبحث العلمي الأدبي بحثا يرضي الحق والضمير.
2
إلى هنا ينتهي تحليلنا لعصر بشار بن برد، وكيف كان بشار صورة صادقة لعصره الذي عاش فيه، وكيف أن ما وصل إلينا من بشار على قلته يعبر أحسن تعبير عن النزعات التي قامت في ذلك العصر وعن الانفعالات التي جاشت بها العواطف الثائرة في صدور الرجال والنساء، ولم أشأ أن أتورط في الكلام في هذه الأشياء باستفاضة وأستطرد متخذا من كتب الأدب أمثالا، ومن مجالس العظماء والأمراء أدلة على صدق ما ذهبت إليه حذر الإطالة في شيء يكاد يكون الشعور بصحبته أسبق إلى النفس من الأدلة والبراهين التاريخية والعقلية، على أننا لا نريد بعد هذا أن نتورط في الوصف والشرح لأكثر مما أدلينا به من قبل، لهذا نمضي في تحليل نفسية بشار بن برد لنخلص من هذا التحليل بفكرة في دلالة شعره على نفسيته المتوهجة الثائرة المشبوبة بتلك النيران العاطفية التي صبغت العصر الذي عاش فيه.
أعرف في العربية ثلاثة شعراء لشعرهم في أذني نغم وحده، ولمعانيهم مرمى بذاته، بل يكادون يخرجون من الحيز الذي شغله شعراء العربية إلى حيز لم يلجه من قبلهم، ولا بعدهم شاعر نطق بالضاد.
وليس هذا الحيز مقصورا على متانة في اللغة، ولا سبك في الأسلوب، ولا ترفع في المعاني، ولا ما إلى ذلك مما يتفوق به الشعراء في صناعة الشعر، بل هو حيز العقلية الإيجابية التي تنظر إلى الحقائق كما هي حتى في الهجو والمديح، والنفسية التي تنطبع عليها صور الزمان الذي تحفها نظمه الاجتماعية على اختلاف صورها وألوانها.
هؤلاء الشعراء الثلاثة هم مهيار الديلمي، وبشار بن برد، وابن الرومي، وأولهم كان تلميذا للشريف الرضي وراوية له؛ فانطبع بطابع التصوف والزهد حتى إنك لتجد ذلك شديد الظهور في شعره بين الأثر في نزعته الشعرية، وبشار بن برد عاش في عصر الخلاعة والفتنة فكان خليعا مفتونا بصور المدنية كما اقتبست عن العالم الروماني والفارسي، وكلاهما تطوح في الحسيات حتى لقد بلغ منها أقصى المبالغ، وابن الرومي كان عبدا اشتري بالمال فكان في أخلاقه عبدا، وفي خياله عبدا، وفي تصوراته عبدا رقيقا، على الرغم من جودة شعره وقوة بيانه وبالغ وصفه.
ولعل السبب في هذا أنهم بعيدون عن العقلية العربية فكانوا نسيج وحدهم في الشعر وفي الشاعرية، فإن مهيارا وبشارا كلاهما فارسي وابن الرومي بعيد عن الدم العربي بعد السماء عن الأرض، ولا خفاء في أن العقلية الفارسية عقلية تتمشى فيها أصول الآريين الذين غزوا الهند ودوخوا الممالك في العصور القديمة، والذين لهم في الفلسفة جولات لم يشق غبارهم فيها أحد، ولهم في اللغة آثار لم يستطع إلى الآن أحد من أهل العربية أن ينال منها بما يسقط من قيمتها ويحط من قدرها، وهم فوق ذلك حسيون لا يؤمنون إلا بالحس، إثباتيون يحكمون العقل قبل المشاعر، حتى إنك لو رجعت إلى الأديان التي انتشرت فيهم لما رأيت في دين منها إلا أثر الطبيعة متجليا بارزا كأن الذين وضعوا هذه الأديان لم يعبدوا في الواقع إلا الطبيعة، ولم يريدوا بما وضعوا من صور الدين إلا أن يدمجوا الإنسان في الطبيعة إدماجا أساسه مثل يتخايل إليهم من طريق الدين، ولكن ليرجع بهم إلى الطبيعة سعيا.
خذ دين ماني بن فاتك، ويكاد يكون آخر الأديان ظهورا في بلاد فارس قبل الإسلام، فلقد ظهر ماني في أيام سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور سنة 277 للميلاد، ويقول العرب: بأنه أخذ دينا بين الماجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة عيسى وينكر نبوة موسى، غير أن صاحب الفهرست يذكر ما هو أقرب من هذا إلى حقيقة الدين الذي ظهر به ماني، فيذكر أن ماني «يزعم» بأن العالم مصنوع من أصلين قديمين هما النور والظلمة، وأنهما أزليان سرمديان، وأنه ما من شيء إلا وهو من أصل قديم.
وفي ما قال صاحب الفهرست بعض الحقيقة لا الحقيقة كلها، والحقيقة أن دين ماني يقوم على أصلين؛ الأول القدم المطلق، والثاني تفاعل الأضداد أو تواترها، وإني أرى أن استعمال تواتر الأضداد أرجح من استعمال التفاعل في معنى لم يرد به صاحب هذا الدين ما تؤدي إليه هذه الكلمة تماما، فكل شيء عندهم قديم أزلي سرمدي، وأن الطبيعة كلها قائمة على أضداد تتواتر ولكن لا تفنى، فهي قديمة أيضا، فكأن ماني لم يقل بأن الأصل في العالم النور والظلمة، بل قال بأن النور والظلمة من أظهر الأضداد التي تتواتر تواتر غيرهما من الأضداد.
من هنا يظهر أن ماني بن فاتك لم يقصد بالدين الذي وضعه أنه تفسير لحقائق ما بعد الطبيعة والغيب من طريق الدعوى، بل قصد إلى الطبيعة الحافة به، يدمجها في الدين ليخلص من هذا بنتيجة، هي أن يندمج الناس في الطبيعة اندماجا أساسه المعتقد واليقين، وهذا بالذات ما تتخيله العقلية الآرية، بل لا نبالغ إذا قلنا بأن العقلية الآرية لا تنتج إلا هذا، فهي عقلية تؤمن أولا بالحواس ومن طريق الحواس تحاول الاندماج في الطبيعة.
ولما استقر العقل الآري في أوروبا وغزاها الدين المسيحي، وهو دين سامي بحت، لم تلبث العقلية الأوروبية المتأصلة من الطبيعة الهندوجرمانية أن قلبت الدين السامي النازع إلى الغيب وما بعد الطبيعة إلى دين تتجلى فيه المحسوسات وتبرز مظهرة آثارها في كل شيء، فلم يبق من دين المسيح عيسى ابن مريم في أوروبا إلا الاسم، ولم تسمح العقلية الأوروبية لشيء من هذا الدين بأن يبقى ويعيش في جوها إلا ما وافق طبيعتها، فبرز الدين النصراني بعد قليل في ثوب اندمجت فيه الطبيعة، لا على نفس النمط الذي أدمجها به ماني بن فاتك، بل على صورة أخرى استمدت من وحي الفكرة لا من وحي التواتر والامتداد، ولكن كل ذلك يتفق في النهاية، يتفق في أن العقل الآري نزاع إلى الاندماج في الوسط الطبيعي اندماجا تاما، أما العقل السامي فعلى الضد من ذلك، فهو وهاج براق وثاب إلى الغيبيات متهافت على العلم بما لا يستطيع العقل الصرف أن يعلم منه شيئا.
هذه العقلية بذاتها تتجلى في الفرق بين من ذكرنا من الشعراء وبين شعراء العرب الذين يجري في عروقهم الدم السامي الصحيح ومنه يستمدون عقليتهم، حتى لقد تجد أن أهل الأدب من الإعراب لم يستسيغوا الكثير من شعر مهيار وابن الرومي؛ بل إن بشارا لم يتواتر شعره بينهم إلا لما كان فيه من توافق بين منازعه وبين تصورات أهل العصر الذي عاش فيه، ولولا هذا لانطوى بشار كما انطوى من قبله مهيار وابن الرومي، ولم تعرفهما إلا بطون الدواوين وإلا الأقلون من الأدباء الذين امحت من عقولهم آثار العرب خلال بعض الأزمان.
على هذا نعتقد أن بشارا من تلك الفئة التي جددت في أساليب الشعر العربي تجديدا لم يكن أساسه الخيال، ولم يعمد إلى المعقولات الصرفة يصفها بأوصاف الذوات الحية الكائنة؛ بل عمد إلى الحقائق حتى في مديحه وهجائه، ولم ينزع إلى تلك الأشياء الخيالية التي عكف عليها غيره من الشعراء الذين جرت في عروقهم الدماء السامية.
أما إذا وقعت في شعر بشار على شيء قد يقال: إن فيه نزعة إلى العرب فقد تستطيع أن ترجع فيه إلى سبب طبيعي ؛ فإن أمه عربية، ومن المحقق أن يكون لذلك أثر في شعره وفي عقليته، غير أن الصفة الغالبة فيه هي الصفة الآرية، صفة الاحتكام إلى الحقائق الملموسة وإلى المحسوسات يستوحيها المعنى في قالب عربي مبين.
هو بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي بالولاء، وكان أبوه من فرس طخارستان وجيء به في سبي المهلب بن أبي صفرة، ووهبه المهلب إلى امرأة من بني عقيل فتزوجت به ونسب إليها وولدت منه بشارا، وكان مولد شاعرنا بالبصرة حوالي سنة 55 للهجرة الواقعة في سنتي 674-675م، ونشأ بشار في بني عقيل مولعا بالاختلاف إلى الأعراب الذين يخيمون بالبادية، فشب على غرارهم فصاحة لسان، وقوة بيان، حتى عده البعض آخر من يستشهد بشعره من الشعراء في ضروب اللغة، ولقد ولد بشار مكفوف البصر، فعاش ما عاش لا وسيلة له إلى المعرفة إلا الأذنين، وكفى بهما مع صفاء الطبيعة وقوة الشاعرية أن يخلقا من بشار شاعرا مجيدا ومجددا، هو أول المجددين من موالي الفرس الذين تفخر العربية بهم وبآثارهم التي خلفوها وخالد معانيهم الباقية على جدتها وإن أخلق الزمان.
والروايات من حول بشار كثيرة والقصص متعددة وجوهه، على أن الروايات قد اتفقت على أنه قال الشعر وهو ابن سبع سنين، وأنه كان أميل إلى الهجاء منه إلى أي فن من فنون الشعر، ولا جرم أن تنزع نفسه إلى الشعر فتيا ويكون من المواهب ما يستطيع أن يذلل من طريقها معاور اللغة؛ يكون في مقدوره أن يبلغ من الشعر ما بلغ بشار بن برد في سني شبابه؛ وظل عليه إلى أن مات.
لم يعرف العرب من ضروب النقد الأدبي إلا ضربان، أولهما المفاضلة، ومن التجاوز أن ندعو هذا نقدا أدبيا، وثانيهما نقد المعاني والألفاظ من طريق الاتساق واللغة، وهذا أول مدارج النقد، على هذا لا نستنكف أن نقول: إن العرب لم يعرفوا من النقد إلا بدايات قد نأثم أن نقول في بعضها: إنه نقد، وقد نقبل مكرهين أن نقول فيما بقي منها: إنها نقد أدبي على ما عرف في العصر الحديث.
على أننا نكاد نتخطى هذا الدور، وإن كانت آثاره لا تزال شديدة الفعل في الكثير مما تبرزه أقلام الكتاب والنقاد في عصرنا هذا، غير أننا وقد أزمعنا أن نتكلم في بشار، وأن نعرض له برأي نحلل فيه نفسيته، فإني أرى من الأوفق أن أورد رأي النقاد الذين تكلموا فيه من قبل لعلي أستعين برأيهم على بلوغ شيء من الحق ينير لنا السبيل، قال الأستاذ الزيات في بشار أنه (1) أول ما تكلم في الشعر الهجاء؛ لأن سوقه كانت نافقة. (2) وإنه طرق أبواب الشعر التي فتحت قبله وزاد عليها. (3) وإن الاتفاق بين رواة الشعر ونقدته على أنه رئيس طبقة المولدين. (4) وإنه كان مجددا في المجون ورقة الغزل. (5) وإنه جمع بين جزالة البدو ورقة الحضر. (6) وإن شعره الحد الأوسط بين القديم والحديث. (7) وإنه كامرئ القيس في الجاهليين.
ولست تقع في مجمل هذا على جديد يصح أن تركن إليه في نقد تتناول فيه بشارا على نمط حديث.
وقال الأستاذ العقاد - وهو عندي من أكثر النقاد فهما لطبيعة بشار: إن شعر بشار يقسم إلى قسمين: (1) الأول بدوي تغلب فيه الجفوة، وحضري تغلب فيه الرقة والنعومة. (2) وإنه إذا نظم في أغراض الشعر القديمة كان أقرب إلى لغة الأعراب، وإذا نظم في الغزل والمجون كان أقرب إلى اللغة المألوفة الشائعة التي «رقت حواشيها وسلسلت عباراتها.» (3) وإن روح شعره تدل على الطبيعة الحيوية والمزاج الدنيوي الذي يتخيل الأشياء كما يحسها في عالم الواقع القريب. (4) فلا إلهام في شعره ولا حنين ولا أشواق ولا بدوات ولا خيال، ولكنها تجربة الدنيا تملي عليه ما ينظم من الحكمة والوصف والغزل. (5) وإنه أصلح أدباء العرب؛ لأن تؤخذ عن شعره الشواهد الكثيرة على أساليب الطريقة الطبيعية الواقعية التي اشتهر بها بعض أدباء فرنسا على الخصوص في القرن الأخير.
وهذا الكلام كثيره حق واقع، على أن الأستاذ العقاد لو رجع إلى تحليل عقلية بشار تحليلا إثنولوجيا لاستطاع أن يصيب كبد الحقيقة، على أنه مهما كان في تعليله لطبيعة بشار من تمسح بالدنيويات ؛ ليعلل بذلك حقيقة عقليته الحسية، فإنه في ذلك إنما أورد عرض الشيء ليكون علة، ولم يبلغ إلى الجوهر الكامن في وراثة بشار الآرية عن أجداده الفرس، على أن هذا النقد من أبلغ ما وقعت عليه من صنوف النقد الحديث إمعانا في التعمق إلى الأصول، أو كما يقولون للعناصر الأولية التي يقوم عليها النقد التحليلي الصحيح.
وقال الأستاذ طه حسين: إن بشارا (1) شاعر غزير المادة جدا. (2) وإن الجيد في هذه المادة لم يكن صادقا في شعره ولا مخلصا، إنما كان يتكلف المعاني في أكثر الأوقات ويتكلف الألفاظ والأوصاف أيضا. (3) وإنه لم يكن محببا ولا لينا رقيق الطبع والحاشية، وإنما كان قويا جبارا مبغضا. (4) وإنك إن أردت أن تعرف الفن الذي برع فيه بشار فهو فن الهجاء، وفي الحق أنه قتل الهجاء، وإن الهجاء قتله أيضا.
وفي هذا القول من الدلائل ما يثبت لك أن الأستاذ طه حسين لم يفهم من نفسية بشار شيئا، ولا حلل من طبيعة بشار شيئا، فالقول: إن بشارا شاعر غزير المادة ليس بجديد في نقد بشار، وأما أنه يتكلف المعاني والألفاظ والأوصاف فذلك بالقياس إلى المحبين للأستاذ من الشعراء الساميين الذين لم يقف على الفرق بينهم وبين الشعراء الذين تجري في عروقهم الدماء الآرية، وأما القول بأنه قتل الهجاء فليس بصحيح؛ لأن شعر بشار لم يصلنا على تمامه، وإرسال الأحكام العامة بالاعتماد على الجزئيات لا يؤمن معه الزلل والخطأ، والدليل المادي قوله بأن بشارا قتله الهجاء؟ ولست أدري كيف أن الهجاء يقتل من قتل الهجاء؟!
وقال الأستاذ ضيف: إن بشارا (1) رأس المحدثين وأشعرهم. (2) وإنه من الشعراء الذين أحدثوا انقلابا في الأساليب الشعرية، وقد أدرك الدولتين الأموية والعباسية. (3) وإنه اشتهر بمخالفة الأسلوب القديم وحمل على العرب. (4) وإنه استخف بالعادات وبكثير من المسائل الدينية. (5) وإن له آراء رجعية في الدين. (6) وإنه من أشعر الشعراء وأكثرهم مجونا وأقلهم مبالاة بما يقول ويفعل.
وهذا النقد - إن صح أن نسميه نقدا - ليس إلا مقررات لم يعلل أسبابها الأستاذ تعليلا صحيحا على الأسلوب العلمي الحديث، وكان في مستطاع أي ناقد في القرن الأول أو الثاني من الهجرة أن يقول ما قال الأستاذ ضيف في القرن العشرين.
والحقيقة أن كثيرا من الذين نقدوا بشارا، وعلى الأخص الذين قالوا بأن الهجاء أظهر مظاهره لم يستطيعوا أن يفهموا الشاعر فهما صحيحا، والذي أفهمه أن الهجو في شعر بشار كان تبعا لنزعة أخرى، ولم يكن صفة أساسية في نفس بشار، بل إن الصفة الأساسية كانت الإباحة، فهي التي دفعت به إلى الهجاء، وهي التي درجت به في كل ما تقع عليه في شعر بشار من مظاهر الخروج على المألوف، والسبب في هذا أن العقلية الطبيعية الواقعية إذا حف بها من الأسباب المدنية والعمرانية ما حف ببشار في أيام الدولة العباسية انقلبت أبيقورية صرفة، على غرار تلك الفكرات التي احتكمت في العقل الروماني في أواخر أيام الإمبراطورية الغربية، ومن هنا نشأ ما تجد في بشار من ميل للهجاء وإطلاق كل الأشياء إطلاقا أعمى لا حد له ولا غاية.
على أننا قد نتساءل قبل أن نمضي في نقد بشار نقدا أدبيا تحليليا كيف يمكن أن نحكم في بشار حكما صحيحا، ولم يصل إلينا من شعره إلا القليل؟ على أني لا أشك في أن مجموعة ما وصل إلينا من شعر بشار على قلته يزودنا بأقذع ما قيل في الهجاء، وأدق ما قيل في الغزل، وأحلى ما قيل في الوصف، وأمتع ما قيل في التشبيب، وأدق ما قيل في المديح وأعظم ما قيل في الفخر، وأجدد ما قيل فيما يمكن التفريق به بين الأساليب القريبة من عهد النشأة الإسلامية وأول التحضر العربي.
على أنك إذا أردت أن ترى بشارا في حقيقته، فانظر إليه في أخلاقه، فهي المرآة التي تريك بشارا رجل حس صرف يتعلق بالدنيويات؛ لأن طبيعة عقله تنزع إلى الاندماج في الطبيعة، وكانت الحضارة التي قامت من حوله من أكثر الأشياء تحبيبا لأمثاله في الدنيا، أفليس إدمانه الخمر وصبوته إلى النساء وابتذاله وبعده عن العفة إلا أثرا من آثار الحضارة التي حفت به إذ صادفت فيه نزعة ووقعت فيه على بيئة خصبة؟ أما جبنه وخوفه من المقال والحسام فليس له من سبب إلا اعتقاده بأن قول الحق لا يزول، ولا ينسى، وإن فيه من الدنايا ما لو قيل مرة لجرى مثلا، ويقينه أن الحياة ثمينة لا تشترى بمال ولا تباع بشرف ولا بعزة. ولعل في هذا أثرا من نشأته وتربيته الأولى.
روي بأن بشارا هجا روحا، وهو شاعر أدرك الدولتين الأموية والعباسية، وكان من الفضلاء ومن الرواة الذين أكثروا من حفظ كلام العرب، وكان بين بشار وروح مهاجاة، فوصف بشار سيف روح بما يحط من قدره، فأقسم إذا لقيه ليضربنه بالسيف ولو في حضرة أمير المؤمنين، ففزع بشار وخاف وقام من فوره إلى المهدي يستجير به، فلما حضر روح قال: أنا عبد أمير المؤمنين أطيعه في كل شيء إلا بشار، فقد حلفت من أجله يمينا غموسا، فقال المهدي: ومن أجل بشار دعوتك، وجيء بالعلماء فأفتوا بضربه بعرض السيف، فلما هوى عليه روح تألم وتأوه تأوه النساء. وإذا صح هذا كان دليلا على حبه الدنيا وتفانيه في الطبيعة التي ليست الحياة إلا أهم مظاهرها وأبلغ آياتها.
كذلك نجد أنه قد نزع طافرا إلى صفات آبائه المرة بعد المرة، وفي هذا دليل على صفاته الآرية الرسيسة المنبثة في تضاعيف فطرته، فقد سئل مرة بأي شيء فقت أهل عصرك؟ فأجاب على هذا السؤال جوابا عبر في الواقع عن حقيقة عقليته تعبيرا لم يبلغ إليه في شعره، وفضح عناصر نفسه بما لا يمكن أن يبلغ إليه تعبير في وصف الطبيعة الحسية والعقلية الإثباتية في أيما متجه من اتجاهات الحياة مشت وفي أي مظهر ظهرت، أتعلم بماذا أجاب بشار؟
لم أقبل كل ما تورده على قريحتي - فما بالك بما تورده عليه قريحة غيره - ويناجيني به طبعي ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفهم جيد وغريزة قوية فأحكمت سيرها، وانتفيت خيرها، وكشفت عن حقائقها واحترزت من متكلفها، والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به.
هذه المبادئ بذاتها إذا عم تطبيقها على احتكام العقول في حقائق الأشياء كانت بعينها حرية الفكر والنزوع إلى الواقع المحسوس، وتلك صفة يختص بها العقل الآري. والواقع أننا لا نستطيع أن نعرف بشارا إلا من هذه الطريق، فهي مفتاحه الذي لا يمكننا أن نعالج بغيره مستغلق نفسيته.
Unknown page