وأما الفيوم فأصلها «بايوم» أو «فايوم»، ومعناها بالهرمسية بلد البحر، ثم عربها العرب فقالوا الفيوم، وأطلقوه على نفس الإقليم تسمية للأرض باسم الماء الذي أخصبها باقتراح الملك «أمنمحعت» الثالث، ومن أعمال هذا الملك السراي الشهيرة باسم «لابيرانتا»، وتسمى بالقلم الهرمسي «لابوراحونت»، ومعناها «معبد فم البحيرة»، وكان ينعقد فيها مجلس الأعيان من كهنة المصريين للمداولة في أمور السياسة، ويوجد بداخلها اثنتا عشرة رحبة متقابلة الأبواب؛ ست على الشمال وست على اليمين، وهذه السراي محدقة من الخارج بسور كبير، وفيها ثلاثة آلاف أودة، منها ألف وخمسمئة في الدور الأول، وألف وخمسمئة فوقها في الدور الثاني، وفيها أيضا إيوانات ورحبات، وجميعها مسقوفة بالحجارة، ومقامة على أعمدة من الحجر الأبيض منتظمة الصفوف، وفي آخر هذه السراي هرم مزين بالرسومات العجيبة والأشكال الغريبة يتوصل إليه بسرداب تحت الأرض، وفيه دفن «أمنمحعت» الثالث.
وذكر إسترابون أن الأماكن التي داخل تلك السراي كانت بعدد أقسام ديار مصر القديمة، فكان لمندوب كل قسم محل مخصوص، فيجتمعون فيها إما على أمر الملك أو على مقتضى قانون البلد لكي يتداولوا في أحوال بلادهم كوضع الرسوم والأموال وتغيير الملك أو العائلة، وهذه السراي موضوعة في الجهة الشرقية من بحيرة موريس على ربوة واسعة مربعة طولها مئتا متر وعرضها مئة وستون مترا، وكانت وجهتها المطلة على بحيرة موريس مصنوعة بالحجر الأبيض فإن دخلها إنسان ضل عن الطريق ولم يهتد للخروج منها لكثرة أماكنها، وأحجارها مجلوبة من وادي الحمامات، بدليل ما وجد على صخور الوادي المذكور من النقوش الدالة على أنه في السنة التاسعة من حكم الملك أمنمحعت الثالث توجه هذا الملك بنفسه إلى هذا الوادي لجلب الحجارة للعمارة الجاري العمل فيها بمدينة الفيوم، وصنع تمثال نفسه على شكل جالس ارتفاعه خمس أذرع، وهو المذكور آنفا. ويرى أيضا في وادى الحمامات نقوش أخرى تفيد أن هذا الملك أرسل هناك جماعة من المهندسين لمباشرة قطع ونحت الأحجار ولعمل التماثيل المطلوبة له، ووجد فيه أيضا نقوش من أعمال بعض رجال دولته يفهم منها أن لهذا الملك مآثر كثيرة، منها استخراج بعض المعادن من جزيرة جبل الطور وأخصها معدن الفيروزج، ومنها أنه قاتل الزنج، وفتح بلادا كثيرة. ا.ه.
وقال بهامش من هذا الكتاب:
نقل عن هيرودت الذي مات منذ 2200 سنة، قاس بركة موريس فوجد عمقها 88 مترا، ومحيط دائرتها 700 كيلو متر. وذكر إسترابون أن هذه البركة كانت تروي هذه الأراضي المجاورة لها مدة ستة شهور في كل سنة من طوبة إلى بئونة. وقال «وايت هاوس»: إنه يمكن إحياء هذه البركة بإلغاء قناطر اللاهون، فتجري مياه النيل مدة فيضانه في مضيق جبال اللاهون حتى تفيض على جميع وادي الفيوم فتعمه من جبل سدمنت إلى جبال بركة قارون، ومن طامية إلى قصر قارون، ثم تصب في بركة اكتشفها هو بنفسه بوادي ميه والريان منخفضة عن بحر يوسف بمئتين وخمسين قدما، وبذلك تتجدد البركة المذكورة التي كانت في قديم الزمان تغطي وادي الفيوم ووادي ميه والريان والأراضي المنخفضة في جهة الغرق، فأصبحت تلك الجهات أرضا زراعية بانحسار المياه عنها، ولكن لو غطتها المياه كما كانت من قبل بإصلاح بركة موريس، لأمكن استعواضها بأراض زراعية تتخلف من بركة قارون بمنع المياه عنها. وقد اكتشف أيضا وايت هاوس آثار مدن قديمة في الناحية الغربية من الغرق والشرقية من طامية والريان، يستنتج منها أن تلك الجهات كانت معمورة في العصر القديم. ا.ه.
نبذة من تاريخ البغدادي
هذا المؤرخ هو عبد اللطيف البغدادي السائح الشهير، حضر بمصر في أواخر القرن السادس من الهجرة، وشاهد بها في عامي 597 و598 هجرية من الأهوال الشديدة بسبب القحط الذي حصل من شح النيل في هذين العامين ما يشيب الأطفال، حيث كثر النهب والسلب حتى فرغت المؤن، ونفدت الحيوانات، ولم يجد الناس ما يأكلونه حتى أكلوا بعضهم، وفشا ذلك في سائر القطر المصري، وصارت الأم تأكل ابنها وابنتها، ولم يقدر الحاكم إذ ذاك على منع هذه الأهوال بسبب عدم وجود ما يكفي الناس لسد الرمق، ومات الناس جوعا في كثير من أنحاء القطر.
ولم تكن هذه الأمور مختصة بالفيوم، ولكننا أتينا بها لأنها دليل على أن الفيوم في ذلك العهد وقع في تلك الأحوال، وأكلت فيه اللحوم البشرية، فقد قال هذا المؤرخ في نبذة من كتابه المسمى «كتاب الإفادة والاعتبار» ما نصه:
وهذه البلية التي شرحناها وجدت في جميع بلاد مصر، ليس فيها بلد إلا وقد أكل فيه الناس أكلا ذريعا من أسوان وقوص والفيوم والمحلة وإسكندرية ودمياط وسائر النواحي. ا.ه.
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب:
وأما القتل والفتك في النواحي فكثير فاش في كل فج، ولا سيما طريقي الفيوم والإسكندرية، وقد كان بطريق الفيوم أناس في مراكب يرخصون الأجرة على الركاب، فإذا توسطوا بهم الطرق ذبحوهم، وتساهموا أسلابهم.
Unknown page