٢٩ - الإنسان:
أ- ولكن هوبس لا يعدل عن المادية، فما أن يتخذ الإحساس مبدأ حتى يحاول أن يرجع إليه أفعالنا العقلية، يقول: إن كل علم فهو آتٍ من الإحساس، ويعرف الإحساس بأنه حركة في ذرات الجسم الحاسّ صادرة عن حركة في الجسم المحسوس، تنتقل الحركة الخارجية إلى الدماغ ومنه إلى القلب بوساطة أعضاء الحواسّ والأعضاء، فتصادف مقاومة وصدى لأن الأعضاء الباطنة هي أيضًا في حركة متصلة. هذا الصدى بمثابة ميل إلى الخارج يجعلنا نقذف بموضوع الإحساس إلى الخارج. فهوبس يتابع العلم القديم في اعتبار القلب مركز الإحساس، وكذلك الوجدان أو الروح حركة؛ فاللذة مثلًا ما هي إلا حركة في القلب. ولكن ما تعليل الظاهرة الشعورية الناشئة مع الحركة الجسمية؟ إنها لمعجزة بالقياس إليها، وإن المذهب المادي لعاجز عن تعليلها، وهوبس يذهب إلى أن للأجسام خاصتين ليس غير، هما الامتداد والحركة، وإن سائر الكيفيات المحسوسة ذاتية، حتى الزمان والمكان فإنهما صورتان من نوع الصور التي يحدثها فينا الامتداد والحركة، وباستطاعتنا الاحتفاظ بهما مع افتراض زوال الأجسام جميعًا؛ وذاتية الكيفيات المحسوسة قضية لازمة من قوله: إن ما يحدث في العالم هو حركة فحسب، فكل ما يبدو في الشعور مغايرًا للحركة، يكون ذاتيًّا؛ ويؤيد هوبس هذه القضية بما هو معروف من خداع الحواس والأحلام واختلاف الإحساس باللون باختلاف الأشخاص والإحساس بالضوء عند ضرب العين أو إثارة العصب البصري، فكيف نفسر هذه الذاتية إذا لم تكن النفس جوهرًا مغايرًا للجسم، ولم يكن فعلها مغايرًا للحركة الجسمية؟
ب- وحركات الدماغ مرتبط بعضها ببعض بحيث إذا تكررت حركة لحقتها أخرى؛ لذا تتعاقب الصور بنفس ترتيب الإحساسات لتعاقب حركات الدماغ بهذا الترتيب. بيد أن هوبس يلاحظ أن مجرى الأفكار تابع ليس فقط لقانون اقتران الإحساسات في المكان والزمان، بل أيضًا لقانون الاهتمام أي: لتأثير الميل والعاطفة. وهذا هو السبب في أن ترتيب الصور يتعدل في الأحلام وفي خواطر اليقظة وفي الأفعال المروية، فإن إرادة الغاية تولد فكرة الوسيلة الكفيلة
1 / 53